جواب الشبهة: لقد استقصى شيخ الإسلام هذه الشبهة الواهية والقول الشاذ وفنَّده أحسن ما يكون، وأنا أوجز من كلامه ما تمسُّ الحاجة إليه بإذن الله، حيث قال رحمه الله برحمته الواسعة: «يجب أن يُعلم أن القول بأن كفر السَّابِّ في نفس الأمر إنَّما هو لاستحلاله السَّبَّ زلَّةٌ منكرة وهفوةٌ عظية، وإنَّما مَرَدُّ مثل هذه الشبهة والهفوة إلى مقولة الجهمية الإناث الَّذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو مجرَّد التصديق الَّذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتضِ عملاً في القلب ولا في الجوارح.
ومن المقرَّر المعلوم أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح كما هو مذهب الأئمة كلهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمَّة، وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنَّما الغرض التنيبه على ما يخصُّ هذه المسألة أي بيان فساد وبطلان تعليق كفر السَّابِّ على الاستحلال، وذلك من وجوه:
* أحدها: إن هذا القول قول شاذٌّ مأثور عن بعض المتكلمين ممن لا يُعدُّ قوله قولاً، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنَّما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحدٍ من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل في كفر السَّابِّ بالاستحلال، بل الفتوى على أن نفس السَّبِّ كفرٌ.
* الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السَّبَّ حلال، واعتقاد أن ما حرَّمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب، ولكن لا فرق في ذلك بين سبِّ النَّبيِّ وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي عُلم أن الله تعالى قد حرَّمها، فإن من فعل شيئاً من هذه المحرَّمات مستحلَّاً كفر، مع أنَّه لايجوز أن يُقال: مَن قذف مسلماً أو اغتابه كفر ثم يقول إنه يعني بذلك اذا استحلَّه، فتبيَّن أن فعل المحرَّم شيءٌ واستحلاله شيءٌ آخر، ولا تلازم بين الأمرين؛ فقد يفعل الحرام معتقداً تحريمه فلا يكفر، وقد يستحلُّه ولا يفعله فيكفر، وقد يكون نفس الفعل كفراً ولا يحتاج إلى النظر في استحلال فاعله له كما هو حال سبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
* الثالث: أن اعتقاد حِلِّ السَّبِّ كفرٌ سواء اقترن به وجود السَّبِّ أو لم يقترن، وعلى هذا لا أثر للسَّبِّ في التكفير وجوداً وعدماً وإنَّما المؤثِّر هو الاعتقاد وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من أن السَّبَّ بنفسه كفر.
* الرابع: يلزم من هذا القول الفاسد وهو زعم أن المكفِّر هو اعتقاد الحلِّ أن لا يكون في السَّبِّ نفسه ما يدلُّ على أن السَّابَّ مستحلٌّ فيجب أن لا يُكفَّر، لا سيَّما إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرام وإنَّما قلته غيظاً وسفهاً أو عبثاً أو لعباً، كما قال المنافقون: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [سورة التوبة - آية 65]، فإن قيل: لا يكونون كفَّاراً فهو خلاف نصِّ القرآن، وإن قيل يكونون كفَّاراً فهو مناقض لزعمهم عدم وجود أثر لنفس السَّبِّ إذا لم يجعل نفسُ السَّبِّ مكفراً وهذا باطل، فلزم أن يكون نفسُ السَّبِّ كفراً كما نصَّ القرآن الكريم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُم﴾ [سورة التوبة - آية 66], ولم يقل: قد كذبتم في قولكم إنَّما كنَّا نخوض ونلعب، فبيَّن أنَّهم كفروا بعد إيمانَّهم بنفس هذا الخوض واللعب، وهذا واضحٌ.
وإذا تبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتَّبعهم من الخَلَف أن السَّبَّ بنفسه كفر استحلَّه السَّابُّ أو لم يستحله، فالدليل على ذلك جميع ما تقدم من الدليل على كفر السَّابِّ من الآيات والأحاديث والآثار، فإنها أدلَّة بيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً، إذ لو كان الكفر المبيح للدم هو اعتقاد أن السَّبَّ حلال لم يجز تكفير السَّابِّ وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهوراً تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء، وهذا خلاف ما تقدَّم من الأدلة.
والحقيقة أن منشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم, أنَّهم رأوا أن الإيمان هو مجرَّد تصديق الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيما أخبر به دون الانقياد له، وظنوا أن اعتقاد صدقه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا ينافي السَّبَّ والشتم بالذات، وغاب عن هؤلاء أن السَّبَّ إهانة واستخفاف، وأن الانقياد للأمر إكرامٌ وإعزازٌ، ومُحالٌ أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، وهذا هو بعينه كفر إبليس؛ فإنَّه سمع أمر الله له فكان مصدقاً للخبر، ولكنه لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً.
وهذا موضعٌ زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف تخيَّل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره مِن أغلظ الكفر فيتحيَّرون، ولو أنَّهم هُدوا لما هدي اليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قولٌ وعمل، فيصدق القلب أخبار الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تصديقاً يوجب حالاً في القلب وينقاد لأمره ويستسلم، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين: التصديق بالخبر والانقياد للشرع، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد أنَّك نبيٌّ، ولم يتَّبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق.
ألا ترى أن مَن صدَّق الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمَّنت خبراً وأمراً، فإنَّه يحتاج إلى مقامٍ ثانٍ وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله؛ فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمَّن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: وأشهدُ أنَّ محمَّداً رسول الله، تضمَّنت تصديق الرسولِ فيما جاء به من عند الله وانقياده لأمره، فبمجموع هاتين الشهادتين يتمُّ الإقرار، ويلزم الأصل الآخر وهو الانقياد.
والشاهد هنا أن هذا مما يبيِّن أن الاستهزاء بالله ورسوله بالسَّبِّ والشتم ينافي الانقياد له والطاعة منافاةً ذاتية، ومن استخفَّ به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإن الانقياد إجلالٌ وإكرامٌ، والاستخفاف إهانةٌ وإذلالٌ، وهذان ضدَّان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعُلم أن الاستخفاف والاستهانة نفسها تنافي الإيمان منافاة الضدِّ للضدِّ».
* قلت: والحاصل أن محلَّ هذه الشبهة عند من اختلَّ مفهوم الإيمان لديه، وهذا يستدعي المسارعة إلى تصحيح هذا الخلل لأنَّه على حافة جرف خطير جداً، فالإيمان الَّذي هو تصديق الخبر والانقياد للشرع له آثار في الظاهر تحتِّم وجود بعض أنواع القول والفعل وهي التي بها ينعقد أصل الإيمان وتوجب بعض أنواع القول والفعل وهي التي يتحقَّق بها الإيمان وتحث على بعض أنواع القول والفعل وهي التي يَكْمُل بها الإيمان، وفي المقابل لا بدَّ أن يمتنع ظهور بعض أنواع القول والفعل وهو الَّذي يقدحُ في أصل الإيمان، ويمتنع ظهور أنواع أخرى من القول والفعل وهو المخل بالإيمان، وتحث على ترك أنواع من القول والفعل وهي التي تنافي كمال الإيمان، وأنت إذا نظرت إلى سبِّ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جزمت أنَّه من نوع القول والفعل الَّذي لا بدَّ أن يمتنع من انعقد أصل الإيمان في قلبه من أن يظهر على لسانه وجوارحه، وبالله التوفيق.
هذه بعض الشبهات التي رأيت من المناسب التعرُّض إليها، ولقد ذكرت في الجواب عليها ما تمسُّ الحاجة إلى معرفته، وأنصح من أراد الاستزادة بالعودة إلى الأصل أعني كتاب الصارم المسلول لتفصيل الجواب فيما لا يحتمل مقامنا هنا التفصيل فيه، والله تعالى أعلم.