احمد عثمان


لا شك في أننا لا نهتم اهتماما كافيا بتاريخ بلادنا، ولا نريد أن نعرف ما تركة الأجداد منقوشا على الجدران أو مدونا في المخطوطات. فعندما تم اكتشاف مكتبة كاملة في كهوف قمران بالضفة الغريبة للأردن، لم نسمح لأي من باحثينا بالاشتراك مع الجماعات الدولية في دراستها وسلمناها كاملة إلى الآخرين. والعذر الذي طرح لتبرير هذا التصرف الغريب أن هذه المخطوطات في معظمها مكتوبة إما بالعبرية أو بالآرامية، ولذلك فهي لا تخصنا. بينما الآرامية ما هي سوى اللغة السورية القديمة، والعبرية القديمة لم تكن سوى اللهجة الكنعانية الفلسطينية مكتوبة بحروف أرامية، وليست من إنتاج اليهود وإن كانوا هم الذين استمروا في استعمالها.

واليوم يمر نصف قرن على اكتشاف مكتبة أخرى سوف تغير كل ما كنا نعرفه من قبل عن تاريخ الجماعات المسيحية الأولي، ومع ذلك فليس هناك من يهتم بهذا الحدث، ولا من يعرف ما تحويه هذه المكتبة التي وجدت في أرضنا وتركها الأجداد مخبأة لنا. حتى نعثر عليها ونفهم رسالتهم.

ففي ديسمبر منذ خمسين عاما مضت، عثر الفلاحون المصريون - بالصدفة - على مجموعة من المجلدات القبطية، أصبحت منذ ذلك الحين شغلا شاغلا للمئات من الباحثين في جميع أنحاء العالم إلا نحن.

ومضت أعوام عدة بعد عثور ولدي السمان على مجلدات نجع حمادي، قبل أن يعلم رجال الآثار المصرية شيئا عنها. فلقد أخفى الفلاحون أمر المخطوطات تماما عن السلطات الحكومية بمجرد إدراكهم لقيمتها الأثرية، رغبة منهم في بيعها في السوق والحصول على مكاسب مالية مقابلها. وعندما طرحت المجلدات في سوق الأنتيكة بالقاهرة، سمع رجال مصلحة الآثار - التي كانت تابعة لوزارة المعارف آنذاك - بالموضوع فقاموا بشراء أول مجلد ظهر في السوق وحفظوه بالمتحف القبطي، إلا أنهم حتى ذلك الوقت لم يدركوا القيمة الحقيقية لهذه المجلدات، نظرا إلى عدم وجود خبراء متخصصين للتحقق من أصلها.

وسنحت الفرصة عندما حضر إلى مصر أحد علماء المصريات المتخصصين في الدراسات القبطية، فقد ذهب الفرنسي جين دوريس لزيارة المتحف القبطي، فانتهز مدير المتحف توجو مينا هذه الفرصة لإطلاعه على المجلد الذي بحوزته لفحصه. وازداد حماس مينا عندما أخبره العالم الفرنسي أن اكتشاف هذا النوع من المجلدات سوف يؤدي إلى تغيير كل ما هو معروف عن اصل الحركة المسيحية.

وأصر توجو مينا على أن تحصل سلطات الآثار التجار، على كل ما عثر عليه من مجلدات، وعدم السماح لأي منها بمغادرة البلاد، فقام بإبلاغ رؤسائه حتى وصل الخبر إلى وزير المعارف، الذي قرر شراء أي مجلد منها يتم العثور عليه لصالح المتحف القبطي.

ولما تعذر للوزير تدبير المبلغ الذي طلبه التجار، قام رجال الآثار بمصادرة ما وجدوه في حوزة البائعين، وقد وصل العدد في النهاية إلي 13 مجلدا تحتوى على 52 نصا.

وقام رجال الآثار بحفظ المجلدات التي في حوزتهم بالمتحف القبطي إلا أن التجار تمكنوا من تهريب جزء كبير من المجلد رقم 13 - الذي يتضمن خمسة نصوص - إلى خارج البلاد، وعرضوه للبيع في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما علم جايلز جمسبيل، أستاذ تاريخ الديانات بجامعة أوتريش الهولندية بأمر النصوص المعروضة للبيع، أقنع مؤسسة جوستاف يونج بمدينة زيوريخ السويسرية - وهى مؤسسة خيرية باسم عالم النفس الشهير الذي كان زميلا لسيجموند فرويد - بشراء الأجزاء المطروحة للبيع.

وعند إطلاعه على النصوص التي تم شراؤها، تبين ليكسبيل وجود أجزاء ناقصة، فسافر إلى القاهرة للبحث عنها. وبمجرد وصوله إلى القاهرة ذهب إلى المتحف القبطي وحصل على صور فوتوغرافية لبقية المجلدات الموجودة هناك، وعاد إلى الفندق محاولا فك رموز اللغة القبطية القديمة والتعرف على محتويات الصور. وكانت مفاجأة عندما وجد الباحث الهولندي بداية النص، وجاء فيها ما يلي: " هذه هي الكلمات السرية التي قالها يسوع الحي، ودونها ديديموس جوداس توماس".

و كان قد تم العثور قبل ذلك بنصف قرن- في مصر أيضا- على قصاصة من ورق البردى تحتوى على جزء من إنجيل توماس، مكتوب باللغة اليونانية، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها العثور على الكتاب كله. كما تأكد كيسبيل عند مراجعته لصور باقي المجلدات من أنها تحتوى على 52 نصا ترجع كلها إلى القرون الأولى للتاريخ الميلادي، من بينها أناجيل لم تكن معروفة من قبل، مثل إنجيل توماس- أوتحتمس في المصرية القديمة- وإنجيل فيليب وإنجيل الحق وإنجيل المصريين، إلى جانب بعض كتابات منسوبة للحواريين، مثل كتاب جيمس- يحمس في المصرية- و رؤيا بولس وخطاب بطرس إلى فيليب.

و ليس هناك خلاف بين الباحثين بشأن الوقت الذي تم فيه إخفاء هذه المجلدات، خلال النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد. ومما يؤكد هذا التاريخ أن الكتابات التي وجدت على أوراق البردى المستخدمة في تبطين الأغلفة الجلدية للمجلدات تنتمي إلى تلك الفترة. وهذه هي الفترة التي قامت خلالها كنيسة روما- على أثر تحول الإمبراطورية إلى الديانة الجديدة- بإحراق كل الكتابات التي تتضمن معلومات مخالفة لتعاليمها وهى الفترة التي تم فيها حرق مكتبة الإسكندرية- بما في ذلك معهد اللاهوت المسيحي- التي كانت قائمة في معبد السرابيوم.

و تقول المصادر القبطية إن القديس مرقس- الذي كتب الإنجيل الثاني من العهد الحديد- جاء إلى الإسكندرية عند منتصف القرن الميلادي الأول، وعاش به حتى مات عام 74 و دفن بالمدينة. وأصبحت الإسكندرية ومكتبتها المركز الرئيسي للفكر المسيحي خلال القرنين الأول والثاني للميلاد. وهناك العديد من المصادر التاريخية التي تشير إلى تحول مكتبة الإسكندرية في بداية العصر المسيحي- إلى جانب الدراسات اليونانية- إلى مركز لدراسة الفلسفة المسيحية واللاهوت في تلك الحقبة.

إلا أن تعاليم الكنيسة المصرية كانت لا تتفق مع تعاليم كنيسة روما في نقاط عدة، بل من الممكن القول أنه كان هناك صراع فكري بين روما والإسكندرية على زعامة العالم المسيحي، ولم يحسم هذا الصراع لصالح لروما إلا بسبب السيطرة السياسية الرومانية على معظم بلدان الحضارات القديمة.

إلا أن خلافا شديدا ثار بين الباحثين عند تحديد الوقت الذي كتبت فيه النسخ الأصلية للنصوص التي عثر عليها في مكتبة نجع حمادي.

استند بعضه إلى ما ذكره الأب إيرانيوس أسقف مدينة ليون في كتاب له عام 180، من أن الجماعات الهرطوقية- وهذا هو الاسم الذي كان الآباء الأوروبيون يطلقونه على الحركات التي خرجت من مصر- لديها العديد من الأناجيل التي كانت قد انتشرت في ذلك الوقت إلى معظم بلدان الإمبراطورية الرومانية، لتحديد وقت سابق على تاريخ الكتاب عام 180 بمدة كافية تسمح بظهور هذه الأناجيل وانتشارها. إلا أن فريقا أخر من رجال الدراسات الإنجيلية رفض قبول هذا التاريخ المبكر لكتابات نجع حمادي، فإذا كانت هذه كتابات هرطوقية ضالة- حسبما قررت الكنيسة الرومانية- فلابد أن تكون قد ظهرت بعد مدة كافية من ظهور الكتابات الأخرى التي تعتبرها روما ذات طابع أورثوذوكسى مستقيم. ولما كان الرأي السائد ألان هو أن أناجيل العهد الجديد ظهرت بين عام 75 ومنتصف القرن الميلادي الثاني، فإن هؤلاء الباحثين يذهبون إلى تحديد وقت لاحق- خلال القرن الميلادي الثالث- لظهور كتابات نجع حمادي القبطية. وحتى يتم تجد هذا التاريخ، فقد حددوا وقتا متأخرا كذلك لظهور الكتابة القبطية نفسها.

ذلك أن الفكرة السائدة لدى الباحثين الغربيين هي أنه- على رغم وصول الاعتقادات المسيحية إلي مصر خلال القرن الميلادي الأول- إلا أن المصريين أنفسهم لم يتحولوا إلى المسيحية قبل القرن الثالث. وهم مصممون على أن الطوائف المسيحية التي ظهرت في مصر خلال القرن الأول، كانت إما من اليهود المقيمين في مصر أو من اليونان. وعلى هذا فلا يمكن ظهور كتابات مسيحية ترجع إلى هذا التاريخ المبكر باللغة القبطية التي كانت هي كتابة عامة المصريين.

و لهذا- وبدون دليل موضوعي- قام الباحثون الغربيون بتحديد تاريخ ظهور الكتابة القبطية خلال القرن الميلادي الثالث، أي في نفس الوقت الذي يحددونه لاعتناق المصريين للديانة المسيحية. ولسوف نعود لمناقشة هذا الموضوع فيما بعد لمحاولة التعرف علي التاريخ الحقيقي لظهور الكتابة القبطية، إلا أننا هنا نكتفي بتوضيح المبررات التي استند إليها الباحثون لتحديد تاريخ متأخر لظهور الكتابات الأصلية لمجلدات نجع حمادي.

إلا أن هؤلاء الباحثين واجهوا مشكلة حقيقية عند محاولة تحديد تاريخ أهم النصوص التي عثر عليها في نجع حمادي، ألا وهو إنجيل توماس.

و يختلف هذا الإنجيل عن الأناجيل الأخرى المعروفة في أنه لا يحتوى على قصة أو رواية للأحداث، وإنما يتكون من 114 قولا منسوبة إلى يسوع المسيح. كما أنه من الصعب اعتبار هذا الإنجيل هرطوقيا إذ أنه يحتوى على عدد كبير من أقوال المسيح التي ظهرت في أناجيل العهد الجديد، إلى جانب أقوال لم تظهر بها.

كما أن أقوال يسوع هنا موجودة بشكل أولى ولا تدخل في سرد قصصي، مما يوحى بأنها أقدم من أي من الأناجيل الأخرى. ولهذا فبينما اقترح الباحث الهولندي كيسبيل عام 140 لظهور النص الأصلي لإنجيل توماس، فإن هيلموت كويستر- أستاذ التاريخ المسيحي بجامعة هارفارد وأهم باحث معاصر في هذا الموضوع- فاجأ الجميع بإرجاعه أصل إنجيل توماس إلي منتصف القرن الميلادي الأول، أي إلى تاريخ يسبق ظهور أي من كتابات العهد الحديد، بما في ذلك رسائل بولس وكتاب أعمال الرسل.

و عندما انتقلت إدارة المتحف القبطي إلي الدكتور باحور لبيب عام 1952، لم يكن متحمسا في الإسراع بنشر نصوص نجع حمادي، وإدراكا منه للشهرة الكبيرة التي سينالها أي باحث يقوم بنشر النصوص القبطية، قرر عدم السماح لأحد بالقيام بهذا العمل إلا بتصريح منه، مما تسبب في تعطيل نشر محتويات مكتبة نجع حمادي لسنوات أخرى.

إلا أن هيئة اليونسكو طالبت عام 1961 بنشر جميع المجلدات القبطية، واقترحت تشكيل لجنة عالمية تجتمع في القاهرة للإشراف على هذا العمل. وقررت اللجنة أن تكون الخطرة الأولى هي نشر النصوص هي تنظيم عملية تصويرها فوتوغرافيِا، حتى تصبح الصور في 1977. أي باحث يرغب في دراستها. وبالفعل بدأت عملية التصوير التي استغرقت بدورها سنوات أخرى، ونشرت صورة النصوص في عشرة مجلدات بين 1972 و 1977. ثم قام الأستاذ الأمريكي جيمس رربنسون- مدير معهد دراسات التاريخ المسيحي، بتكوين لجنة دولية لدراسة وترجمة نصوص مكتبة نجع حمادي القبطية، مما زاد اهتمام طلاب التاريخ المسيحي بتعلم اللغة القبطية، خصوصا في جامعة هارفارد الأمريكية.

و لم تكن مكتبة نجع حمادي هي أول ما عثر عليه في مصر من كتابات مسيحية قديمة، مدونة باللغة القبطية. فقبل نهاية القرن الثامن عشر اشترى سائح اسكتلندي مخطوطا قبطيا في مدينة الأقصر، كما وجد أحد هواة التحف مخطوطاً قبطيا لدى أحد بائعي الكتب القديمة في لندن، وتبين من ترجمة هذه الكتابات أنها تحتوي على حوار بين يسوع المسيح ومجموعة من تلاميذه، من بينهم بعض النساء. ثم عثر احد علماء المصريات الألمان- قبل نهاية القرن الماضي- على مخطوط، قبطي معروض في سوق الأنتيكات بالقاهرة، يتضمن ما يسمى بإنجيل مريم المجدلية، إلى جانب ف نصوص أخرى وجدت نسخ منها ضمن مكتبة نجع حمادي بعد ذلك، ثم عثر الأثريون خلال هذا القرن- في مواضع مختلفة من مصر- على الآلاف من البرديات التي تحتوى على كتابات مسيحية قديمة، وإن كان أغلبها مدونا باليونانية.

و مما لا شك فيه ان أقدم الكتابات المسيحية الموجودة الآن في العالم. بما في ذلك نسخ العهد الجديد، وجدت كلها في أرض مصر، وليس هناك نص واحد ينتمي إلى القرون الثلاثة الأولي للميلاد، تم العثور عليه خارج مصر.

تتفق أناجيل العهد الجديد الأربعة على أن يسوع مات على الصليب، بأمر من الحاكم الروماني لفلسطين " بونتياس بيلاطس" في ثلاثينات القرن الميلادي الأول. إلا أن هذا الحدث ليس فقط غائبا عن أناجيل نجع حمادي القبطية، بل يذكر بعضها صراحة هذه القصة ويسخر من قائليها. فلم يرد ذكر الوالي الروماني بيلاطس في الأناجيل القبطية التي لا تحتوى على قصة الصلب الروماني.

جاء في انجيل بطرس على لسان بطرس:

" رأيته يبد وكأنهم يمسكون به. و قلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقا من يأخذون؟.. أم أنهم يدقون.دمي و يدي شخص أخر ؟... قال لي المخلص:.....من يدخلون المسامير في يده و قدميه... هو البديل . فهم يضعون الذي بقى في شبهه العار. أنظر إليه. وأنظر إلي".

كما ورد في كتاب " سيت الأكبر " على لسان المسيح قوله:

" كان شخص آخر... هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا... كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان أخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه. وكنت أنا مبتهجا في العلا... أضحك لجهلهم".

وجاء في كتاب "أعمال يوحنا" الذي عثر عليه بنجع حمادي أيضا، على لسان المسيح قوله:

" لم يحدث لي أي شئ مما يقولون عنى".

و بحسب ما جاء في نص أخر في مكتبة نجع حمادي بعنوان "مقالة القيامة"، فإن المسيح مات كأي إنسان أخر، لكن روحه المقدسة لا يمكن لها أن تموت.

و مع أن الصليب هو رمز للمسيح في الأناجيل القبطية، إلا أنه ليس دلالة على الطريقة التي مات بها، وإنما هو يرمز إلى المسيح الحي- بروحه- التي لا تموت. وعلى ذلك فنحن نجد أن الصليب الذي وجد مرسوما على اغلفة مجلدات نجع حمادي ليس الصليب الروماني، وإنما هو "عنخ" مفتاح الحياة عند المصريين القدماء. ومن المؤكد أن الصليب المصري هو الذي ظل سائدا بين الجماعات المسيحية الأولى، ليس في مصر وحدها، وإنما في كل بلدان الإمبراطورية الرومانية.

و من يذهب إلى المتحف القبطي في القاهرة يجد أن مفتاح الحياة هو الصليب الوحيد الذي يرمز لقيامة المسيح خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد. ولم تستخدم الكنائس المسيحية الصليب الروماني إلا منذ النصف الثاني من القرن الرابع، عندها أصبحت كنيسة روما مسيطرة على الحركة المسيحية، ومع هذا فإن ذلك الصليب لم يصبح مقبولا لدى عامة المسيحيين إلا بعد أن أعلنت الكنيسة الرومانية عن العثور في مدينة القدس على ما قيل إنه الصليب الخشبي الذي مات عليه يسوع. ثم تطور الأمر بعد ذلك- خلال القرن الخامس- عندما وضعت الكنيسة الرومانية صور لجسد المسيح على الصليب الخشبي.

و أثار كتاب "تطور الأناجيل" الذي صدر أخيرا للسياسي البريطاني "اٍينوك باول" ضجة كبيرة في العام الماضي، عندما أعلن الباحث ان قصة صلب الرومان للمسيح لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل. إذ قام باول بإعادة ترجمة إنجيل متى من اللغة اليونانية. فتبين له أن هنالك أجزاء وردت مكررة في هذا الإنجيل مما يوحي بأنه أعيدت كتابتها في مرحلة تالية.

و أهم الوقائع المكررة ما ورد في الجزء الأخير من الإنجيل، الذي يتعلق بمحاكمة المسيح وصلبه. فقد لاحظ الكاتب أن هذه المحاكمة، بعد انتهائها أمام الكاهن الأكبر، تعود فتتكرر مرة ثانية- بالكلمات ذاتها- مع فارق واحد أن المحاكمة الثانية- بعكس المحاكمة الأولى- تنتهي بتنفيذ حكم الإعدام فيه عن طريق الصلب- واستنتج الباحث أن استخدام الألفاظ المستعملة نفسها في المحاكمة الأولى- لصياغة قصة المحاكمة الثانية، على رغم تغير الظروف، يوحي بالتكرار المتعمد وليس بالإشارة إلى حدث جديد، و أعرب المؤلف عن اعتقاده بأن النتيجة الطبيعية للمحاكمة الأصلية أمام مجلس الكهنة- في حالة الإدانة- لم تكن هي الصلب، وإنما الرجم بالحجارة.

و قال باول أن قصة صلب المسيح التي وردت في باقي الأناجيل، إنما جاءت عن طريق نقل الرواة اللاحقين لما وجدوه في إنجيل متى بعد أن كان التعديل أدخل عليه، ولم ترد هذه القصة في مصدر أخر. وفي رأيه أن إنجيل متى ليس فقط أول الأناجيل وإنما مصدرها الوحيد كذلك. والمشكلة التي يواجهها الباحثون هي ان الأناجيل الأربعة هي المصدر الوحيد لقصة صلب الرومان للسيد المسيح، ولو ثبت ان رواية الأناجيل هذه كانت نفسها إضافة لاحقة ولا تمثل حدثا تاريخيا، فإن هذا سوف يؤدى إلى ضرورة إعادة النظر في قبول ما ورد في قصة الأناجيل باعتباره لا يمثل الحقيقة التاريخية للأحداث.

و مع أننا نقترب الآن من نهاية الألف الثانية للتاريخ الميلادي، إلا أنه يكاد لا يكون لدينا أية معلومات تاريخية مؤكدة عن حياة السيد المسيح نفسه. وكان الاعتقاد السائد في ما مضى هو أن كتبة الأناجيل سجلوا أخبارا و وقائع كانوا هم أنفسهم شهودا عليها، إلا أنه تبين الآن عدم صحة هذا الاعتقاد. فلم تتم كتابة أول الأناجيل التي لدينا الآن إلا بعد مرور حوالي نصف قرن من الزمان على الأحداث التي تتكلم عنها، ثم أدخلت عليها تعديلات بعد ذلك خلال الأعوام العشرين التالية.

و القصة كما وردت في أناجيل العهد الجديد تقول إن يسوع ولد في بيت لحم في عهد الملك هيرودوس، الذي حكم فلسطين أربعين عاما انتهت بوفاته في العام الرابع السابق للتاريخ الميلادي. ثم هربت السيدة مريم بابنها إلى مصر عقب ولادته خوفا عليه من بطش الملك، الذي علم من النبوءات عن مكان و زمان مولد المسيح الذي سيطالب بعرش داوود.

و لم ترجع الأم بولدها من مصر إلى فلسطين إلا بعد موت هيرودوس، فذهبت بالطفل لتعيش في بلدة الناصرة في الجليل بشمال فلسطين. و تقول الرواية إنه بعد أن كبر الصبي وأصبح رجلا في الثلاثين من عمره، ذهب إلى وادي الأردن حيث التقى هناك بيوحنا المعمدان الذي عمده بالماء في وسط النهر.

و بعد هذا اعتكف يسوع في خلوة أربعين يوما صائما في الصحراء و دخل في صراع مع الشيطان الذي حاول إغرائه بمنحه ممالك العالم، وعاد المسيح- بعد أن فشل الشيطان في مهمته- إلى الجليل ليختار حوارييه الإثني عشر ويبدأ دعوته، مما أثار حقد الكهنة الصدوقيين اليهود والأحبار الفريسيين عليه.

و ازداد غضب الكهنة على يسوع- بحسب رواية الأناجيل- عندما ذهب إلى مدينة القدس قبل عيد الفصح، ودخل المعبد وصار يبشر فيه بدعوته. فتأمروا عليه وأرسلوا حرسا للقبض عليه- بمساعدة يهوذا الاسخريوطي الحواري الذي خانه- وكان يستريح مع تلاميذه عند جبل الزيتون بشمال المدينة.

و استمر التحقيق والمحاكمة أمام مجلس الكهنة برئاسة " قيافا" الكاهن الأكبر طوال الليل. وبعد انتهاء المحاكمة عند الصباح، أخذ الكهنة المسيح إلى بيلاطس الوالي الروماني على فلسطين، الذي أعاد محاكمته " فسأله الوالي قائلا أنت ملك اليود، فقال له يسوع أنت تقول، وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء، فقال بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك، فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جدا ". وحاول بيلاطس، بحسب ما جاء في الرواية، الإفراج عن عيسى بمناسبة عيد الفصح إذ لم يجد مبررا لعقابه، ولكن رؤساء الكهنة حرضوا الجموع على المطالبة بصلب المسيح فخضع الوالي لرغبتهم.

فأخذه الجند " ولما أتوا إلى موضع يقال له جلجاثة... أعطوه خلا ممزوج بمرارة ليشربها ولما صلبوه اقتسموا ثيابه... ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة... فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وسلم الروح".

و تنتهي القصة الإنجيلية بقيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث، واختفى جسده من المقبرة التي وضع بها، ثم ظهر لحوارييه وحثهم على نشر التعاليم المسيحية بين الأمم.

هذه هي القصة بحسب ما وردت في أناجيل العهد الجديد الأربعة، ولكن الأمر الغريب هو عدم وجود أية إشارة ولو بسيطة أو عابرة ـ عن هذه الأحداث في المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة، سواء في ذلك المصادر الرومانية أو اليونانية أو اليهودية. والمصدر الوحيد الذي جاء به ذكر يسوع المسيح كان كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس، ولكن تبين للباحثين منذ القرن السادس عشر أن هذه القصة- التي لا تتجاوز بضعة أسطر- إنما هي إضافة لاحقة إلى الكـتاب ولم تكن ضمن النسخ الأولى منه، فلا شك في أن بعض الناسخين المسيحيين أضافها في مرحلة متأخرة.

و لهذا فإن النتيجة التي توصل إليها باول أخيرا من أن النسخة الأصلية من إنجيل متى لم يكن بها ذكر لصلب المسيح، لم يعد من الممكن تجاهلها، وهو يرى أن انجيل متى لا يمثل سردا تاريخيا لحياة السيد المسيح، وإنما هو في حقيقته جدل لاهوتي قدم بطريقة الرمز والمجاز. ولهذا فإن تحديد وقت ميلاد المسيح بعصر الملك هيرودوس لا يعتبر تحديداً تاريخيا، لأن التحديد التاريخي- بحسب قوله- عادة ما يذكر اليوم والعام الذي تمت فيه الحادثة، ولا يكون علي إطلاقه. فتعبير " في أيام الملك هيرودوس" يبدو وكأنه بداية قصة وليس تاريخا لواقعة.

و المسالة في رأيه لا تتعلق بالعقيدة المسيحية نفسها وإنما بدعوى الشرعية التي ارتكزت عليها الكنيسة الرومانية في سلطتها.

ذلك أن بابا هذه الكنيسة- وهو يمثل الكاهن الأعلى- يستمد سلطته من أنه ممثل السيد المسيح على هذه الأرض. هذا التمثيل- كما تصر الكنيسة- جاء بناء على تفويض أخذته عن طريق المسيح شخصيا. فهم يقولون إن السيد المسيح بعد قيامته في اليوم الثالث أعطي تلميذه بطرس تفويضا ليخلفه في إمامة المسيحيين. و ان بطرس سافر قبل موته إلى روما، لينقل هذا التفويض شخصيا إلى كهنة الكنيسة هناك، حتى قيل إن مقر الفاتيكان بنى على ضريحه.

و لا يوجد أي دليل على سفر بطرس إلى روما، بل إن هناك ما يشير إلى أنه مات في السجن حوالي عام 40 ميلادية في القدس.

أما قصة الصليب فمن المؤكد أنها لم تصبح على ما هي عليه الآن إلا بعد فترة طويلة من بداية المسيحية، ولأن الدعوة المسيحية في جوهرها تقوم على الاعتقاد في خلود الروح والقيامة، وهى الاعتقادات التي كان اليهود يرفضونها، فقد لجأ المسيحيون الأوائل إلى استعمال مفتاح الحياة "عنخ" المصري القديم رمزا للمسيح الحي، وكان هذا المفتاح يرمز في العالم القديم إلى خلود الروح وقيامة الأموات، فكان استعماله يدل على أن المسيح- على رغم موته جسديا- لا يزال حيا في كيانه الروحي، خالدا لا يموت.

و نحن نجد أنه حتى القرن الرابع الميلادي لم تكن الرسوم المسيحية تعرف الصليب الروماني، وكانت تقدم مفتاح الحياة المصري على أنه رمز للسيد المسيح، وهذا يتضح من الرسومات الموجودة على أغلفة أناجيل نجع حمادي، والموجودة ألان بالمتحف القبطي في مدينة الفسطاط (حي مصر القديمة)، وكذلك للرسوم الموجودة في روما نفسها.

إلا أن الكنيسة الرومانية عمدت منذ القرن الرابع إلى استبدال مفتاح الحياة المصري بشكل الصليب الروماني، الذي يمثل العقوبة الرومانية، ثم تطور الأمر بعد ذلك فأصبحوا يضعون جسدا مصلوبا علي هذه الخشبة. وعلى ذلك، فلو تبين أن المسيح لم يعش في فترة الحكم الروماني وأن بطرس لم يأخذ منه التفويض بالسلطة، لم يعد هناك أساس لسلطة البابا كخليفة للمسيح.

و الذي جعل إينوك باول يحدد تاريخ تدوين النص الأول لإنجيل متى بعد فوات نصف قرن على أحداث القصة هو الإشارة التي وردت به إلى دمار مدينة القدس ومعبدها، والذي تم عام 70 ميلادية.

فقد جاء أن المسيح فسر هذه الأحداث على أنها كانت عقابا لليهود لإنكار رسالته.

" ويل لكم أيها الكتبة و الفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء و تزينون مدافن الصديقين، وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء. فإملاؤا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم. لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء و كتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم دم ذكى سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه. الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل. يا أورشليم يا قتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها... هو ذا بيتكم يترك خرابا، لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب".

و ذكر سقوط القدس هنا يشير إلى أن هذا النص لابد وأنه كتب بعد سقوط القدس، أي بعد عام 70، كما لم يصل إلى شكله النهائي الحالي - بعد الإضافات والتعديلات- إلا عند نهاية القرن الميلادي الأول.

كما يقول باول إن ذكر مدينة الناصرة غريب في ذاته، فليس هناك دليل على وجود مدينة بهذا ألاسم في أي من المصادر القديمة قبل القرن الميلادي الرابع. والمرجح أن الكلمة الأصلية كانت هي "النصارى" التي تشير إلى إتباع المسيح وليس إلى مدينته.