محمد الغزالي،
دعوى إقرار القرآن بأن النصارى على حق(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن القرآن أقر أن النصارى على حق، ويستدلون على هذا بقوله سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: 46)، حيث أمر بجدالهم وليس بمخالفتهم، وهذا يدل على الاتفاق مع شيء من الاختلاف في الرأي.
وجها إبطال الشبهة:
الحوار في الإسلام أصل ومبدأ، وله حدود وفيه محاذير.
لو كان أهل الكتاب على حق لما كان الجدال من أساسه.
التفصيل:
أولا. الحوار في الإسلام أصل ومبدأ، نظر وتطبيق:
الحوار وسيلة التفاهم الإنساني عامة، والعقائد السماوية ينبغي توصيلها لبني البشر عن طريق الحوار والمناقشة والمجادلة بالحسنى، وهذا هو الأصل في الدعوة إلى الإسلام.
تحت عنوان "الحوار كأصل ومبدأ في الإسلام" كتب د. سعود المولى يقول: "الحوار بالنسبة إلينا هو في صلب العقيدة.. الحوار تعبير عن قيمة عظيمة، بل القيمة الكبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية والفطرة، فالدين هو الفطرة: )فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم). فطرة الله هذه، دين الإنسانية هذا، تكرر ذكره في الكتب السماوية فحمل تعابير: المحبة والتوبة والندامة والنور والكلمة والبشارة والقلم والقلب واللسان والمغفرة والتسامح والشفقة والرأفة وملح الأرض والمصلحة والفرح والعناية والغفران والبر والتقوى والحكمة والرشد والكرامة والهداية واللطف والحسنة والصدقة وسواء السبيل والصراط المستقيم والعمل الصالح والعبادة والقيام، وكلها هي الحوار: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، والحوار هو الدين)ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125)، وقد وردت مادة "حوار" في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: )فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34)( (الكهف)، )قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37)( (الكهف)، )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1)( (المجادلة).
ولكن معنى "الحوار والمحاورة والتحاور" ورد في عشرات المواضع خصوصا في صيغ المجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الحوار الأول هو ذلك الذي دار بين الله - عز وجل - وملائكته في خلق آدم، فجاءت المحاورة بصيغة "قال، وقالوا": )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)( (البقرة).
ثم كان الحوار الثاني بين الله - عز وجل - وإبليس، وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صورا عدة لهذا الحوار الذي شكل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقهية.
ثم كان الحوار بين الله ورسله وأنبيائه: آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم.
وهي كلها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون الكتاب، وشكلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لاتنضب.
ويمكن الإجمال والقول بأن هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن الكريم تحمل في مضامينها وأبعادها المعاني الآتية:
إن الاختلاف سنة إلهية: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات( (المائدة: 48).
وهو رحمة للناس: )ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)( (البقرة).
وهو ركن المعرفة: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).
إن الفطرة هي قبول الآخر والحوار معه: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).
إن الحكم الأخير هو لله - عز وجل - وإليه المصير، في حين أن الحقيقة نسبية وهي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وليست في يده: )إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة). )إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117)( (الأنعام). )وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69)( (الحج). )لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى).
إن شروط الحوار هو الإسلام لرب العالمين، أي الوقوف على أرض واحدة: )وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24)( (سبأ)، )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).
ومن مستلزمات الحوار - الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة)، )والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)( (العصر).
الحوار إذن هو جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية، وهو طريق الرشد والرشاد في الدنيا والآخرة. ذلك بأن الله - عز وجل - غني عن الناس، ولو شاء لما خلقهم أصلا، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، ولكن حكمة الله في الخلق وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسنة لا تبديل لها.
إن سنة التدافع، أي الحوار الدائم بالتي هي أحسن، بالكلمة الطيبة: )أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)( (إبراهيم)، بالحسنى والموعظة والحكمة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجهاد النفس وهو الجهاد )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم( (34) (فصلت). )ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)( (البقرة). هذا الحوار هوالسنة الإلهية الكونية، ملح الأرض، هو حوار الحياة، حوار التدافع والمدافعة، المجادلة والحكمة، المشاركة والعيش، إنه حوار النضال المشترك من أجل الإنسان وقضاياه، من أجل الحرية والعدل والاستقلال والأمن والسلام والكرامة والخير للجميع. )يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6)( (الانشقاق).
والحوار مع الآخر شرط لبناء الذات؛ نظرا إلى ما تنطوي عليه الذات الإلهية من أنانية وفردية. فبناء الإنسان الحر والشخصية القرآنية، يمران عبر الحوار مع الآخر )كلا إن الإنسان ليطغى (6)( (العلق)، )ألا تطغوا في الميزان (8)( (الرحمن).
والحكم الأخير والحقيقة المطلقة هي الله - سبحانه وتعالى - هو الحجة وهو النبأ العظيم، وهو الهادي، وهو الذي يخبر الجميع يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم )لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69)( (الحج).
إن منطق الرسالات السماوية ودليل الفطرة الإنسانية وسنة الحياة والعصر - ترشدنا جميعا إلى اعتبار الأولوية والأهمية المطلقة لحوار الحياة وشهادة التاريخ والحاضر والمستقبل، أي لصوغ مشروع حضاري إنساني مشترك لخير البشرية جمعاء ولمجد الله على الأرض؛ لنكون قوامين بالقسط ولنكون شهداء على الناس؛ ولتكون منا أمة وسط تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر[1].
لقد بدأ الإسلام الحوار، وهذا أمر طبيعي، فهو الدين الذي أنزله الله بعد النصرانية، فواجه - حين بعث به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وضعا دينيا سائدا في العالم يتمثل في النصرانية، وقد تجلى هذا الحوار أول تجلياته في القرآن الكريم، وكان حوار الإسلام ذا اتجاهين وهما:
دعوة المسيحية إلى الإيمان به باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية.
دعوة المسيحية - إذا رفضت الإيمان به - إلى التعايش معه بعد الاعتراف به - إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق - ولكن هذا الحوار باتجاهيه بقي وحيد الجانب، فلم تستجب المسيحية كنظام ثقافي ومؤسسة عقدية، للاتجاه الأول في الحوار، كما أنها لم تستجب كسلطة سياسية للاتجاه الثاني في الحوار. لقد كان رد فعل المسيحية على نداءي الحوار اللذين وجههما الإسلام نحوها كمؤسسة ثقافية ونظام سياسي هو الحرب ثم علم الكلام، وشهد التاريخ - بعد توسع الإسلام السياسي - التعايش المسيحي الإسلامي داخل عالم الإسلام.
وهكذا ولد - نتيجة لرفض المسيحية لواء الحوار الإسلامي - ثلاثة أشكال من الحوار بين المسيحية والإسلام:
الأول: حوار السلام والحرب: وقد بدأ هذا منذ استشهد الرسول الذي بعث به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى حاكم بصرى في سوريا حيث فتكت به حامية بيزنطية.
الثاني: حوار اللاهوت وعلم الكلام: بدأ هذا في اللاهوت المسيحي بهجوم على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والدين الإسلامي، أهون ما يقال فيه أنه كان بعيدا تماما عن العلم والموضوعية وآداب الحوار، ونجد الانعكاسات الإسلامية الأولى لهذا الهجوم في القرآن الكريم[2].
الثالث: حوار التعايش بين أتباع الديانتين في مجتمع واحد، والتعاون المستمر بينهما على صعيد الثقافة والحياة اليومية: وهذا الشكل من الحوار كان وحيد الجانب مدة طويلة من الزمان، فحيث كان الإسلام ذا سلطان ونفوذ، كان يعيش النصارى وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، ولم يتح للمسلمين أن يمارسوا - في الماضي - حياة مستقرة آمنة حيث كان للمسيحية سلطان.
وقد كان الشكل الأول للحوار - حوار الحرب - يستهدف التغيير من الخارج، ووسيلته إلى ذلك الإخضاع بالقوة لسلطة سياسية تمثل الدين الآخر، أما الشكل الثاني من أشكال حوار اللاهوت وعلم الكلام، ووسيلته الإقناع العقلي - فقد كان يستهدف له كل واحدة من الديانتين تغيير الديانة الأخرى من الداخل، وذلك لتحقيق مكسبين وهما:
تعزيز مركز كل واحدة من الديانتين أمام أتباعها، وتوفير القناعات الكافية لديهم بأن عقيدتهم تمثل الحق المطلق.
اجتذاب أتباع الدين الآخر وحملهم بالإقناع العقلي على اعتناق الدين الجديد، والتخلي عن صيغة إيمانهم القديمة.
ولسنا الآن في صدد بيان مدى نجاح هذا الدين أو ذاك في الحوار اللاهوتي الكلامي، ولا في صدد بيان الأهداف التي تحققت أو لم تتحقق نتيجة لهذا اللون من الحوار.
وأما الشكل الثالث من أشكال الحوار - حوار التعايش، فقد وجد على أرض الإسلام حيث عاش المسيحيون، وأثروا في المجتمع الإسلامي وتأثروا به، وقد ساهم هذا العيش المشترك - بلا ريب - في إنماء الحضارة والثقافة وإغنائهما، وقد كان هذا اللون من الحوار في الماضي وحيد الجانب، فلم يكن ثمة مسلمون يعيشون بحرية وأمان، ويتمتعون بهوية دينية وثقافية مميزة داخل العالم المسيحي[3]، أما الآن فيوجد ذلك على نطاق ملموس، وإن كان هذا النوع من الحوار يعاني مصاعب ومتاعب التمييز والعنصرية بالنسبة للأقليات المسلمة في معظم المجتمعات الغربية.
هذا هو الأصل النظري والتأصيل الشرعي، ثم التطبيق التاريخي الواقعي العلمي لمبدأ الحوار من وجهة النظر الإسلامية، يشهد للمسلمين بالإخلاص والتجرد والتسامح - في الغالب، بينما يتصف فكر وسلوك الجانب الآخر بالاستحواذ والتعدي والتحيز والغرض.
فما الموقف من هذه المسألة - الحوار والمناقشة والجدال واختلاف وجهات النظر - في الوقت الراهن[4]؟
للحوار حدود وفيه محاذير:
للحوار أطر لا يتعداها، فليس الأمر مطلقا ولا المبدأ منسحبا على مختلف الموضوعات - خصوصا الدينية - فمن وجهة نظر المسلمين أن لديهم ثوابت وأصولا لا يتزحزحون عنها ولا يديرون حوارا حولها، إنما ساحة الحوار لديهم منحصرة فيما قد يكون وقع من لبس وسوء فهم لموضوعات وأحداث تاريخية واجتماعية عبر مسيرة احتكاك الإسلام والمسلمين الطويلة بأهل الكتاب؛ لإيضاح وجهة النظر الشرعية الصحيحة حيالها، لتتجلى للآخرين روح الإسلام وطبيعة المسلمين على الوجه الصحيح.
أما غير هذا فلا، فمحاولة الآخر التي تتعدى هذه الأطر وتهدف إلى الاستحواذ وفرض الهيمنة[5] الفكرية والثقافية والعقدية، فإن ذلك مرفوض، وهذا ما تحذر منه أقلام كثيرة لمفكرين مسلمين في اللحظة الراهنة؛ مستشهدين بما يعزز مخاوفهم من محاولات الآخر وتصرفاته ومنحى أهدافه خلال منتديات الحوار المتعددة، ورغم أن القرآن قد أمر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن؛ لأنهم أقرب لحمة من المشركين لكونهم - في الأصل السماوي الصحيح لدياناتهم - أهل عقائد توحيدية كالإسلام، إلا أن التجارب التاريخية والمحاولات العصرية لا تعطي الانطباع نفسه عن تفكير وسلوك الطرف الآخر، ولهذا فلا يزال الحذر قائما والتشكك متمكنا من نفسية الجانب الإسلامي تجاه نوايا الطرف المقابل.
في هذا الشأن يقول د. محمد نبيل غنايم، معبرا عن المخاوف المشار إليها سلفا: "والقرآن الكريم ملئ بمثل هذه الحوارات أو التدريب عليها، وعلى الموقف منها، والإجابة عما يطرحه المحاور من أسئلة من هذا القبيل أو غيره، وجميع النماذج - كما رأينا - تبين وتؤكد أنه لا تنازل عن الحق ولا تهاون في الدعوة إليه، ولاخوف من الطرف الآخر مهما كانت قوته، فالحق أقوى من الباطل، والموت في سبيل الحق أو الجوع في سبيله خير من الحياة والغنى والشبع مع الباطل والهوى، ونختتم هذه الفقرة بذلك المبدأ الإلهي الكريم في الحوار مع أهل الكتاب... وهو مبدأ لأي حوار مع غيرهم، قال سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)( (العنكبوت). وقد قال في غير أهل الكتاب: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: ١٢٥).
ومن هذه النصوص التي ذكرناها ومن أمثالها - وهي كثيرة في القرآن الكريم - يتبين لنا أن الحوار والنقاش بهدف الوصول إلى الحق ومعرفته، والاقتناع به أمر إسلامي بينه الله - عز وجل - في كتابه الكريم، وحكى لنا نماذج عديدة منه، بدأها بنفسه - عز وجل - مع ملائكته ومع الشيطان ومع المرسلين ومع المشركين ومع أهل الكتاب، كما تبين لنا أن للحوار حدودا لا يجوز أن يتعداها المحاور، فما دامت الإجابة واضحة وما دام الحق ظاهرا فلماذا الجدال؟ إما التسليم بالحق والإيمان به، وإما البقاء على الكفر وإغلاق باب الحوار.
وعلى أهل الحق أن يتمسكوا به ويدافعوا عنه ولا يحيدوا[6] عنه ولا يتهاونوا فيه مهما كانت المغريات ومهما كانت التهديدات، فالموت في سبيل الحق خير من اتباع الباطل، والجوع والفقر في سبيل الحق خير من الشبع والغنى مع الباطل، قال سبحانه وتعالى: )ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج). وإذا كان أهل الباطل متمسكين به فأهل الحق أولى بالتمسك بالحق" [7].
وتتصاعد مخاوف د. غنايم من طبيعة دوافع الحوار من جهة الطرف المقابل للمسلمين، فيقول تحت عنوان "الحوار عند الآخرين": "ونعني بهم أولئك الذين يدعون الآن ومنذ مدة في العصر الحديث إلى الحوار مع المسلمين، ويسمون ذلك حينا "حوار الأديان"، وحينا آخر "حوار الحضارات" وحينا آخر "التقريب" أو "التقارب بين الأديان"، وحينا تعاون الحضارات، إلى نحو ذلك من المسميات التي لا تخرج في جملتها عن الدعوة إلى التفاهم والتعاون، ولكن على ماذا؟ هذا هو المهم.
والذي يبدو من مضامين المؤتمرات والندوات والدعوات أن الغاية منها إضعاف الإسلام وتشويه صورته، وإثارة الشبهات حوله وحول محتواه ودعوته؛ لتبغيض الناس فيه وتهوين شأنه عند أهله والمتمسكين به والمقبلين عليه، والترويج للثقافة العلمانية التي تقوم على عزل الدين وإبعاده عن السياسة والمجتمع وشئون الحياة، ثم العمل على نشر القيم والمبادئ العامة التي تزيل الحدود الثقافية وتقضي على الشخصية، وتغرس قيم ومبادئ العولمة والنظام العالمي الجديد، وحينئذ لا يبقى للإسلام شأن، وإذا بقي كان ممسوخا ضعيفا لا يؤبه له[8].
ذلك أن اليهودية والمسيحية وغيرها تعتبر الإسلام هو العدو الأكبر لها، وقد حاولت إجهاضه قديما بالقوة العسكرية كما حدث في صدر الإسلام ثم في الحروب الصليبية ثم في الاستعمار الحديث، فلم تتمكن من ذلك، فبدأت أسلوبا جديدا هو الحوار لعله يحقق ذلك، وهو دعوة قد يبدو من ظاهرها وعنوانها الرغبة في التعاون والتفاهم واحترام الآخر وتقديره، إلا أن باطنها وحقيقتها وغايتها هو القضاء على الإسلام وتشويه مبادئه وصورته عند أهله وغيرهم، فلا يبقى على الساحة الدولية إلا العولمة والعلمانية"[9].
ويضرب الباحث مثالا تطبيقيا لهذه النوايا والتوجهات لدى الآخرين من إجراء الحوارات، بقوله: "وأخيرا نختتم تلك الأدلة على حوار الآخرين وأهدافهم ضد الإسلام والمسلمين ودعوة الكنيسة والتبشير بتلك الكلمات التي جاءت على لسان بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، وهو أكبر سلطة ومنزلة دينية عند المسيحيين في العالم على اختلاف طوائفهم، يقول في خطابه الموجه إلى أعضاء الجمعية العمومية للمجلس البابوي للحوار بين الأديان المنعقد في عام 1978م كلاما لا يدع مجالا للشك في أغراض الحوار ونوايا المحاورين: "كما أن الحوار بين الأديان هو مادة من مواد رسالة الكنيسة، فإن إعلان عمل الله الخلاصي في سيدنا يسوع المسيح هو أيضا مادة أخرى. وإنه من غير الجائز أن يختار الواحد ويتجاهل الآخر أو يطرح. إن الحوار بين الديانات يشكل جزءا من رسالة الكنيسة التبشيرية، فهو باعتباره طريقة ووسيلة لمعرفة وإغناء متبادلين، لا يتعارض مع الرسالة إلى الأمم، إنه بالعكس مرتبط بها بنوع خاص، وهو تعبير عنها. إن الخلاص يأتي من المسيح، وإن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل".
وفي خطاب يوحنا بولس الثاني للشباب الإسلامي في المدينة المغربية الدار البيضاء سنة 1985م قال: "فالاحترام والحوار يتطلبان إذن المعاملة بالمثل في جميع الميادين، ولا سيما في ميدان الحريات الأساسية، وبالأخص الحرية الدينية، وهما يعززان السلام والوئام بين الشعوب ويساعدان على الحل المشترك لمشاكل الرجال والنساء في هذه الأيام، وبالأخص لمشاكل الشبان والشابات. أيها الشبان والشابات، إنني على يقين من كونكم قادرين جميعا على هذا الحوار، فأنتم لا ترضون أن تتقيدوا بالأحكام المسبقة. إنكم مستعدون لبناء صرح حضارة قوامها المحبة، وبإمكانكم أن تعملوا على هدم الحواجز التي شيدتها كبرياء الناس في بعض الأحيان وضعفهم وخوفهم في أغلب الأحيان، وإنكم تريدون أن تحبوا الآخرين بصرف النظر عن أية حدود أمة أو عرق أو دين". وينهى بابا الفاتيكان خطابه ذلك في الشباب المسلم في الدولة المسلمة بدعاء وابتهال تؤمن عليه الجموع المحتشدة.
وهكذا تحول خطاب الاثنين إلى موعظة الأحد! وانقلب أسلوب الحوار المزعوم واحترام الآخر إلى قداس كنسي وتبشير بالنصرانية ودعوة للتمرد على الثوابت الإسلامية باسم "الحرية"، وإلى الفسق والفجور باسم "حل المشكلات"، وإلى التغاضي عن التباينات كعقيدة التثليث باسم "محبة المسيح والتسامح".
فأي حوار هذا الذي تحمله الكنيسة ورجالها وأكبر رءوسها إلى المسلمين؟! وأي خير يرتجى من وراء حوار يدعونا إلى النصرانية والخلاص على يد المسيح، أو غض النظر عن التباين في العقيدة؟! وأي حوار هذا الذي يدعو إلى حرية التدين بين المسلمين وكسر الحواجز القائمة والأحكام المسبقة؟! وأي حرية تلك التي تدعو إلى الانسلاخ من هويتنا وشخصيتنا وقيمنا الغالية؟!
ذلك هو الحوار الذي تريده الكنيسة وتدعو إليه ويفتتن به بعض المسلمين ويتحمسون له ويشاركون فيه!
وقد تبين لنا من تأصيل الحوار في الإسلام وتطبيقه أنه غير ذلك، فحوار الإسلام دعوة إلى الحق وهو التوحيد الخالص لله رب العالمين، وإلى الإسلام الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكملا لرسالات السابقين ومبينا لما أصاب الدعوة الواحدة من التحريف والباطل، وناسخا لبعض ما كان فيها من الأحكام، وعاما لكل الناس في مشارق الأرض ومغاربها، فمن آمن به فقد فاز، ومن كفر به خسر الدنيا والآخرة، وهو لا يحمل أحدا على الإسلام كرها وقسرا: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29)، ومن آمن باختياره لايجوز أن يرتد عن الإسلام وإلا أقيم عليه حد الردة، ومن أسلم عليه أن يقوم بأوامر الإسلام واجتناب نواهيه وإلا عوقب بعقوبات بعضها مقدر وهي (الحدود)، وبعضها غير مقدر وهو (التعزير)، ومن بقي على كفره ورفض الإسلام فإن كان من أهل الشرك حورب[10]، وإن كان من أهل الكتاب وأقام في بلاد المسلمين فله الذمة، وهي تفرض له حقوقا وتفرض عليه واجبات يجب احترامها وإلا نقض العهد.
والحرية في الإسلام لها ضوابط وقيود فليست مطلقة؛ حتى لا يصبح الأمر فوضى، وكذلك المساواة بين المسلم وغير المسلم أو بين الرجل والمرأة لها مجالات تتحقق فيها ومجالات أخرى لا توجد فيها ولا تجوز؛ لأن الشارع ضبطها وحدد ما تجوز فيه وما لا تجوز، وهكذا كل شيء مقرر ومنضبط في التشريع الإسلامي كما قال الله سبحانه وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» [11].
والإسلام بعد ذلك لا يمانع ولا يعارض في الحوار مع الآخرين في حدود ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125)، وقال: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47)( (العنكبوت).
فلنبتعد عن الثوابت ونتحاور في العلوم والصناعات والتكنولوجيا وشئون الزراعة والتجارة، في المباح، وتبادل التمثيل السياسي والزيارات مع المسالمين، وذلك كله داخل في قوله سبحانه وتعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، أما غير المسالمين أو من يوالون غير المسالمين فهم أهل حرب ولا يجوز التعامل ولا الحوار معهم إلا في حدود عقد الصلح والمعاهدة، كما قال سبحانه وتعالى: )إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2)( (الممتحنة).
وأما الحوار الذي يريده الآخرون وتتبناه الكنيسة الغربية الكاثوليكية فلا يتناسب مع الإسلام والمسلمين؛ لأنه يتعارض مع الثوابت الإسلامية، بل لا يترك المسلمين وثوابتهم وأحكامهم وتشريعهم، بل يدعوهم باسم الحرية والمحبة والحوار إلى ترك دينهم واتباع النصرانية والبشارة اليسوعية والخلاص المسيحي والتمرد على كل الثوابت والأحكام المسبقة والحواجز، وحل مشكلات الشباب والشابات والرجال والنساء.
إن الحوار عندهم جسر لنقل الثقافة الإنجيلية إلى الآخرين أو ما صار يعرف بالغرس الثقافي، إنه الحوار الذي يكثف النشاط التنصيري باستخدام كافة وسائل التنقية الحديثة، ومن أخطرها مشروع القمر الصناعي(نور ألفين) المخصص لبث برامج التنصير عبر القنوات الفضائية، لقد طالب البابا وأعلن ضرورة تنصير العالم وهو وأعوانه ماضون في ذلك بشتى الطرق ومنها الحوار" [12].
تلك هي أسس الحوار ومنطلقاته لدى المسلمين والآخرين، وهذه هي حدوده ومحظوراته لديهم، والأهم أن هذه هي مراميه وأهدافه عند الآخرين، بانت الحقيقة وانكشف المستور وظهر أن الغرض هو الاستيعاب والاستئثار والهيمنة وبسط النفوذ الديني وما يصاحبه، فليس لدى الآخر استعداد لتصحيح انحرافاته العقدية وتخبطاته الإيمانية، وإنما القصد هو إدخال المسلمين خاصة في زمرته حتى ولو كان على يقين بفساد عقيدته وأحقية عقيدة المسلمين وصلاحها.
ثانيا. لو كان أهل الكتاب على حق لما كان الجدال من أساسه:
إن قوله سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: 46) لا يدل على أن أهل الكتاب على الحق، ولو كانوا على الحق لأمر القرآن باتباعهم والاستجابة لهم وعدم مخالفتهم في دعوتهم، فهذا فهم خاطئ واستدلال لا وجه له، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه، إنما الذي تأمر به الآية، هو جدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن؛ لأنهم قد يكونون أقرب إلى الإسلام من غيرهم من المشركين، وأقرب فهما لطبيعته، وأعلم بحقيقته من غيرهم، لما عندهم من بقايا دياناتهم، وإن كتموا وحرفوا؛ ولأن القرآن يسعى إلى الارتقاء بأسلوب الحوار وعملية الجدال إلى أعلى مستوى - أمر بأن يكون الحوار بالتي هي أحسن معتمدا على الحجة والبرهان، ومتجنبا الإساءة والخداع والادعاء الباطل، وسائر أدوات ووسائل الجدل العقيم والنقد الهدام، فتلك دعوة قرآنية لإقامة الحق وإظهاره، والكشف عن الباطل وبيان ضعفه وتفاهته دون سب أو تجريح، أو إساءة.
الأمر بالجدال في الآية لا ينفي بطلان ما هم عليه، ولا يعني أن الاختلاف مجرد اختلاف في الرأي:
إن القرآن وقف من أهل الكتاب موقف الناقد البصير، والمعلم الذي يصوب لهم أخطاءهم، ويصحح لهم عقائدهم، ويبين لهم إثم كتمان الحق وجريمته، وشناعة تحريف الكلم عن مواضعه وقبحه، وخصوصا في الأمور الجوهرية عند أهل الكتاب، وهي الأمور التي تمس صلب العقيدة، إذ أظهر القرآن في صراحة ووضوح بطلان ما يعتقده أهل الكتاب من العقائد الفاسدة، وشدد النكير وأكد الرفض لكل عقائدهم الشركية الفاسدة في مواضع عديدة، منها قوله سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)( (التوبة).
وقوله سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)( (المائدة).
وقوله سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71)( (آل عمران). وقال عن النصارى: )ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)( (المائدة). وقال أيضا: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير( (المائدة: 15).
والآيات التي تنتقد أهل الكتاب في صلب عقائدهم وتشنع عليهم جرائمهم وضلالاتهم - سواء تحريفهم الكلم عن مواضعه أو كتمانهم الحق وإخفائهم إياه عن الناس - كثيرة كثرة ظاهرة، فالخلاف مع أهل الكتاب خلاف جوهري مبدئي، باتساع الفجوة بين عقائد المسلمين وعقائدهم الفاسدة التي حرفوها وغيروها.
فالبون[13] في التصورات الدينية بين الديانة الإسلامية - ودياناتهم بعد تحريفها - بون شاسع، فكيف يدعي هؤلاء المدعون أن القرآن يثبت أن النصارى على حق، وأن الخلاف معهم مجرد خلاف في الرأي؛ مستدلين بآية العنكبوت: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: ٤٦)؛ زاعمين أنه لم يأمر بقتالهم طالما أنه قد أمر بجدالهم بالتي هي أحسن، فلماذا يكون الجدال إذن ما داموا على حق؟ وهل تعني مجادلتهم بالتي هي أحسن عدم قتالهم، عندما يعتدون أو يخونون العهود والمواثيق؟ وبماذا يسوغ هؤلاء قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود في المدينة عندما خانوا العهود ونبذوا المواثيق، وإخراجهم فرقة تلو الأخرى ثم قتاله لهم في خيبر؟ وماذا يقول هؤلاء عندما يسمعون أو يقرءون الآيات التي تحض على قتال المشركين من أهل الكتاب وغيرهم إذا استلزم الأمر ذلك، ومنها قوله سبحانه وتعالى: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة).
وبهذا البيان بطل زعم هؤلاء المدعين أن القرآن يثبت كون النصارى على حق، فذلك زعم لا سند له ولا دليل عليه، بل هو وهم من بنات خيال من افتراه.
الخلاصة:
الحوار في الإسلام مبدأ أصيل يبتغي هداية الآخرين للحق، وعلى هذا الأصل قامت الدعوة الإسلامية. والحوار المطروح اليوم مع غير المسلمين يجب أن تحده حدود - فليس مجاله مطلقا - وتحفه محاذير لا يتخطاها، كالثوابت الاعتقادية والشرعية عند المسلمين، أما مرامي الحوار من جهة الآخرين، الهادفة إلى فتح الأبواب على مصراعيها وعدم التقيد بالضوابط والأحكام الشرعية، وإطلاق المساواة حيث لا محل للمساواة، فهذا أمر مرفوض مردود.
لو كان أهل الكتاب على حق لما أمر القرآن بجدالهم ومحاورتهم ابتداء، فكيف يجادل صاحب الحق والمجادل يعترف بذلك، إنما أمر القرآن بجدالهم بالتي هي أحسن ارتقاء بالحوار وبعدا به عن التعصب الأعمى؛ ولأنهم قد يكونون أقرب إلى الإسلام من غيرهم من المشركين لما عندهم من بقايا دياناتهم.
الأمر بالجدال بالتي هي أحسن لا ينفي بطلان ما عليه أهل الكتاب من عقائد فاسدة، ولا يعني أن الاختلاف معهم هو مجرد اختلاف في الرأي، بل إن القرآن شنع عليهم جرائمهم، من تحريفهم للعلم وكتمانهم للحق، ونقد فساد عقائدهم المحرفة نقدا لاذعا، وأمر بقتالهم إذا غدروا أو خانوا، وهذا ما حدث مع اليهود في المدينة وفي خيبر، فكيف يقال إن القرآن أثبت أنهم على حق بعد ذلك، وهو يرفض كل معتقداتهم وينكرها عليهم؟!





(*) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة. حضارة الإسلام، جوستاف جرونبياوم، ترجمة: عبد العزيز جاويد، وعبد الحميد العبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1994م. الإسلام بين الحقيقة والادعاء، مجموعة علماء، الشركة المتحدة للطباعة والنشر، القاهرة، 1996م. موقع الكلمة.
[1]. الحوار الإسلامي المسيحي ضرورة المغامرة، د. سعود المولى، دار المنهل، بيروت، ط1، 1996م، ص32: 36.
[2]. وقد ازداد هذا الهجوم الشرس على الإسلام ونبي الإسلام سوءا ووقاحة في الآونة الأخيرة، بدءا بسلسلة التطاولات السخيفة في وسائل الإعلام المختلفة، وانتهاء برأس الكنيسة الغربية والبابا، مرورا بكل أشكال العداء من قبل ما يسمى حديثا "التيار الصهيومسيحي" المتحكم في صنع القرار في الغرب الآن، وما ترتب عليه من اعتداء واحتلال لأقطار إسلامية؛ كالعراق وأفغانستان... إلخ.
[3]. الحوار الإسلامي المسيحي: ضرورة المغامرة، د. سعود المولى، دار المنهل، بيروت، ط1، 1996م، ص9: 11.
[4]. الراهن: الحالي.
[5]. الهيمنة: السيطرة.
[6]. يحيدوا: يميلوا.
[7]. قضايا معاصرة، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، القاهرة، ط1، 2003م، ص73، 74.
[8]. يؤبه: ينتبه.
[9]. قضايا معاصرة، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، القاهرة، ط1، 2003م، ص93.
[10]. وقع الخلاف بين الفقهاء في حكم المشركين والكفار كما يأتي:
ترى المالكية أخذ الجزية من جميع الكفار إذا رضوا بذلك، وإلا القتال حتى يدفعوا الجزية أو يسلموا.
ترى الحنفية أخذ الجزية من مشركي العجم دون العرب، ووافقهم أبو عبيد صاحب كتاب "الأموال".
ترى الشافعية والحنابلة أن الجزية لا تؤخذ منهم عربا أو عجما، فإما الإسلام وإلا السيف.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (4178)، واللفظ له.
[12]. قضايا معاصرة، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، القاهرة، ط1، 2003م، ص107: 109.