مضمون الشبهة:
ينكر مجموعة الملاحدة والطبائعيين والماديين وجود الله الخالق, وقالوا: ليس هناك إله معبود ولا رب خالق, وإنما وُجدت الأشياء هكذا بطبعها, وأن العالم وُجد بمحض الصدفة, وليست له غاية مقصودة, ولا حكمة منشودة من وجوده, ويتفقون على نفي الحكمة والقصد, ونفي الخالق. زاعمين أنه لا توجد أدلة علمية ومادية على وجود هذا الخالق, وأبسط دليل على ذلك عدم إمكانية رؤيته أو إدراكه، كما أن القول بخلق الوجود من عدم من الأمور غير المسلَّمة, وإنما العالم والمادة أزليا الوجود, غير حادثَيْن من عدم، وأخيرًا فإن المنهج التجريبي ووسائل العلم الحديث لا يستطيعان بحال من الأحوال إثبات وجود الخالق أو الدلالة عليه.
ويرمون من وراء ذلك إلى نفي وجود خالق حكيم لهذا الكون, ونفي القصد والحكمة من الخلق, وإبطال الشرائع السماوية, وإنكار الأديان والتحرر منها.
وجها إبطال الشبهة:
1) وجود الله الخالق عز وجل يُعد من البديهيات التي اتفق جميع العقلاء على ثبوتها, فهو أمر فُطرت النفس البريئة عليه, واهتدى العقل السليم بنور الوحي إليه, إن إنكار وجود الخالق هو الزعم الذي لا دليل يسانده, ولا حجة توافقه. وأما الأدلة على وجود الخالق فكثيرة ومتنوعة, ومنها كثير من الأدلة العلمية والمادية التي تثبت وجود الخالق يقينًا؛ إذ إن الكون كله دليل مادي واضح على وجود خالق حكيم مدبر, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, وأحسن كل شيء خلقه، فالكون بكل ما فيه آية ناطقة بوجود الخالق وإتقانه وحكمته, ومن هذه الأدلة المادية على وجود الخالق:
· أدلة علم الفلك والآفاق.
· أدلة علم الأنفس وخلق الإنسان.
· أدلة علم الأحياء.
· دليل حدوث المادة.
كل هذه آيات تثبت وجود الخالق وتدل عليه؛ إذ لا يمكن لهذا الخلق العجيب المحكم أن يكون نتاج العبث أو الصدفة, أو من صنع مادة عمياء, بل لا بد من إرادة حكيمة قادرة أنتجت هذا العالم على هذا النحو من الإتقان والدقة, إنه الله الخالق تبارك وتعالى, الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم.
2) تختلف مناهج البحث العلمي وفق موضوع البحث, وطبيعة القضية المدروسة, ولا يصح الوقوف بمعارف الإنسان وإدراكاته عند المنهج التجريبي, الذي يقف عند حواس الإنسان ولا يتعداها, فإن صح استخدام المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية التي تعتمد على التجربة والمشاهدة والحس, فلا يصح بحال أن يكون منهجًا في دراسة ما وراء الطبيعة, والعالم الغيبي, فهناك المعارف الحسية وكذلك المعارف العقلية المجردة التي ليس للحواس دور فيها, وإنما العقل وحده هو المدرك لها.
فالمنهج المتبع في التعرف على عالم الغيب, والتعرف على الخالق عز وجل هو ذلك المنهج الذي يربط بين معارف الإنسان الحسية والعقلية على السواء ليتعرف على المخلوقات والعالم جيدًا, ويربط العلاقات ببعضها والأسباب بمسبباتها, ويدرك الحكمة والقصد؛ حتى يتيقن من وجود الخالق الحكيم, ثم يهتدي لهذا الخالق بنور الوحي الذي أنزله الله عز وجل على أنبيائه ورسله, فيهدون الناس بالحق والبرهان للخالق الحكيم, ويتعرفون على ذاته وصفاته, ويعبدونه حق عبادته.
التفصيل:
أولاً. الأدلة المادية والعلمية على وجود الخالق عز وجل:
إن الموقف الإلحادي القائم على إنكار وجود الخالق المبدع عز وجل, وإطلاق ذلك العالم للصدفة أو الطبيعة- هو ذلك الأمر الذي يحتاج إلى دليل علمي واضح على إثباته وليس العكس, فظل راسخًا في نفوس العالمين من لدن آدم عليه السلام أن لهذا الكون خالقًا حكيمًا مدبرًا, يجري ناموس الخلق كله وفق إرادته وتقديره, وهو القادر على الإيجاد والإفناء, وتقدير ما يشاء، ولقد ظل هذا الأمر ثابتًا في حياة البشر, وهو الأصل في حياتهم؛ إنه الإيمان بوجود خالق لهذا الكون.
إن التدين والإيمان بالله الخالق أمر فطري في طبيعة البشر, والإحساس بأن هناك قوة عليا تسيطر على الكون, وتهيمن عليه إنما هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان, وقد ملأ هذا الشعور نفس الإنسان منذ أن وُجد على ظهر هذه الأرض, فحينًا تخيل أن هذه القوة كامنة في صورة الشمس التي تنعم على الوجود بالحياة والدفء فعبد الشمس واتخذها له إلهًا, وأحيانًا أخرى تخيل هذه الصورة في النار التي تطغى فلا يقف في سبيلها كائن من كان, فعبد النار واتخذها إلـهًا, ومرة ثالثة تخيل هذه القوة في الثعبان, والبقرة, والأصنام, فعبدها على مر الدهور واتخذها إلـهًا.
والنتيجة الأخيرة لكل هذا على تتابع الأيام ومرور الزمن هي أن الإنسان كان يحس دائمًا بعجزه, وأن هناك قوة ما تسيطر عليه, وتقدر له أموره, بيد أنه كان قد شطح في تصوير حقيقة هذه القوة فيزيغ عن سواء السبيل وينحرف عن طريق الهدى, حتى يرسل الله رسولاً يأخذ بيده إلى جادة الطريق ومنبع النور ومالك الملك([i]).
أما الموقف الإلحادي على مر العصور فظل موقفًا شاذًّا لا قياس عليه, قالت به قلة في كل مجتمع من شُذّاذ العقول, وهم الصوت الشاذ في الحضارة الإنسانية على امتداد تاريخها, لندرتهم وقلة عددهم؛ ولذلك فإن تاريخ الحضارات في كل أمة يحتفظ بأسماء هؤلاء لقلتهم, فيذكر اسمه ويصفه بأنه دهري أو طبيعي أو وثني, أما المتألهون من المفكرين فلا يدخلون تحت الحصر؛ لأنهم الجمهور الأعظم في كل أمة.
ومن اللافت للنظر أيضًا أننا لم نجد في تاريخ الرسل من دعا قومه إلى الإيمان بوجود الخالق, وإنما كانت دعوة جميع الرسل هي إخلاص العبادة لله وحده, ذلك أن منكري وجود الخالق كانوا قلة لا أثر لهم, ومن هنا لم يعبأ بهم التاريخ, وإنما كانت قضية الرسل الأولى: رفع الشرك في العبودية بحيث لا يُعبد إلا الله وحده, واكتفى القرآن الكريم في رده على منكري الخالق بعبارات موجزة لكنها جامعة, فقال لهم: )هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11)((لقمان)، وقوله: )أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون(36)((الطور)([ii]).
ظل الأمر على هذا النحو حتى طل العصر الحديث بفكره المادي, والتطور العلمي, وابتكر الإنسان المنهج التجريبي والآلة البحثية المتقدمة, وارتبط تفكير الإنسان بالمحسوسات والحقائق المشاهدة المجربة, ووقف العقل البشري عند حدود المادة ولم يجاوزها, ليجعلها مخلوقة في ذاتها دون تدخل, أو موجودة بمحض الصدفة دون صانع, وأن العالم أزلي, بم يخلق من عدم, ولم يوجده أحد على نحو قيامه, فلا خالق حكيم, ولا حكمة من الخالق, وما دام أن هذا الخالق لا ندركه بالحواس أو بالتجربة فلا وجود له, وهنا أخذ الفكر الإلحادي في الانتشار وسيطر على عقول البشر, لدرجة أنه أصبح الموقف الثابت الذي لا يبرهن عليه, فصار الإلحاد من الناحية العلمية والعقلية هو الموقف الطبيعي الذي لا يحتاج إلى دليل ولا برهان, وصار المؤمن الموحد هو المطالب بمثل هذا الدليل.
والحقيقة أن الأدلة على وجود الخالق كثيرة ومتنوعة, وتدل عليه دلالة واضحة, وسنركز الحديث هنا على الأدلة العلمية والمادية التي تثبت وجود الخالق؛ نظرًا لأن شبهة الملاحدة قائمة على هذا الدليل, وإنكار إثباته لوجود خالق حكيم مدبر, ونرد على شبهتهم من وجود الخلق في ذاته أو بالصدفة.
إن الكون كله من حولنا بما فيه من مخلوقات ودواب وأحياء ليدل بوضوح على الخالق الحكيم المبدع, وإن التعرف على هذا الكون وما فيه من إبداع وإحكام ليهدي إلى الإقرار بوجود الخالق وقدرته العظيمة, بل إن مجرد نظرة الإنسان إلى نفسه تكفي لكي يدرك وجود الله تعالى.
"إن أكبر دليل على وجود الإله هو مخلوقه, هذا الذي نجده أمامنا, وأوثق ما علمنا من حقائق الطبيعة يدعونا إلى الإيمان بأنه لا ريب أن لهذه الدنيا إلـهًا واحدًا، ونحن لا نستطيع أن نفهم أنفسنا- بل الكون كله- أو نفسرها مجردين من الإيمان بوجود الإله.
إن وجود الكون, والنظام العجيب الذي اشتمل عليه, وأسراره الدقيقة, لا يمكن تفسير ذلك كله إلا بأنه قد خلقته قوة، وأن هذه القوة عقل لا حدود له, وأنها ليست بقوة عمياء"([iii]).
1. أدلة علم الفلك والآفاق على وجود الخالق:
يتعلق علم الفلك بدراسة الأجرام السماوية, والمجموعات الشمسية والأفلاك والمجرات, وهو الفضاء من كواكب ونجوم وظواهر جوية, ومؤثرات ذلك كله على عالمنا الصغير الذي يعيش فيه, ويستخدم الفلكيون في سبيل ذلك عددًا من الأجهزة الدقيقة والمناظير الضخمة, وهم يطلعون في دراساتهم على أعاجيب الخلق الفسيح، وهناك العديد من الأشياء التي لا يرونها ومع ذلك يجزمون بوجودها؛ ولذلك فهم أقرب الناس إلى الإيمان بالخالق.
الكشوف الفلكية:
يدلنا علم الفلك على أن عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها, منها ما هو أكبر بقليل من الأرض, ولكن أكثرها كبير جدًّا, حتى يمكن أن نضع في واحد منها ملايين النجوم, في مثل حجم الأرض التي نعيش عليها, ولسوف يبقى فيه مع ذلك مكان خال!
إن كوننا هذا فسيح جدًّا، ولكي نفهمه نتصور طائئئرة خيالية تسير بسرعة 186,000 ميلاً في الثانية الواحدة, وأن هذه الطائرة الخيالية تطوف بنا حول الكون الموجود الآن، إن هذه الرحلة الخيالية سوف تستغرق 1,000,000,000 سنة, يضاف إلى ذلك أن هذا الكون ليس بمتجمد, وإنما هو يتسع كل لحظة, حتى إنه بعد 1,300,000,000 سنة تصير هذه المسافات الكونية ضعفين! وهكذا لن تستطيع هذه الطائرة الخارقة في سرعتها الخيالية أن تكمل دورانها حول هذا الكون أبدًا, وإنما سوف تظل تواصل رحلتها في نطاق هذا التوسع الدائم في الكون.
عندما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم, ولكن هذا العدد يتضاعف إلى أكثر من 2,000,000 من النجوم حين نستعمل تلسكوبًا عاديًّا، وأقوى تلسكوب في العالم هو الذي يوجد في مرصد ماؤنت بالومار في الولايات المتحدة الأمريكية, ويستطيع أن يشاهد بلايين من النجوم.
إن الفضاء الكوني فسيح جدًّا, تتحرك فيه كواكب لا حصر لها, بسرعة خارقة, بعضها يواصل رحلته وحده, ومنها أزواج تسير مثنى مثنى, ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات, ولو أنك لاحظت ضوء الشمس الذي يدخل غرفتك من الشباك, فترى أن هناك ذرات كثيرة من الغبار تتحرك وتسير في الهواء, فلو استطعت أن تتخيل هذا في شكل أعظم لأمكنك أن تحظى من الفهم بشيء عن السيارات والكواكب في الكون, مع الفرق الهائل المتمثل في أن ذرات الغبار تتحرك, ويتصادم بعضها مع بعض, ولكن الكواكب مع كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد عظيم يفصله عن الكواكب الأخرى، ومثلها مثل بواخر عديدة تمشي على أعالي البحار متباعدة, حتى إن إحداها لا تعرف شيئًا عن الأخرى, إن هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم, تُسمى "مجاميع النجوم" وكلها تتحرك دائمًا.
وأقرب حركة منا هي حركة القمر التي تبعد عنا 240,000 ميلاً, وهو يدور حول الأرض, ويكمل دورته في مدة تسعة وعشرين يومًا ونصف يوم، وكذلك تبعد أرضنا هذه عن الشمس 93,000,000 ميلاً, وهي تدور في محورها بسرعة ألف ميل في الساعة, في دائرة 190,000,000 ميلاً, وتستكمل هذه الدائرة مرة واحدة في سنة كاملة, وكذلك توجد تسعة كواكب مع الأرض, وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة, وأبعد هذه الكواكب السيارة بلوتو الذي يدور في دائرة 7,500,000,000 ميلاً حول الشمس.
وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرًا أخرى, وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفًا من النجيمات، وآلاف من النجوم ذوات الأذناب، وشهب لا حصر لها، وكلها تدور, وفي وسطها ذلك السيار العملاق الذي نسميه "الشمس", وقطرها 865,000 ميلاً، وهي أكبر من الأرض 1,200,000 مرة !
ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة, أو واقفة في مكان ما, وإنما هي بدورها, مع كل هذه السيارات والنجيمات, وتدور في هذا النظام الرائع, بسرعة 600,000 ميلاً في الساعة...
وهناك آلاف من الأنظمة, غير هذا النظام الشمسي, يتكون منها ذلكم النظام الذي نسميه "مجاميع النجوم", أو المجرات, وكأنها جميعًا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة, كما يدور الخذروف الذي يلعب به الأطفال، ومجرات النجوم هذه تتحرك بدورها أيضًا, والمجرة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور على محورها بحيث تكمل دورة واحدة في 200,000,000 سنة ضوئية.
ويقدر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمس مئة مليون من مجاميع النجوم؛ مضروبًا هذا العدد في 500,000,000,000,000 من الملايين, وفي كل مجموعة منها يوجد مئة مليار من النجوم, أو أكثر أو أقل, ويقدرون أن أقرب مجموعة من النجوم, وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة تضم حيـزًا مداه مئة ألف سنة ضوئية، ونحن- سكان الأرض- نبعد عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين ألف سنة ضوئية, وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجموعة, وقطر هذه المجموعة الكبيرة- ذات السبع عشرة- مليونان من السنين الضوئية.
ومع هذا الدوران تجري حركة أخرى, وهي أن هذا الكون يتسع من كل جوانبه, كالبالون المتخذ من المطاط, حين ينفخ فيه الأطفال, وشمسنا هذه- وهي تدور حول نفسها- تدور بنا أيضًا على الحاشية الخارجية للمجرة, وهي تتباعد عن هذه الحاشية الخارجية بمقدار اثني عشر ميلاً, كل ثانية, كما تتبعها في هذه العملية جميع النجوم الداخلة في النظام الشمسي, وهكذا جميع السيارات تسير إلى جانب أو آخر, مع دورانها الخاص طبقًا لنظامها, فمنها ما يسير بسرعة ثمانية أميال في الثانية, ومنها ما يسير بسرعة ثلاثة وثلاثين ميلاً في الثانية, ومنها ما يسير بسرعة أربعة وثمانين ميلاً في الثانية، وجميع النجوم- على هذا النحو- تبتعد في كل ثانية, بسرعة فائقة عن مكانها، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقًا لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض, ولا يحدث اختلاف في سرعتها.
إن حركة الأرض حول الشمس منضبطة تمام الانضباط؛ بحيث لا يمكن أن يحدث أدنى تغير في سرعة دورانها, حتى بعد مرور قرن من الزمان, وهذا القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط, مع تفاوت يسير جدًّا, يتكرر بعد كل ثمانية عشر عامًا ونصف عام, بدقة فائقة, وتلك هي حال جميع الأجرام السماوية, ويرى علماء الفلك أن مجرات النجوم يتداخل بعضها في بعض, فتدخل مجرة تشتمل على بلايين من السيارات المتحركة في مجرة أخرى مثلها (وتتحرك سياراتها هي الأخرى), ثم تخرج منها بسياراتها جميعًا, دون أن يحدث أي تصادم بين سيارات المجرتين.
إن العقل حين ينظر إلى هذا النظام العجيب, والتنظيم الدقيق الغريب لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون هذا كله قائمًا بنفسه, بل إن هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم, وتهيمن عليه([iv]).
لقد سأل الناس يومًا الفلكي الشهير العلامة نيوتن أن يأتيهم بدليل على وجود الله يكون في درجة المحسوسات, فقال لهم: لا تشكوا في الخالق؛ فإنه مما لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود؛ لأن ضرورة عمياء متجانسة في كل زمان وفي كل مكان لا يُتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات, ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها مع تغيرات الأزمنة والأمكنة, بل إن كل هذا لا يُعقل أن يصدر إلا من كائن أعلى له حكمة وإرادة...
ومن المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة؛ لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس, فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس, أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماسي لمداراتها...
ومن الجلي الواضح أنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجِّه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في جهة واحدة, وعلى مستوى واحد دون حدوث أي تغيير يُذكر, فالنظر لهذا الترتيب يدل على وجود حكمة سيطرت عليه، ثم إنه لا يوجد سبب طبيعي استطاع أن يعطي هذه الكواكب وتوابعها هذه الدرجات من السرعة المتناسبة تناسبًا دقيقًا مع مسافتها بالنسبة للشمس, ولمراكز الحركة, تلك الدرجات الضرورية لأن تتحرك هذه الأجرام على مدارات ذات مركز واحد مشترك بين جميعها, فلأجل تكوين هذا النظام مع جميع حركاته يجب وجود سبب عرف هذه المواد وقارن بين كمية المادة الموجودة في الأجرام السماوية المختلفة, وأدرك ما يجب أن يصدر منها من القوة الجاذبة, وقدر المسافات المختلفة بين الكواكب والشمس وبين توابعها, وماتورن- كوكب زحل- وجوبتير- كوكب المشترى- والأرض, وقدر السرعة التي يمكن أن تدور بها هذه الكواكب وتوابعها حول أجسام تصلح أن تكون مراكز لها.
إذًا فمقارنة هذه الأشياء والتوفيق بينها وجعلها نظامًا يشمل كل هذه الاختلافات بين أجزائه, كل هذا يشهد بوجوب وجود سبب لا أعمى ولا حادث بالاتفاق, ولكن على علم راسخ بعلم الميكانيكا والهندسة.
ثم قال: "ليس هذا كل ما في المسألة؛ فإن الله ضروري أيضًا، سواء لإدارة هذه الأجرام على بعضها, وهو الأمر الذي لا يمكن أن ينتج من مجرد قوة الجاذبية أو لتحديد وجهة هذه الدورات لتتفق مع دورات الكواكب, كما يرى ذلك في الشمس والكواكب وتوابعها, بينما ذوات الأذناب تدور في كل وجهة على السواء".
ثم قال: "وغير هذا؛ ففي تكون الأجرام السماوية كيف أن الذرات المبعثرة استطاعت أن تنقسم إلى قسمين, القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم, والقسم المعتم تجمع في جهة أخرى لتكوين الأجرام المعتمة كالكواكب وتوابعها، كل هذا لا يُعقل حصوله إلا بفعل عقل لا حد له".
ثم قال: "كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة, ولأي المقاصد وُضعت أجزاؤها المختلفة؟ هل يُعقل أن تُصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه, والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت؟ كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدد بإرادتها؟ ومن أين جاء هذا الإلهام الفطري في نفوس الحيوانات"؟ إلى أن قال: "وهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود إله منزه عن الجسمانية حي حكيم, موجود في كل مكان، يرى حقيقة كل شيء في ذاته ويدركه أكمل إدراك"([v]).
"هذا عالم من أساطين علماء الفلك وكبار علماء الطبيعة, وصاحب قانون "الجاذبية العامة"، يشهد عن يقين وبكل ارتياح بوجود الخالق جل شأنه, الذي أبدع الكون ونظَّمه بقدرته وحكمته، فهو يقرر ذلك بعد دراسات مستفيضة وتأمل متبصر ونظر ثاقب ويقين لا يقبل الشك, فهو مع علمه بأن هناك قوة جذب بين الكواكب وبين الشمس, كذلك بين أجزاء الكون كله, إلا أنه يقرر أن هذه القوة الجاذبة لا تصنع شيئًا ما لم تسيِّرها يد إلهية, وهو يصف الخالق بأوصاف متقاربة مع الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها نفسه"([vi]).
هكذا يوقفنا عالم الأفلاك على صانع حكيم, خلق هذا الكون الهائل المتسع بدقة وإتقان؛ بحيث لا يخرم هذا النظام الدقيق ولا يخرج عنه, فهو نظام دقيق محكم, جاء نتاجًا عن خالق حكيم مبدع, ويكفي هنا أن نقف على كوكب الأرض, وما به من توازن محكم, وخلق دقيق.
التوازن المدهش في الأرض:
الأرض أهم عالم عرفناه؛ إذ توجد فيها أحوال لا توجد في شيء من هذا الكون الواسع, وهي في ضخامتها- كما تبدو لنا- لا تساوي ذرة من هذا الكون العظيم, ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر, مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها, فلو أنها كانت في حجم القمر مثلاً؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلاً لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية؛ ونتيجة لذلك لا يمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها, كما هي الحال في القمر, الذي لا يوجد فيه ماء ولا يحوطه غلاف هوائي, لضعف قوة الجاذبية فيه, وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلاً حتى يتجمد كل ما فيها, واشتداد الحرارة نهارًا حتى يحترق كل ما عليها.
وكذلك يترتب على نقص حجم الأرض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارًا كبيرًا من الماء، وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض؛ ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب "عجلة التوازن العظيمة" (GreatBalanceWheel)، وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى، ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها, ثم تنخفض إلى أدنى درجاتها, على ما سبق ذكره.
وعلى العكس من ذلك, إذا كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها الحالية؛ وحينئذ ينكمش غلافها الجوي- الذي هو على بعد خمس مئة ميل- إلى ما دون ذلك، وسيترتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلاً إلى ثلاثين من الضغط الجوي, وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.
ولو أن الأرض تضاعف حجمها, فصارت مثل حجم الشمس مثلاً, لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مئة وخمسين مرة, ولاقترب غلافها الهوائي, حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط, بدلاً من خمس مئة ميل, ولارتفع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة؛ وذلك يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية، وهو من الناحية النظرية يعني أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلاً واحدًا- تحت الكثافة الهوائية الحالية- خمس مئة رطل، كما يهبط حجم الإنسان حتى يصير في حجم فأر كبير, ولاستحال وجود العقل في الإنسان؛ لأنه لا بد للعقل الإنساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم, ولا يوجد هذا النظام إلا إذا كان حجم الجسم بقدر معين.
نحن قائمون على الأرض ظاهرًا, ولكن الأصح أن نقول: نحن ملقون على رءوسنا, ولتوضيح ذلك نقول: إن الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الإنسان, فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة, أن سكان أمريكا سيكونون تحت سكان أهالي الهند, وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.
فأرضنا هذه ليست بثابتة, وإنما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة, وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وُضعت على محيط عجلة تدور بسرعة, يوشك أن تقذف بها في الفضاء, ولكن الأرض لا تقذفنا؛ بل نحن مستقرون عليها, فكيف تمسكنا وهي تدور بهذه السرعة؟!
إن في الأرض جاذبية غير عادية, وهي بهذه الجاذبية تشد كل شيء إليها, فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة, وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.
وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة ما يقرب من 15 رطلا: أن كل إنسان يتحمل ما يقرب من 228,40 رطلاً من الضغط الجوي على جسمه, ولكن الإنسان لا يحس بهذا الوزن؛ لأن الهواء يضغطه من كل ناحية, كما يحدث عندما نسبح في الماء، ثم إن الهواء- وهو علم على مركب معين من الغازات- ذو فوائد كثيرة لا يمكن حصرها في كتاب.
إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها في كل أربع وعشرين ساعة؛ ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة, فإذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مئتي ميل في الساعة لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات, بالنسبة إلى ما هي عليه الآن, ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس- بشدة حرارتها- كل شيء فوق الأرض, وما بقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة الشديدة في الليل.
وهذه الشمس التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا, تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت([vii])؛ والمسافة بينهما وبين الأرض تبلغ ما يقرب من 93,000,000 ميلاً، وهذا البون الهائل دائم, لا يتغير أبدًا بزيادة أو نقص, وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لأنه لو نقص, واقتربت الشمس من الأرض بمقدار النصف مثلاً من الفاصل الحالي فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها, ولو بعد هذا الفاصل فصار ضعف ما هو عليه الآن فإن البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد سوف تقضي على الحياة في الأرض, ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادي, يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة- فسوف يجعل من الأرض تنورًا رهيبًا.
ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء, وهي تؤدي عملها بزاوية 33 درجة, الأمر الذي تنشأ عنه المواسم, ويترتب عليه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى, فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة؛ ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبًا؛ ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج, وفياض الصحراوات؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.
فلو كان قياس العلماء صحيحًا, وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة, فما أعجب هذا القياس, وما أكثر إثارته للدهشة! يقولون: إن الأرض انشقت من الشمس؛ ومعنى هذا: أن درجة حرارتها كانت في بداية أمرها كحرارة الشمس نفسها, وهي اثنا عشر ألف درجة فهرنهيت, ثم بدأت الأرض تبرد؛ إذ لا يمكن اتصال الأكسجين بالهيدروجين إلا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت- وفي هذه المرحلة وجد الماء, وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الأرض ملايين السنين حتى جاءت الأرض في صورتها الحالية منذ أكثر من بليون سنة مضت, وذهبت الغازات من فضاء الأرض إلى فضاء الكون, وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي, أو انجذبت إلى الأشياء الأرضية, أو بقيت في صورة الهواء, وأكثرها في صورة الأكسجين أو النيتروجين، وهذا الهواء في كثافته يُعد جزءًا واحدًا من 2,000,000 من أجزاء الأرض، ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض، كما أنها لم تتحول كلها إلى هواء، ولو أنه حدث لاستحالت حياة الإنسان, فلو أننا فرضنا المستحيل, ووُجدت الحياة في ظروف كهذه- تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف الأرطال من الضغط الجوي لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الإنسان الحالية.
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سمكًا, بمقدار عشرة أقدام من سمكها الحالي, لما وُجد الأكسجين, وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.
وكذلك لو كانت البحار أعمق بضعة أقدام أكثر من القاع الحالي لانجذب ثاني أكسيد الكربون والأكسجين, ولاستحال وجود النباتات على الأرض، فضلاً عن الحياة.
ولو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الأرض الخارجي, ولرأيناها مضيئة في الليل, ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها, فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلاً في الثانية, ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض، حتى تصبح الأرض غربالاً في وقت ليس ببعيد.
فلولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا؛ فإن سرعتها أكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة، كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل شيء, بما فيه الإنسان، فنحن إذًا في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون, الذي لا تخترقه "الأشعة الشمسية ذات الأهمية الكيماوية" (ActininRays) إلا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات, وإيجاد الفيتامينات, والقضاء على الجراثيم الضارة, وما إلى ذلك.
إن هذا التوازن للكميات المحتاج إليها عجيب جدًّا؛ فالغلاف الذي فوق الأرض مكون من ستة غازات؛ منها 78% من النيتروجين, و21% من الأكسجين, والغازات الأخرى توجد بنسب قليلة, وهذا الغلاف يضغط الأرض بنسبة 15 رطلاً في البوصة المربعة, ونسبة الأكسجين في هذا الضغط ثلاثة أرطال في البوصة المربعة، والمقادير الأخرى للأكسجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الأرض, وهي تمثل 0,8 من الماء الموجود على سطح الأرض, والأكسجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الأرض, ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.
قانون الضغط والتوازن:
وهنا يظهر سؤال مهم, وهو: كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة, مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة, التي لا بد منها للحياة في الفضاء؟
والجواب: أنه لو كانت نسبة الأكسجين 50% , أو أكثر, بدلاً من 21% لزادت قابلية الاحتراق, بما يساوي ارتفاع هذه النسبة، فإذا احترقت شجرة واحدة في غابة- حينما تكون نسبة الأكسجين 21%, فإن الانفجار الخاطف الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى 50% - يجعل احتراق الغابة كلها أمرًا حتميًّا في لحظات!
ولو أن هذه النسبة انخفضت فأصبحت 10% لكان من الممكن- على مدى القرون- أن تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الأكسجين إلى هذا الحد, ولكنه يكون من المستحيل أن تزدهر الحضارة الإنسانية, كما هي عليه في الظروف الحالية.
ولو أن الأكسجين الموجود على سطح الأرض انجذب مع الأكسجين الذي انجذب قبل ذلك في الأرض لكان من المستحيل الوجود الحيواني الحسي.
إن الأكسجين والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون وغازات الكربون الأخرى- على اختلاف أشكالها تتركب معًا فتصبح عناصر عظيمة الأهمية للحياة الحيوانية, وللأسس التي تقوم عليها الحياة الإنسانية, وبناء عليه لا يوجد احتمال 1/10,000,000 أن تجتمع هذه الغازات في تناسبها المطلوب, ويجمع خصائصها اللازمة للحياة على كوكب معين بطريق الصدفة.
ولذلك يقول أحد كبار علماء الطبيعة:
(Science has no eplanation to offer for the facts, and to say it is "accidental" is to defy mathematics).
"إن العلم لا يملك أي تفسير للحقائق, والقول بأنها حدثت اتفاقًا إنما يُعتبر تحديًا وتصادمًا مع الرياضيات"([viii]).
إن هذا التوازن العجيب في كوكب الأرض من حيث وجوده في الفضاء, وقربه وبعده من الشمس, ونظام الجاذبية وضغط الهواء عليه وما إلى ذلك من توازنات عجيبة تجعل الحياة عليه صالحة مستقرة, ولا يمكن أن يكون هذا الإتقان المدهش نتاج صدفة عابثة, أو مادة صماء, بل لا بد من خالق حكيم, خلق هذا الكون بهذه الدقة والإتقان وأراده على هذا النحو.
فكوكب الأرض عالم مدهش من حيث الدقة والإتقان, والنظام المبدع، ولعل هذا الكوكب الصغير في نظر الفلك وأحجامه لا أهمية له, ولكنه أهم جسم في عالمنا.
كما يقول الدكتور كريسي موريسون: ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت تلك الحزمة من السكون التي نسميها بالكرة الأرضية, إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك, ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم نعرفه حتى الآن.
وعلى ذلك فإن الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس, وسرعتها في مدارها تهيـئ للإنسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا، إن الفيل يزن القناطير المقنطرة، ومع ذلك فهو لا يساوي شيئًا إذا ما قُورن بالإنسان الذي لا يتعدى وزنه 1: 40 من وزن ذلك الحيوان المهول, ولكن شتان بين العقل المفكر وبين كومة من اللحم, شتان بين تل من الرمال وقطعة من الماس لا تتعدى بضعة جرامات.
إن الله تعالى الذي كرم بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً قد سخر لهم ما في البر والبحر وخلق لهم ما في الأرض جميعًا, ولكن الإنسان ظلوم كفار, بيد أن الله رحيم غفار.
يقول الدكتور كريسي موريسون: والكرة الأرضية تدور حول الشمس بسرعة معدلها ثمانية عشر ميلاً في الثانية, ولو أن معدل دورانها كان مثلاً ستة أميال أو أربعين ميلاً في الثانية فإن بعدنا عن الشمس أو قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا، ثم إن الكرة الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة؛ ولهذا دواع دعت إليه، فلو أن الكرة الأرضية لم تكن مائلة لكان القطبان في حالة غسق دائم, ولصار بخار الماء المنبعث من المحيطات يتحرك شمالاً وجنوبًا, مكدسًا في طريقه قارات من الجليد, وربما ترك صحراء بين خط الاستواء والملح, وفي هذه الحالة كانت تنبعث أنهار من الجليد وتتدفق خلال أودية إلى قاع المحيط المغطى بالملح, لتكون بركًا مؤقتة من الملح الأجاج, وكان ثقل الكتلة الهائلة من الجليد يضغط على القطبين فيؤدي ذلك إلى فرطحة خط الاستواء أو فورانه, أو على الأقل كان يتطلب منطقة استوائية جديدة, كما أن انخفاض المحيط يعرض مساحات شاسعة جديدة من الأرض, ويقلل هطول المطر في كافة أرجاء العالم بما ينتج عن ذلك من عواقب مخيفة، ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلاً بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلاً, فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تُغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها, وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة, وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب, وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم، أأدركت حكمة الصانع فيما صنع؟ )تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا(61)((الفرقان).
هكذا أدرك هؤلاء العلماء الذين لم يقصدوا إلا الوصول إلى الحقيقة- والحقيقة وحدها- عظمة خالق هذا الكون, وحنوه على مخلوقاته وإنعامه عليهم، ولم يزدهم علمهم إلا شعورًا بضآلة هذا الإنسان أمام مالك الملك وخالق السماوات والأرض، كما أن بحثهم لم يزدهم إلا تقربًا إلى الله واحتماء في رحابه، قال تعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد(53)( (فصلت).
نعم، إن دراسة الفضاء طريق إلى تثبيت الإيمان بالله والاعتراف بعظمته، إن سفينة الفضاء التي لا يزيد وزنها عن عدة قناطير اقتضت جهود عشرات الأجيال من العلماء والباحثين, واشترك في صناعتها آلاف من العلماء والمهندسين والعمال, ثم انطلقت إلى الفضاء الرحب, موجهة بأجهزة على الأرض تحفظ لها خط سيرها وتوجهها إلى مدارها السليم، ولو حدث خلل في هذه الأجهزة الموجهة للسفينة لسقطت على التو وأصبحت حطامًا، فإذا كانت هذه الكتلة التي لا تُذكر لا يمكن أن تستمر معلقة في الفضاء بدون موجِّه يمسكها, فكيف بتلك الأجرام المتناهية في الضخامة المعلقة في الفضاء بلايين السنين؟ أيُعقل أن تسير بغير موجِّه, أو أن تحلق بغير مهيمن عليها؟ كلا، إنها في قبضة الله وتحت توجيه الخالق، وهذه على ما أتصور هي النتيجة النهائية لاستكشاف الفضاء إذا ما تجرد الإنسان من أهوائه وصدق مع نفسه وفطرته([ix]).
ومن هذا يتبين مدى دلالة الفضاء الفسيح والأفلاك العظيمة والآفاق المترامية على وجود الخالق, ودقة صنعته, وعظمته وحكمته الفائقة, فلا يمكن لعاقل اطلع على هذا الخلق العجيب في حركته المنضبطة, وسيرانه المنظم, ودقته المتناهية في كل سكون وحركة, وكل بعد وقرب- إلا ويجزم بأنه ناتج عن خالق مدبر حكيم قاصد لهذا الخلق, فلا يمكن أن يكون هذا نتاج العبث والصدفة.
2. أدلة علم الأنفس وخلق الإنسان على وجود الخالق:
الإنسان آية الله في الخلق, وعلامة الإبداع والتفنن, ورمز الدقة والإتقان، يأتي على قمة المخلوقات تفردًا ورقـيًّا, صاحب حجم صغير, وجسم ضعيف, إلا أنه قوي التفكير, سامي العقل, استطاع أن يسخر كل شيء في الوجود لصالحه.
إنه دليل بيِّن الوضوح على وجود الخالق وعظمته وقدرته وحكمته البالغة، إنه أقوى معجزة في الخلق تدل مباشرة على الخالق الحكيم, وتدحض كل مزاعم الملحدين والمشركين وافتراءاتهم, سواء فيما يزعمون من نشأة الحياة بالصدفة, أو ما ينسبونه للطبيعة من قدرة على الاختيار والانتقاء، وإعمال القوانين في حركة الكون والحياة، وكلها نظريات ليست من العلم في شيء، بل إن المنطوق العلمي نفسه يرفضها، ويكشف غاياتها الخبيثة في تزيين الكفر والإلحاد.
إذا بحثنا في جسم الإنسان نجد العديد من التوافقات المذهلة, والتنظيمات العجيبة, التي تؤكد أن الإنسان لم ينشأ نتيجة صدفة عمياء, أو يتطور من جماد وحيوان بفعل قوى الطبيعة المزعومة, بل هو من صنع قوة عاقلة جبارة تملك القدرة المطلقة على التدبير والتخطيط, وهذه القوة هي قوة القصد الإلهي التي تؤكد أهمية الغاية والهدف من وراء خلق الكائنات, مصداقًا لقوله عز وجل: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون(115)((المؤمنون)، وقوله عز وجل: )وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون(39)( (الدخان).
ومن أمثلة التوافقات والتنظيمات المعجزة في جسم الإنسان نستعرض ما يلي:
1. خلايا الجسم دائمة الانقسام؛ للعمل على نمو الجسم أو لتعويض ما يفقد أو يموت بين هذه الخلايا، أما الخلايا العصبية فهي لا تنقسم؛ لأنها لو انقسمت تحدث كارثة مروعة بتلاشي جميع معالم الذاكرة في الخلايا العصبية للمخ.
2. تُعتبر عضلات الرحم عند الأنثى أقوى عضلات الإنسان؛ للحاجة إليها في دفع الجنين عندما يأذن الله بخروجه من بطن أمه، وتلي عضلات الرحم عضلات القلب التي لا بد أن تكون قوية لتتحمل العمل ليلاً ونهارًا، وتدفع الدم باستمرار إلى الأوعية الدموية لمدة قد تطول في بعض الأحيان لأكثر من مئة عام.
3. عند حدوث جرح في الجسم يندفع الدم من الأوعية الدموية المجروحة, ولكنه لا يلبث أن يتجلط عند مكان الجرح؛ ليوقف استمرار النزيف, ولولا هذا التجلط لظل النزيف حتى الموت.
4. المعدة في الإنسان أشبه بمصنع كيميائي أعده الخالق الواحد سبحانه وتعالى؛ لكي يعمل ذاتيًّا- أوتوماتيكيًّا- وينتج مواد كيميائية أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره الإنسان، فالمعدة تقوم تلقائيًّا بتحليل ما يتناوله الإنسان من أطعمة على اختلاف أنواعها, وتقوم بمعالجتها وتجهيزها من جديد, وتتولى فرزها وتصنيفها وتوريدها بصورة مستمرة ومنتظمة إلى كل خلية من بلايين الخلايا حسب احتياجات هذه الخلايا وتخصصاتها؛ لتكوين العظام أو الأظافر أو الشعر أو اللحم أو الأسنان أو الأنسجة أو غيرها، كما تحتوي المعدة على جهاز كيميائي مناعي أو دفاعي لمهاجمة الجراثيم والميكروبات المعادية, وهناك الكثير من التنظيمات الأخرى الرائعة.
5. الأذن البشرية عضو معقد بالغ الحساسية يقوم بتحليل الأمواج الصوتية ونقلها إلى المخ في صورة تيار كهربي يسري في العصب السمعي إلى مركز خاص في المخ، فيحس الإنسان بسماع الصوت، وقد خلق الله الأذن البشرية وجعل استجابتها محدودة بمدى معين من الذبذبات التي يتراوح ترددها- أي عددها في الثانية الواحدة- من 20 إلى 20000 ذبذبة في الثانية؛ وذلك لكي ينعم الإنسان بالهدوء ولا يسمع الموجات الأقل أو الأكبر من هذا المدى، ولو استجابت الأذن لكل الذبذبات الصوتية لعاش الإنسان في ضجيج لا ينقطع.
وما يقال عن الخلايا والعضلات والدم والمعدة والأذن يقال عن العين واللسان والأنف والحنجرة والجلد وغيرها من ملايين التنظيمات والتوافقات الرائعة في جسم الإنسان, بل ومختلف التنظيمات الموجودة في كل الكائنات النباتية والحيوانية؛ مما يدل على أن جميع المخلوقات خُلقت منذ البداية على نحو من التصميم الدقيق المقصود الذي لا يدع مجالاً للصدفة أو الاحتمال.
ويبقى بعد هذا كله سـر أسرار الحياة, وهي الروح التي جعلها الله مصدر الوعي ومنبع الشعور, فقد خلق الله الإنسان خلقًا يجمع بين المادة والروح, فالإنسان بجسمه المادي مشدود إلى الأرض, له دوافعه وشهواته ومطالبه الحيوانية, وبروحه الشفافة يتطلع إلى السماء, له أشواق الملائكة وجاذبية السمو نحو الله، أم النفس فلها طبيعة مزدوجة تحتوي على معنويات الخير والشر والتقوى والفجور، ورغم أن العلم قد تعرف على التركيب المادي لجسم الإنسان بعناصره ومركباته, وذلك بطرق التحليل الكيميائي, إلا أنه لا يزال عاجزًا حيال عالم النفس الذي يحاول اقتحامه, كما أنه يقف عاجزًا أمام عالم الروح, ولن يُقدر للعلم البشري أن يصل إلى سر الحياة الذي استأثر به خالق الكون والحياة, قال الله تعالى: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً (85)( (الإسراء)، فصدق الله العظيم الواحد الأحد: )الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور(2)( (الملك).
ويقول الله تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(13)( (الجاثية)؛ حيث تقرر هذه الآية الكريمة أن جميع المخلوقات والكائنات في هذا الكون- على اختلاف أنواعها وأحجامها ونواميسها- يجمع بينها مهمة التسخير للإنسان, ويوحد بينها أنها مقدرة بمشيئة الخالق الواحد.
والإيمان الخالص بوحدانية الله تعالى أساس العقيدة الإسلامية, وهو أمر فطري, ينعم به كل إنسان يتمتع بفطرة نقية, لكن البحث العلمي يوصلنا إلى حقائق كونية تيسر قبول العقول بمسلمة التوحيد الإسلامي, وتكشف عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة مهما كانت درجة تنوعها([x])، فالإنسان بكل ما فيه إنما هو دليل ناطق على عظمة الخالق ودقة تدبيره, وليس مجرد وجوده.
يقول الدكتور موريسون: إن الإنسان وحده هو الذي أُوتي عقلاً بلغ من التطور أنه يستطيع أن يفكر به تفكيرًا عاليًا، والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من الناي, نغمة جميلة ولكنها محدودة, بينما العقل البشري يحتوي على كل الأنغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا, والإنسان يمكنه أن يوفق بين تلك الأنغام جميعها, وأن يقدم للعالم قطعًا موسيقية متحدة النغم- سيمفونيات- تدنو من الإعجاز, وإلى أن خلق الإنسان لم تخرج العناية الإلهية كائنًا حيًّا من بين الصخور الفطرية, وله عقل مرن كعقل الإنسان, والآن يمكننا أن نتصور تلقي الإنسان قبسًا من نور الله يجعله سيدًا على الأرض, عجيبًا في مقدرته, باقيًا في مصيره([xi])!
أجل, إن الإنسان بعقله الفذ وتفكيره المبدع يدل دلالة واضحة على أنه أسمى المخلوقات وأعظمها, وأنه السيد على هذا الكون, وهو المتحكم في كثير من الكائنات من حوله, فالإنسان بكل ما فيه آية على عظمة الخلق والإبداع والتقدير, فالإنسان بهذا الخلق الفريد دليل واضح على وجود الخالق وعظمته، ودقة تقديره؛ ولذلك جاء التعبير القرآني الكريم موجهًا الإنسان للنظر في نفسه للدلالة على الإيمان بالخالق، فقال تعالى:)وفي أنفسكم أفلا تبصرون(21)((الذاريات).
[31]. للتفصيل في قضية إثبات وجود الخالق عز وجل راجع كتاب: كبرى اليقينيات الكونية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط25،