بسم الله .. والحمد لله ..

كونهم يقولون أنهم موحدون باللسان لا يعني أنهم لا يأتون من أعمال الشرك ما ينفي عنهم التوحيد الذي علمه الأنبياء والمرسلون .

فإنه من المعلوم عند المسلمين أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه ، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة والدعوة إليها كما قال سبحانه { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل امة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ، وقال عز وجل : { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } .

فأوضح سبحانه في هذه الآيات المحكمات أنه لم يخلق الإنس والجن إلا ليعبدوه وحده لا شريك له ، وبيّن أنه أرسل الرسل عليهم السلام للأمر بهذه العبادة والنهي عن ضدها ، وأخبر أنه أحكم آياته وفصلها لئلا يعبد غيره سبحانه .

والآيات في هذا المعنى كثيرة ، كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم ولا شك أن الدعاء من أهم أنواع العبادة ، فوجب إخلاصه لله وحده كما قال عز وجل : { فادعوا الله مخلصين له الدين } وقال تبارك وتعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا } وقال عز وجل : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } .

فعلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأصنام وغيرها شرك بالله تبارك وتعالى ينافي العبادة التي خلق الله الناس من أجلها وأرسل الرسل وانزل الكتب لبيانها والدعوة إليها ، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) فإن معناها : لا معبود بحق إلا الله ، فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده كما قال الله سبحانه : { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } .

وهذا هو أصل الدين وأساس الملة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السنية : فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، ليعبد وحده لا شريك له ، ولا يدعى معه إله آخر. والذي يدعون مع الله آلهة آخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات ، وإنما كانوا يعبدونهم ، أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم، يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. ا هـ.

وقال أيضًا : من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً. ا هـ.

قال ابن القيم : (الإله) هو الذى تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة ، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً . ا هـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذى تألهه القلوب بحبها ، وتخضع له وتذل له ، وتخافه وترجوه ، وتنيب إليه فى شدائدها ، وتدعوه فى مهماتها ، وتتوكل عليه فى مصالحها ، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره ، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده . ا هـ.

وقال ابن رجب : (الإله) هو الذى يطاع فلا يعصى ، هيبة له وإجلالاً ، ومحبة وخوفاً ورجاء ، وتوكلاً عليه ، وسؤالاً منه ودعاء له ، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقاً فى شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه فى قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب مافيه من ذلك. ا هـ.

وها هم النصارى يعتقدون أن لمريم بنت عمران عليها السلام ما لله من خصائص ؛ فهم يدعونها في المهمات ويستنجدون بها في الشدائد ويتوكلون عليها في المصالح ويلجأون إليها في الشر والضر ، فإن لم يكن هذا شركًا بالله سبحانه وتعالى ، فما هو الشرك إذن ؟

ولا يقتصر على مريم بل يتعداه للقساوسة والقديسين وغيرهم من الذين يتبرك بهم النصارى .

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : إن الشرك عبادة غير الله والذبح والنذر له ودعاؤه قال ولا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك . ا هـ.

ثم قال رحمه الله : فمن عبد اللَّه ليلاً ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره ، فقد اتخذ إلهين اثنين . ا هـ.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك .

قال الشيخ ابن باز معلقًا على الحديث : فكل من دعا غير الله ، أو استغاث به ، أو نذر له ، أو ذبح له ، أو صرف له شيئًا من العبادة سوى ما تقدم فقد اتخذه ندًا لله ، سواء كان نبيًا أو وليًا أو ملكًا أو جنيًا أو صنمًا أو غير ذلك من المخلوقات . ا هـ.

وقال رحمه الله في موضع آخر : فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم ، أو دعا الأصنام أو الأشجار أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور أو صلى لهم أو سجد لهم : فقد اتخذهم أربابًا من دون الله وجعلهم أندادًا له سبحانه . ا هـ.

بل الأمر فوق هذا : فإنهم لا يكتفون بأن يشركوهم مع الله في الحب والتعظيم والتقديس والرجاء والتوكل والدعاء ، بل إنهم جعلوهم أعلى في المنزلة من الله تعالى ، فإذا حلفوا جعلوا لهم أغلظ الأيمان فربما يحلفون بالله ويكذبون ويحنثون . لكنهم إذا حلفوا بالعذراء أو بالبابا أو بالقديس الفلاني صدقوا وخافوا ان ينحثوا بهذا القسم العظيم عندهم !

كذلك إذا وقع أحدهم في شدة أو محنة أخلص في الدعاء لهم واعتقد أنه أسرع فرجًا لهم من الدعاء لله تعالى ، بخلاف المشركين الأولين ، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده ، كما قال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } . فبهذا يتبين أن مشركي هذه الملة أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .

وفوق هذا كله : هم يعتقدون أنهم يخرجون لهم من قبورهم فيشفون المريض ويفرجون عن المكروب ويرزقون المحروم ، بل ويجعلون لهذا البنين وذاك البنات وغيرها من الأعمال التي هي لله وحده ولا شريك له فيها .

فهم لا يجعلونهم فقط شركاء لله تعالى في خصائص الألوهية كالحب والرجاء والتوكل والدعاء ، بل يعتقدون أيضًا أن لهم تصرفًا في الكون بأن يرزقوا ويحرموا ويمنحوا ويمنعوا ويأمروا وينهوا وربما يخلقوا أيضًا !

وهذا يعني أن - عندهم - الأمر ليس كله لله ، بل هناك له شركاء من القديسين وعلى رأسهم أم الإله ، وهذا من أبشع صور الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى عما يصفون .

قال ابن القيم رحمه الله : ومن أنواعه [يعني الشرك] طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم . وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًا ، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله . ا هـ.

وفي ضوء هذه العقيدة الوثنية نفهم قوله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } .


فها هم أتباعه الذين ضلوا عن الصراط المستقيم قد اتخذوا أمه إلهًا يتوجهون لها بالدعاء والرجاء والتوكل والنذر من دون الله .. قال تعالى : { والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير } .
ثم إن الطواف بالكعبة وحركات الصلاة وتقبيل الحجر والسعي بين الصفا والمروة وغيرها من الطقوس التعبدية ليس فيها ما يفيد أن المسلمين يتقربون بالكعبة -مثلاً- كذات أو كحجر لله تعالى كما يفعل النصارى بسجودهم للصور والأيقونات والتماثيل .

فإن المسلم يعلم تمام العلم أن الكعبة مجرد حجر لا يضر ولا ينفع ، وإنما هو يفعل ذلك كجزء من الشعائر الدينية التي علمها إياها نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم .. أما النصارى فهم يعتقدون أن هذه الصور والأيقونات والتماثيل لها القدرة على نفعهم وضرهم أو التوسط بينهم وبين الله .

وهناك الكثير من المواقف التي قابلتني في حياتي عندما يكون نصراني أو نصرانية على وشك إجراء عملية جراحية ، فإذا به/بها قد وضع/وضعت صور البابا كيرلس أو غيره من القديسين في مواضع عديدة بجسده/بجسدها تحت الملابس لنيل البركة !

هذا غير حنوط البركة !

وهم إنما يضعون هذه الأشياء لاعتقادهم أن بها قدرة على شفائهم أو أنها تؤثر في نجاح العملية الجراحية ، وهذا من الشرك العظيم بالله تعالى لأنه لا يتصرف في خلقه إلا هو ولا يملك النفع والضر إلا هو ، سبحانه وتعالى
د هشام عزمي