أحمد يحيى
إشكاليات الاستدلال على التطور بالسجل الأحفوري

نعود مرة أخرى لنشارك أنصار التطور رحلتهم الشاقة تنقيبا عن الحلقات المفقودة، ونتابع واحدة من أكثر قصص التطور شهرة وغرابة، والتي تعد من الأحداث الكبرى في تاريخ التطور، نعود لنلقى نظرة مختصرة على أحد أهم فصول هذه القصة.
ومن خلال هذا الطرح نرصد تأريخ السجل الأحفوري لذلك الحدث الملحمي الذى يحكى لنا كيف تطورت وحوش اليابسة التي كانت تسير على أربع -> إلى وحوش البحار المهيمنة (الحيتان)..

كيف يحكى السجل الأحفوري قصة تطور الحوت: .

الحيتانيات (الحيتان والدلافين) ؛ هي إحدى أضخم الثدييات، لكنها خلافا لمعظمهم - والتي تعيش على الأرض – فالحيتانيات تعيش حياتها كاملة في الماء، ومع ذلك فهي ليست من الأسماك.
كان محتما على أنصار التطور حل تلك المعضلة ووضع السيناريو الخاص بكيفية تطور هذه الثدييات وانتقالها إلى البحر مرة أخرى بعدما غادرته قديما.
- ولذلك افترض الطرح التطوري أن الحيتان ككل الثدييات تطورت من الزواحف، والتي تطورت بدورها عن برمائيات، والتي غادرت هي الأخرى المحيطات، بعدما تطورت عن الأسماك، وذلك من حقب زمنية سابقة.
حيث تركت الزواحف (أسلاف الثدييات) البحر منذ حقب زمنية سحيقة في تاريخ التطور ونمت لها الأرجل وكساها الفراء وتطورت الرئتين.
والأعجب هنا هو إصرارها مرة أخرى على العودة إلى البحر، وذلك في حدث ملحمي واستثنائي، لتفقد أرجلها وفرائها لكنها أبقت على رئتيها ونظام تكاثرها رغم هذه التحولات الجذرية التي طالت بنيتها ككل.
- ولدعم هذا الطرح كان على أنصار التطور تقديم الأدلة والتنقيب في طبقات الأرض القديمة بحثا عن تسلسل انتقالي زمني بسجل أحفوري لأسلاف منقرضة كانت تسير على الأرجل تظهر تدرجا وأشكالا وسيطة بين ثدييات الأرض وثدييات البحر، لكن ملامح ذلك السلف الأرضي القديم للحيتان ظلت شبحية برغم الافتراض السابق لداروين في مصنفاته - على استحياء - أنه كان دبا.
ولم تتكشف ملامح قصة تطور الحوت إلا بحلول عام 1966 حين قام عالم الأحافير فان فالين Van Valen أثناء فترة عمله بمتحف نيويورك للتاريخ الطبيعي برصد بعض التشابهات بين عظام مجموعة من آكلات اللحوم المنقرضة المسماة بوسطية الحوافر Mesonychids مع أحافير وعظام الحيتان Cetacea.



هذه الحيوانات المنقرضة الشبيهة بالذئاب والمسماة بـ Mesonychids امتلكت أسنان ثلاثية شبيهة بتلك التي في الحيتان المعاصرة.. واستنتج فالين من تلك المشاهدة أن الحيتان انحدرت منها. (1)

ومنذ ذلك الحين توجهت بوصلة أنصار التطور وعلماء الأحافير للبحث في ذلك الاتجاه الذي اقترحه فالين عن عظام أسلاف الحوت التي تمتلك صفات مورفولوجية (هيكلية - تشريحية) مرتبطة بمجموعة وسطية الحوافر Mesonychids، وكان رائد البحث في هذا الاتجاه هو عالم الأحافير المتخصص ببحثه عن أسلاف الحوت جنجريتش Gingerich الذي بدأ رحلته في البحث خلال عقد السبعينيات من القرن المنصرم واستمر لأكثر من عقدين في رسم الأطر العامة لسجل تطور الحيتان وتبعاته، وتزامنت معه كشوفات حفرية أخرى ودراسات متعددة لعلماء أخرين والتي نتج عنها تأطير للخطوط العريضة لذلك المسار، عبر سجل أحفوري مفترض اصطفت خلاله سلسلة كاملة من الحيوانات المنقرضة واحدا بعد الآخر في تتابع زمني وفقا للفترات الجيولوجية التي كانوا يعيشون فيها ووصفت بأنها أشكال انتقالية متسلسلة بين الثدييات البرية والثدييات المائية بالكامل على نحو ما، كما يظهرها المخطط التالي..



Pakicetus
(الأرضية بالكامل قبل 50 مليون سنة)
Ambulocetus
(شبه المائية قبل 49 مليون سنة)
Rodhocetus Protocetid
(شبه المائية قبل 46 مليون سنة)
Basilosaurus
(المائية قبل 37 مليون سنة)

هكذا يحكى التطور قصة تحول الحوت بمخططات رائعة وقصة مثيرة، وهذا النوع من القصص يروقنا جميعا.

لكن دعونا نتعمق مع تلك القصة بجرعة أكبر من الإثارة، ونحاول إلقاء نظرة مدققة على هذا المقترح الذى يسجله السجل الأحفوري كعنصر وحيد للطرح، ولا ضير من أن نفتح أثناء عروجنا داخل أعماق تلك القصة أكثر من نافذة، نرى من خلالها مغالطات متأصلة وعامة في أصل المنهج التطوري، وقبل أن نبدأ بعرضنا هذا.
أعدوا لأنفسكم فنجانا من القهوة وانعشوا ذاكرتكم ببعض التركيز لمتابعة تسلسل الأحداث.. (2)