نظرات في الحالة الإلحادية من الناحية النفسية لقد وُلدتُ اليومَ من جديد !
هذه العبارة تكاد تكون الأكثر سماعًا أو قراءة فيما يُدلي به العائدون إلى الدين من اعترافاتٍ أو تعليقاتٍ على ما مر بهم، والعاقل لا تمر عليه مثل هذه العبارة من غير وقفةِ تأمُّلٍ لحال قائلها، فالإيمان بخالقٍ هو أظهر الحقائق الفطرية المغروسة في كل إنسان، وهو أوضح فكرة يمكن لبشر أن يُدلل عليها بأبسط البديهيات العقلية التي تُولَد معنا منذ الصغر، والتي يُعد إنكارها نوعًا من أنواع الجنون - مثل إنكار السببية مثلًا أو أن التعقيد والغائية يدلان على فاعل حكيم مُريد قادر -، والعجيب أن هذه الحقائق لم تعد حِكرًا على المتحدثين في الأديان والمُنظرين لها فقط بل تم التدليل عليها تجريبيًا كذلك! ولعل الضجة التي أحدثتها صحيفة التلغراف البريطانية في نوفمبر 2008م بنشرها لنتائج بحث أكاديمي عن الأطفال بعنوان: "
Children are born believers in God " أو " الأطفال يولدون مؤمنين بالله " (1) لم تكن أولها!. والخلاصة: أن العائد للإيمان بالخالق يشعر وكأنه قد أُعيدت ولادته من جديد ووضعه على الطريق القويم الذي وُلد عليه أول مرة! يشعر وكأنه قد خرج من ظلمة الجنين في بطن أمه إلى نور الدنيا الذي يملأ الحياة من حوله! يشعر وكأنه كان ميتًا بين الأحياء فعاد للحياة الحقة كإنسانٍ من جديد!
وهنا لا يسعني إلا تذكر قول الله عز وجل في لفتةٍ راقيةٍ من لفتات القرآن: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا"[سورة الأنعام 122]. وعلى ذلك نسأل سؤالًا وهو:
إذا كان هناك من البشر مَن اختار أن يُخالف فطرةَ الإيمان التي بداخله بإرادته واختياره ليعيش معاناة هذا الانتحار المعنوي والنفسي، فهل يمكن أن يجره ذلك إلى انتحار حقيقي يُودِي فيه بحياة نفسه بيده؟ وأقول: هذا ما سنتعرض إليه في هذه المقالة الآن بإذن الله.

صورة بيانية من الصفحة الأخيرة لدراسة بحثية عام 2002م لنسبة الانتحار مقارنة بالأديان - وقد اعتمد فيها الباحثان خوسيه مانويل José Manoel Betrolote وأليكساندرا فليشمان Alexandra Fleischmann على مراجع الأمم المتحدة المُوثقة (2) - حيث جاء الملحدون كأعلى نسبة في الانتحار! في حين جاء المسلمون في أدنى نسبة للانتحار وبصورة لفتت نظر الباحثين أنفسهم حتى علقا عليها قائلين: "إن نسبة الانتحار في الدول الإسلامية تكاد تقترب من الصفر، وسبب ذلك أن الدين الإسلامي يُحرم الانتحار بشدة" - وعلى هذا كانت توصياتهم للحَدِّ من الأعداد المتزايدة للانتحار سنويًا هي: التحذير من الإقدام على الانتحار - تعاهد مَن لديهم ميول للانتحار بمزيد الاهتمام والرعاية النفسية - وضع عقوبات صارمة لِمَنْ يحاولُ الانتحار. وهي نفس خلاصة ما تناول به الإسلام مسألة الانتحار من 1400 عام!

درجاتُ الإلحاد النفسي ..
إن المتمرس في نقاش وحوار الملحدين والاقتراب من طريقة تفكيرهم ولمس محاولتهم للتعايش مع أنفسهم في إنكارهم لبديهيات العقل والفطرة، يجدهم ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول :
وهو الذي وقع في فخ الإلحاد عن جهل، أو كنتيجةٍ لموقفٍ عاطفي أو صدمةٍ نفسيةٍ مع قضاء الله تعالى وقدره، أو متأثرًا ببعض الشبهات العلمية أو الدينية التي جذبته - وخصوصًا في سن المراهقة والشباب - فأوحت إليه بالتميز وكأنه قد اكتشف وانفرد بما لم يكتشفه وينفرد بمعرفته الكثير من أقرانه! وهذا النوع غالبًا هو الأقرب فرصة للعودة إلى التدين عمومًا - وإلى الإسلام خصوصًا - أو الولادة من جديد كما قلنا بمجرد زوال شبهاته أو إفاقته على حقيقة الأمر وأن مسألة الكفر والإيمان جَد وليست بهزل.
وأما الصنف الثاني :
فهو الذي نجح إلى حدٍ كبير في (التعايش) مع إلحاده ! إما صبرًا على مضض - لكسب مالٍ أو نيل شهوة - وإما عنادًا كعناد إبليس، وإما خوفًا من السخرية منه أو شماتة الشامتين فيه إذا عاد إلى الحق والدين، وإما حُبًا في الإلحاد ذاته! فهذا الصنف تميز بقدرته على مداراة ضميره أو إسكات النزعة الإنسانية ونداء الإيمان الفطري بداخله! وهو الصنف الذي يمكن وصفه بأنه من الذين لديهم القدرة على (تصديق كذباتهم الخاصة) والبحث الاحترافي عن أية تبريرات لكل أعمالهم وأقوالهم والاقتناع بها ومهما كانت غريبة أو تافهة أو مخالفة للفطرة وللعقل! تمامًا كما صَدّق فرعونُ مصر كذبته في أنه رب الناس - وكما قالوها له ورددها عليه الكهنة - : "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [سورة النازعات 24 ]. وهذا الصنف الصابر على كفره والمتمادي في غيه للأسف لا تنفعه ساعة الموت توبة ولا إعلان إيمان: "آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" ؟! [يونس 91].
وأما الصنف الثالث والأخير :
فهو مثل السابق في ميله وحبه واختياره للإلحاد، ولكنه لا يملك تلك القدرات على إسكات النزعة الإنسانية ونداء الإيمان الفطري بداخله! ولذلك يعيش حياته في صراع بين نفسه وضميره من ناحية، وبين شهواته وفساد عقله وما اختاره لنفسه من الناحية الأخرى! وللأسف.. فهذا الصراع يبلغ من العمق والألم ما لا ينفع معه مُسَكِّنات (التأقلم) مع (الحيوانية) الإلحادية - والتي لا ترى الإنسان إلا حيوانًا من الحيوانات في شجرة التطور المزعومة - في مقابل (الإنسانية) البشرية التي فطره الله عليها وبمخالفتها يشقى ويتعذب! وعليه.. فهذا الصنف البئيس قد عُلِّقَ في المنتصف بين الصنف الأول والثاني! لا هو بالذي انحاز للحق إذ ظهر له، ولا هو بالذي استطاع أن يُحقق (الحيوانية) الإلحادية في داخله كـ (إنسان) بسبب بقايا الفطرة والأخلاق والضمير بداخله! فما أتعسه من إنسان يوشك غالبا على الانتحار ليرتاح!

وهذا الصنف الأخير هو موضوع مقالتنا هذه، وفي آلامه وأعراضها وحلولها نتجول!
صورة بيانية لترتيب وسائل الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية (3) حيث يأتي القتل بالرصاص أولًا - ثم الشنق - ثم السقوط من مكان مرتفع - ثم تناول السم - ثم قطع شريان اليد أو غيره.
1- النفاق النفسي وازدواجية المعايير الأخلاقية سببًا للانتحار !
وهو أول عاصفة تعصف بهذا الصنف بسبب الرواسب (الإنسانية) الفطرية التي بداخله! والتي خلقها الله تعالى في كل منا ليميز بين الخير والشر في الحياة أو كما قال سبحانه: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" [سورة الشمس 7: 10]. وأما المضحك المبكي - للأسف - أنه عندما يستجب هذا الصنف إلى تلك الرواسب (الإنسانية) فهو يشقى مع إلحاده! وذلك لأن لوازم الإلحاد المادي هي عدم التقيد بأي شيء معنوي - فإذا أراد في المقابل - وكَحَلٍّ بديل ليريحه من عنائه - أن يزيد من وتيرة التقمص (الحيواني) كملحد على أمل قطع هذه الرواسب (الإنسانية) سريعًا ليتخلص منها ولا تزعجه: فلا تجده إلا وقد زاد نفسه ألمًا وإحكامًا لغرقه في مستنقع الفشل! فمثله في ذلك مثل الواقع في الرمال المتحركة Quicksand ! فإن هو سكن لوضعه واستسلم تجده وقد ازداد نزوله ببطء نحو هلاكه! وإن هو تحرك محاولًا الخروج تجده وقد تسارع نزوله أكثر في الرمال مما لو سكن! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما سر الألم الدائم هنا لهذا البئيس ذي البقايا (الإنسانية)، فهو أنه يجد نفسه مضطرًا للدفاع عن سلوكيات وأقوال غيره من الملاحدة الذين حققوا لوازم الإلحاد من التحرر الظاهري من كل قيد أخلاقي أو قيمي أو عرفي أو ديني تحت دعوى الحرية الشخصية وشعار: "أنا حر إذا لم أضر"! فتجده يدافع عن سلوكيات وأقوال الشاذين جنسيًا! وعن الممارسين للجنس مع الحيوانات! وعن المنادين بالتعري في الشوارع وفي الوقفات! وعن الممارسين لزنا المحارم أبًا أو أمًا أو أختًا أو أخًا في بهيمية أسفل من الحيوان! وعن المنادين بحرية تبادل أو خيانة الأزواج والزوجات حيث لا حرج في الإلحاد في تصريف الشهوة (الحيوانية) مع مَن يريد! والقائمة تطول وتطول وتطول مما يؤلم نفسه ويجرح روحَه في كل يومٍ وليلةٍ عشرات المرات! - تجد ذلك الألم والضياع وتلكم الحسرة في تعليقاتهم في مواقعهم ومنتدياتهم وحساباتهم في الفيسبوك وتويتر وغيره! - فإن سألت هذا الصنف هل ترضاه لنفسك؟ يقول: لا! هل ترضاه لأمك؟ لأختك؟ لزوجتك؟ يقول: لا! وهنا تقف على حقيقة تشتته ونفاقه النفسي وازدواجية المعايير الأخلاقية التي تتصارع في داخله كلما ابتعد عن الدين والفطرة! وإلى أن يُقرر في يومٍ من الأيام علاجًا أخيرًا لحالته وآلامه بالانتحار!



ملحوظة: حتى المؤمنين بإله عندما يرتكبون أفعالًا تتنافى مع (إنسانياتهم) و(فطرتهم) و(أخلاقهم) - كالحروب الظالمة مثلًا ودفع الجنود بالأمر لقتل وإبادة الأبرياء - فإن ردّات الفعل النفسي لديهم تكون غاية في الشقاء والألم الذي يطاردهم العمر كله! وفي هذا الصدد لا يغيب عنا أنه - وإلى اليوم وبعد عشر سنوات تقريبًا - لم تزل تسجل الولايات المتحدة الأمريكية أعلى نسبة (انتحار) لجنودها العائدين من حربي أفغانستان والعراق! حيث أعلن الناطق باسم وزارة الدفاع أن عدد المنتحرين في 2012م وصل إلى 349 منتحر - أي بمعدل منتحر كل 25 ساعة! (4)- في حين وصل العدد إلى 301 منتحر في 2011م!. وأغلب المنتحرين لم يستطيعوا تحمل التبعات النفسية للحرب ولم تنفعهم الجلسات العلاجية، أو أصيبوا بتبلبل التفكير الدائم حتى تشردوا عن الوظائف والأعمال وضاقت أحوالهم ولم يجدوا مَن يساعدهم فانتحروا. وأقول: إذا كان هذا هو حال (المؤمنين) مع عذاب ضميرهم عند تنازلهم عن (بعض) إنسانيتهم وفطرتهم.. فما بالنا بهذا الصنف من الملاحدة إذن؟!

2- عذابٌ مستمر ..
ولعله من عجيب قدر الله تعالى وعدله أن يكون (مصدر) ألم وشقاء هذا الصنف من الملاحدة، هو نفس ما يتغنّى بإنكار وجوده ليل نهار! ألا وهو (نفسه) و(روحه) التي بين جنبيه! وفي ذلك مصيبةٌ والله أيُ مصيبة! إذ لو كان سبب شقاءه حِملٌ على ظهره أو فوق كتفيه لرماه، ولو كان لباسٌ يستره لخلعه، ولو كان بيتٌ يسكنه لتركه، ولو كان زوجةٌ لطلقها، ولو كان مكانٌ لرحل عنه، ولو كان عملٌ لاستبدله، بل ولو كان عضوٌ من أعضائه لقطعه ولكن...
أين يذهب هذا البئيس عندما حمل مصدر شقائه بين جنبيه وداخل قلبه ولازمه بلا انفكاك إلا الموت! أفنستكثر على هذا الظالم لنفسه بعد ذلك أن يلجأ إلى الانتحار ليتخلص من شقاء الليل والنهار؟

صورة تمثل أحد إعلانات اليوم العالمي لمكافحة الانتحار، والتابع لمنظمة الصحة العالمية في العاشر من سبتمبر من كل عام, ومن تصريحاتهم:
As of 2011, an estimated one million people per year die by suicide or "a death every 40 seconds or about 3,000 every day.

اعتبارًا من عام 2011م قرابة المليون حالة وفاة بالانتحار في العام! أو ما يعادل حالة كل 40 ثانية! أو بمعدل 3000 حالة انتحار في اليوم! (5)
مع العلم بأنه في مقابل كل 20 محاولة انتحار كمعدل قياس، واحدة فقط التي تنجح! أي بمعدل محاولة كل 3 ثواني! (6)