بسم الله الرحمن الرحيم

إنها بداية عام دراسي جديد، الجامعة فتحت أبوابها تستقبل الطلاب الجدد... وكنت من بين هؤلاء، تقدّمت للدخول إلى قاعة المحاضراتº لحضور الدرس الأوّل...
جلست وجلست بجواري فتاة شابة وهبها الخالق البارىء من الجمال ما لا يدع الفرد يتجاهلها...

وفي فترة مابين المحاضرات قدّمت لها نفسي وسألتها عن اسمها، فأجابت مع ابتسامة تدل على مدى رقّتها ولطفها في التعامل... تجاذبنا أطراف الحديث، دار حوارنا بخصوص الدراسة والحياة والهوايات... الخ وطغت على لهجتها لكنة أجنبيةº لم تكن تتحدّث العربية، كان كلامها باللغة الفرنسية ولم تكن تتقنها وعلمت منها بعد ذلك أنها لم تكن تعيش في البلد العربي الذي نقيم وندرس فيه وإنّما أتت من أرض بعيدة غلبت عليها البرودة وغطّت الثلوج تلالها وجبالها، وربّما قلوب بعض سكّانها... إنّها من أوكرانيا.

مرّت الأيام وتوطّدت علاقتنا أكثر فأكثر وأصبحنا صديقتين...
علمت منها أنّها تدين بالمسيحية الأرثوذوكسية واغتنمت الفرصة وعرضت عليها اعتناق الإسلام... لكن ذهبت كل جهودي في إقناعها سدى...
والسبب كان غريباً ومُحزناً في نفس الوقت...

إنّ ما أخبرتها به عن الإسلام لم يكن يمتٌّ بأية صلة مع ما كانت تراه من المسلمين، ولو أنّها كانت في بلد أجنبي لكان ذلك أسهلº على الأقل كانت ستقارن هفوات الحياة الأجنبية مع سماحة وحضارة الإسلام والنتيجة ستكون بلا شك في صالح الحق ودين الحق... المُحزن أنّني كنت أحدّثها عن دين هي تعيش وسط من \"يدينون\" بهº تراهم يصومون رمضان [ ] ومنهم من يصلّي، يحتفلون بالأعياد (الفطر والأضحى) ومولد الرّسول و... و...!

كلّمتها عن دين الصّدق والأمانة والمحبّة وهي ترى وتسمع كذباً وغشّاً في الامتحانات وغيبة ونميمة...!!!

حدّثتها عن دين الأخلاقيات العالية والعفّة وهي ترى بنات وذكور يفعلون ما يشاءون وكم ممّن ادّعى الإسلام طلب منها الخروج وأن تأتي له بال\"فودكا\" مع أن الإسلام ينهى عن الخمر والزنى...!!!

حدّثتها عن دين يحث على العمل والنشاط والاجتهاد، وهي ترى كسلاً يعم المكان، وتخلّفاً يتناقض مع مفهوم هذا الدين... من جهة أخرى كانت ترى\"الملتزمين\" و\"الملتزمات\" أولئك من المؤسفº اعتزلوا الناس والمجتمع ولخّصوا الإسلام في زي وعبادات ونكران للغير وابتعاد عمّا يرونه خطأ، وانحلال وصاروا يتعاملون مع الباقي وكأن لديه مرض معدي بل وباء خطير يجب استئصاله أو الحجر عليه والابتعاد كل البعد منه!! مع أن الإسلام دين النصح والإرشاد والبذل والعطاءº كما قال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «الدّين المعاملة» وفي حديث آخر:«الدّين النصيحة»... الإسلام والمسلمين...!
التّطرّفينº تطرّف الميوعة والبعد عن تعاليم الرّحمن وتطرّف من ظنّوا أنّهم على صواب بتلخيص الدين في عبادة إن صحّ القول \"أنانية\".

كان هذا عقدة الموضوع الكبرىº فمن وجهة نظرها ما دام الفرد يعتمد على مبدأ ما في حياته، فمن المفروض أن تظهر آثار مبدئه وعقيدته عليه... فإذا كان المبدأ سليماً كانت النتائج إيجابية، أمّا إذا كانت النتائج سلبية فالخطأ كل الخطأ في المنهج المتّبع، وكان عليّ أن أثبت العكس وأن أريها مدى خطئها في حكمها على أفضل ما حظت به البشرية: الإسلام!

في خضم الحياة والدروس والامتحانات.. ابتعدنا قليلاً عن الموضوع، ثمّ قدّر علينا الافتراق.

بعد مرور سنتين أو ثلاث، شاء الله - سبحانه وتعالى - أن نلتقي من جديد...
مع اختلاف بسيط، لكنه جذريº كنت قد ارتديت الحجاب.! تفاجأت لرؤيتي كذلك، وراحت تسألني عن سبب قراري فاغتنمت الفرصة من جديد، وكلّي ثقة بأنّني سأكون أكثر إقناعاً مع كل ما عرفته عن ديني وكلّ ما أنعم به الله عليّ بعد تديّني...
تلك كانت أكثر اختلافاً من المرّات السابقة، كانت تصغي لي بانتباه وصمت، وكنت أتكلّم وأتكلّم... ثمّ انفجرت بالبكاء على حين غرّة! كانت تمرّ بفترة صعبة للغاية وكانت مشاكلها كثيرة والظاهر أن حديثي عن الله والدين والإيمان [ ] وأمن الإسلام كان قد حرّك فيها شيئاً ما ولكنّها أبت أن ترضخ لذلك وكأنّني كنت أحدّثها عن برّ أمان تجد نفسها في أمس الحاجة إليه لكن لا تعرف الوصول إليه، بل تخاف من اتخاذ الخطوةº فحيرتها زادت أكثر خاصة وأنّ سبب مشاكلها أناس قالوا بأنّهم مسلمون...!!!

وافترقنا من جديد...
وبعد هذا العام، بعد مضي بضعة سنين، التقينا ونحن ننهي دراستنا الجامعية. لكن هذا اللقاء كان حاسماً بالنسبة ليº هي ستناقش رسالة تخرّجها وستتزوّج من مسلم وتغادر معه إلى الجنوب. لقائي هذا كان ربّما الأخير معها، ولن يدوم أكثر من ثلاث أسابيع... دعوت الله من كلّ قلبي أن يشرح صدرها للإسلامº فهي فتاة ذكيّة ولطيفة وتتميّز بصفات حميدة كثيرة، وتوكّلت على الحيّ القيّوم راجية منه التّوفيق. بينما كنت أخطّط لدعوتها من جديدº خطر لي أن أطلب العون من أحد الرّفاق وهو شاب تطوّع لدعوة الرّوس للإسلام، أخبرته بالإشكال الموجود عبر الإنترنت وطلبت منه النصيحة كونه أعلم منّي بأحوال القوم في تلك المناطق، ووضّحت له أنّ الوقت [ ] جدّ ضيّق وأنّني عازمة على النّجاح في مهمّتي هذه المرّة.
فاتّفقنا على بعض الخطوات نقوم بها، كانت أولاها إقناع الفتاة بعدم مقارنة الإسلام بما تراه من قبل بعض المسلمين والتأكيد على تعريفها بالإسلام الحقيقي المُجرّد من كل الشوائب، وفي هذا الإطار اقترح عليّ بعض المواقع المختصة بالدّعوة باللغة الروسية، وكان عليّ إرسالها لها على بريدها الإلكتروني، إلاّ أنني التقيت بها قبل ذلك، كان لقاءً حارّاً فالفراق دام طويلاً وصداقتنا عبر كل تلك السنوات كانت قد اتسمت بالحميمية والودّ. تجاذبنا أطراف الحديث ثمّ سألتها بكل صراحة: كيف أحوالك مع الإسلام...؟؟
فضحكَت وقالت لي: ألازلت تذكرين..؟؟ قلت: ولن أتراجع! تعالي نكمل ما علق بيننا..!
واتخذنا مكاناً جلسنا فيه وقلت لها دعينا نحلّ الإشكال هذه المرّة. تكلّمنا على وجود الله (وقد كانت في بعض لحظات ضعفها تنكر وجوده بحجّة أنّه لا يستجيب لدعواها حين تكون بحاجة إليه)، فاتفقنا على ذلك، وتحدّثت عن وجود الدّارين الأولى والآخرة وعن مغزى وجود الإنسان وأنّه سيحاسب وأخبرتها عن الجنّة، ففاجأتني بردّها الغريب..!: أفضّل أن أذهب مع الرّوس الذين هم قومي إلى النار [ ] على أن أذهب إلى الجنّة مع هؤلاء!

كان من الواضح أنّ الإشكال لا يزال قائماً... رددت بمثال طرحته عليهاº إن العالم مليء بمن يسمّون أنفسهم \"مسيحيين\" ومن المنطقي أن المسيحيين أناس يدينون بدين السيد المسيح والعذراء مريم..؟
ردّتº بنعم!..
فأكملتُ: لكن هل يُعقل بأن يكون شعب يدين بدين أعفّ وأطهر امرأة عرفتها البشرية، اصطفاها الله لطهرها ونقائهاº بلا أخلاق ولا قيم ويظهر في مجتمعه كلّ ذلك الانحلال والآفات الاجتماعية والخُلقية؟ وهل يجوز لنا أن نحكم على دين ومنهاج سماوي بالبطلان لمجرّد إخفاق وضلال أتباعه؟
كذلك بالنسبة للإسلامº الدين الذي اصطفاه - عزّ وجلّ - على باقي الأديان، لا يحق أن نحكم عليه من خلال أخطاء بعض أتباعه ومن لم يفقهوا معناه وقيمه السمحة لسبب من الأسباب. ثمّ تطرّقنا لعلاقة العبد بربّه وأنّ من أبسط الأمور أن يكون العبد شكوراً لنعم الله عليه، كونه - سبحانه وتعالى - خالق البشر المتفضل عليهم بكل شيء...

وركّزت في الحديث على علاقة الحب [ ] المتبادلة التي يجب أن تكون بين العبد وربّه وكيف أنّ الإنسان يجب عليه الثقة بمن خلقه وكرّمه... تحدّثنا عن فائدة الصّلاة وما تمثّله من صلة بين العبد وربّه وحاولت تقريب مفهوم تلك الصّلة بوصف شعور المسلم في صلاته وتضرّعه ودعائه وذكره لله، وكيف أنّه - سبحانه وتعالى - يذكر من يذكره ويغفر له وينعم عليه في الدّنيا والآخرة... وكانت تصغي لكلّ ذلك، ثمّ سألتها إن فهمت مغزى ما أخبرتها به، فردّت أن نعم وأنّها أكثر اقتناعاً، فاغتنمت الفرصة وسألتها إن هي آمنت بوجود ووحدانية الله فأجابت ب:نعم، وهل هي تؤمن بوجود الملائكة [ ] وتوالي الرسل وأن سيدنا محمّد رسول الله وآخر أنبيائه فردّت ب:نعم، وهل آمنت بوجود اليوم الآخر والحساب [ ] فردّت ب:نعم، فما كان منها إلاّ أن نطقت بالشهادتين وبالتالي اعتنقت الإسلام...
كم كانت سعادتي في أوجها حين سمعتها تردّد أنّها تشهد بأن لا إله إلاّ الله وأنّ مُحمّدا رسول الله... يااه! أخيراً..!!!
لكنّني خفت أكثر بعد ذلكº خفت أن تكون قد فعلت مجاملةً لي أو لتضع حدّاً للموضوع، خفت أن أفيق من تلك اللحظات وأجدها لا تزال على ما هي عليه... فانطلقت بعد تلك المقابلة أشتري لها كتيبات إسلامية بالفرنسية أهديتها لها ثم ذهبت إلى الإنترنتº بعثت لها بالمواقع الإسلامية الروسية التي أوصاني بها رفيق الدعوة [ ] إلى الله، ثمّ بعثت أبشّره بإسلامها... انتظرت ردها بفارغ الصبر... حين ردت كدت أطير من الفرح.

لأن حماسها لمعرفة المزيد عن الإسلام وفرحها بالمواقع كان لا يوصف...

حينها أدركت بأنها جادّة في إسلامها، وحمدت الله كثيراً... أخيراً أسلمت الأوكرانية...!