د.أيمن أحمد رؤوف القادري

أمِلَ كثيرونَ من الـمفكّرين في السِّياسة والاجتماع أن تصل البشريّة إلى تحطيم الجدران العازلة بين مكوّناتها، حتّى تستطيع كلّ أطياف الكرة الأرضيّة أن تتلاقى، في غير ساحات الوغى. ولعَلَّهُ قدْ داعبَ أذهانهم أنّ ثمّة ما يجسّد لهم أحلامهم الـموغلة في القِدَم، فإذا بالــمقصود هو العولمة! فكانَ أنْ مُنيتْ هذه الأذهانُ بخيبة أمل فادحة!
ذرَّتِ الـعَولَـمة الرّمادَ في العيون، وسحرت أعين النَّاس، واسترهبتهم....
وعدت فأخلفت، وحدّثت فكذبت، وائتُمِنَت فخانت.... ثمّ خاصمت ففجرت!
ولِهذا بات الكثيرون يتهكّمون بواقِع العولمة، عبر إلصاق تهمة العولَبة بأخطبوطها المتوحِّش، وبات بعضهم يتحدَّث عن مواجهتها بمخطّط متكامل، عنوانه العَورَبة. كأنَّ المعركةَ قد اختُزِلَتْ في حروف تخضع لألعاب بهلوانيّة، بل كأنّ الأمّة أفلست في كلّ ثرواتها، وألقت جِماع أسلِحتها، ومضت إلى ميدان الصّراع الفكريّ والحضاريّ، مغرورة بالدّعابات اللّفظية الّتي تخترعها!
إنَّ الـمعضلة أعقد بكثير من هذا التّبسيط، فالعولـمة تلتهم العالم، وتقضي على خصوصيّات أقطاره، طامحة إلى طمس الهويّات، وشطب الحضارات، والفتك بالثّقافات، مع ما يعنيه هذا الزّحف من تهميش للرّؤية الدّينيّة. وهكذا تُجرِّد العولمةُ الجميعَ من مقوّمات الانتماء، حتّى لا يكون من رابط في الأرض إلاّ الرّأسماليّة، وتسود النّفعيّة الجشعة في الأصقاع، وتهيمن وجهة الـنّظر الغربيّة على أفكار الـــنّاس.
وليسَ رَجماً بالغيبِ أنَّ الإسلام، رغم جراحه الثّخينة، وأوجاعه المريرة، يقضّ مضجع الدّوائر الغربيّة، وهي تمعن في غرس العولمة، تلك الشّجرة الـملعونة، في الأرض. نعم، فليس من اليسير أن تجتثَّ أيُّ قوةٍ في الكونِ، قِــيَماً ضاربة في أعماق الوجدان، قِيَماً نابعةً من حقيقة القرآن، قِيَماً مَصونةً بقرون من الـجهاد، قِيَماً ممتزجة بتراثٍ فائضِ الـمَداد.
وقد كان للّغة العربيّة عبر الـــتّاريخ الإسلاميّ أعداءٌ أدركوا ما لها من مكانة في صون هذا الـدّين، فاجتهدوا في إقصائها عنه، وفي سلخها عن رسالته، حتّى يسهل عليهم أن يحاربوها دونَ أن يُوصَفوا بمناصبة الإسلام العداء. وما نالهم من هذه الـمساعي الخبيثة إلاّ بذل الـــتّعب، وقتل الوقت، وإهدار المال، وفضح الـنّوايا. وظلّت اللّغة تشقّ الـدّرب في أحلك اللّيالي، دون خوف أو ووجل، وتسجّل الانتصارات الـمتتالية، عبر تشعُّب مشتقّاتها، وتوسُّع دلالات مفرداتها، واستيعابها للمستحدثات العلميّة قاطبة، بالـتّرجمة والـنّحت والــتّعريب.
ولكن... من حقِّ الأنفاس أن تُحبَس مجدَّداً، في العقدين الأخيرين، فالّذي يقود العولمة هو الغرب الّذي دخل في حرب قديمة مع المسلمين، عبر حملاته الصّليبية المتتالية.
وهذا الغرب ورث الدّولة البيزنطية الّتي ناصبها الإسلام العداء، حتّى تمكّن من فتح القسطنطينية، فختم بالشّمع الأحمر على تاريخها المديد.
وهذا الغرب وقف مناوئاً للدّولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، وتدخّل في شؤونها تحت مسمّيات متعدّدة، ودعم حركات انفصاليّة عملت على تفتيتها، واحتلّ بجيوشه أجزاء من رقعتها، ثمّ عمل على هدمها، وسارع بعدُ إلى سايكس بيكو، لتقسيم النفوذ في إرثها، وابتدع في مؤتمر سان ريمو بدعة الانتداب.
وهذا الغرب زرع كيان إسرائيل الغاصب فينا...
نعم، من حقّ الأنفاس أن تُحبَس، فالّذي يقود العولمة، بثوبها القذر هذا، لا يرحَمُ، والّذي ينبغي أن يواجه هذه العولمة هو عالم إسلاميّ مكبَّل بنزوات حكّامه، متخبِّط في أزماته!!!
واللّغة العربيّة لا تحضنها مجامع فاعلة، فالصّلاحيّات الّتي توضع في تصرّفها متواضعة، والقرارات الّتي تصدرها لا يضعها أصحاب السّلطة موضع الـتّنفيذ، إلاّ لـماماً، والأموال الّتي تُرصَد لها مُخجِلةٌ إذا ذُكِرَ ما يُرصَد للمؤسّسات المماثلة في الأمم الأخرى، وما ذلك عن فقر ابتليت به الأمّة، ولكنّه الـــتّخاذل الـمُريب!
واللّغة العربيّة تُقصى عن الجامعات الحكوميّة في كثير من بلاد العرب، ما خلا الكلِّـــيّات الّتي تُعنى بالـتّراث، كأنَّـــه حُكِمَ على هذه اللّغة أن تتلبَّس بالــقَديم، وأنْ تُوضَع في الـمتاحف بجانب المومياءات البالية، ويُترَك للّغات الأجنبيّة أن تعالِج الـموادّ العلميّة المعقّدة، وأن تطرق أبواب المعاصرة، لتواكب العولمة ومتطلّباتها الملِحّة، وليُقال بعد ذلك إنّ العربيّة من اللّغات الميّتة، ولا قِبَل لها بالـــحياة الشّريفة الّتي تنعم بها لغة العمّ سام!
وهذا الـحُكْمُ مُجحِفٌ، لأنَّ اللّغة العربيّة استطاعتِ استيعاب ما عرض لها من متغيّرات ومكتشفات، وكانت طيِّعة في أيدي اللّغويّين المخلصين.
وللمرء أن ينظر إلى الشّبكات العنكبوتيّة وما فيها من منتديات متخصّصة ورسائل سريعة ومحادثات مباشرة، وله أن ينظر إلى الحواسيب المعقّدة وما فيها من برامج مُربِكة وأدوات مكتبيّة وتقنيّات بحثية، وله أن ينظر إلى الهواتف الخلويّة ذات الوظائف الشّائكة والجداول الرقميّة والوسائل السّمعيّة والبصريّة، وسيرى المرء بعد هذا كلّه- وما ذكرنا إلاّ غيضاً من فَيض- أنّ لغتنا عبَّرت عن أدقّ تفاصيل البرمجة الكاملة، والتّوليف الـمُحكَم، بوضوح تامّ. والأطبّاء والـمهندسون وذوو الاختصاصات التّقــنيّة ما فتئوا يكتبون الكتب والمقالات الّتي تتناول علومهم، باللّغة الّتي نشؤوا عليها، دون أيّ عائق. والمكتبة العربيّة باتت غنيّة بمعاجم متخصّصة متطوّرة، ترصد المصطلحات العلميّة الحديثة، وما يقابلها من ألفاظ عربيّة. فلماذا افتعال العجز؟
إنَّ الجامعات العربيّة الّتي لم تصبْــها هلْوسَةُ الـعولـمة، ولَــم تقع في فخّ الانبهار بلغة الغرب، حرصت على تدريس أدقِّ الـعلوم التّجريبيّة باللّغة العربيّة، دونَ أن تصطدم بأيّ عوائق، لا في تصنيف الكتب الـمقرّرة، ولا في إعداد المدرّسين، ولا في استجابة الطّلاّب. ولــماذا لا نذكر هنا أنّ الـجامعة الأميركيّة في بيروت ظلَّت سنواتٍ طويلةً في بدايات تأسيسها تدرّس الـطِّبّ وغيره باللّغة العربيّة؟
ومسيرة لغتنا اليوم لن تكون منفصلة عن مسيرتها في القرون الفائتة، لقد تمكّنت من اختراق حصون لغات عديدة، وتركت فيها بصماتٍ لا تُمحى، فكان أن دخلت ألفاظ عربيّة ذات قدر وافر، في الألسنة الشّرقية، كالفارسيّة، والتّركيّة، والهنديّة، وفي الألسنة الأوروبيّة، كالفرنسيّة والإسبانيّة والإنجليزيّة، وهي ألفاظ أقرّ بها جهابذة اللّغة في هذه الألسنة، وهل لهم أن يخفوا الشّمس:
وليسَ يصحُّ في الألبابِ شيءٌ إذا احتاجَ الـنَّهارُ إلى دليلِ
نقول هذا، لنزرع في الـنّفوسِ الـمريضةِ الأملَ الوضّاءَ، ونبعث في القلوبِ القلقةِ الـطّمأنينةَ الواثقة، لا بالعبارات الـمنمّقة، بل بالوقائع الرّاسخة، فاللّغة الّتي اختارها الله- عزّ وجلّ- وعاءً للوحي، لا ينبغي أن يُدرِكَها أيّ قُصور، وهي قد شمخت في وجه الزّمن، واستطاعت أن تردِّد قول الشّاعر:
اِصْبِرْ على مَضَضِ الحسو - دِ، فــــــــإنَّ صَبْــــرَكَ قاتِلُــهْ
فـــــالـــنَّارُ تــــَــــأْكُلُ بــــــعْضَها إنْ لَـــــــم تَجِدْ مـــــا تأْكُـلُهْ
ومن جهة أرى، نقول إنّ رجال القرار الغربيّـــين، وهم يروِّجون للعولمة، باتوا يسارعون إلى دراسة اللّغة العربيّة، وينشطون في متابعة الإعلام الـنّاطق بها، ويُعِدّون مراكز الأبحاث الّتي تلبّي هذه الدّراسة، لأنّـــهم يعرفون أنّ الإسلام هو قوّة الغد، وأنّ حضارته وارثة خزعبلاتهم، وهم يرجون من دراسة لغتنا أن يتمكّنوا من رصد كلّ تحرّكاتنا، دون وسيطٍ مُتَرْجِمٍ، لعلّهم يعرقلون الصّحوة، أو يؤخّرون وصولها إلى مراكز القرار... وربّ ضارّة نافعة! يريدون الأذى بالـمسلمين، فإذا بهم يعتنون بلغتهم، ويعترفون بما لها من أهـمّيـــّــة تستحقّ العناية الوافرة!
وعلاوة على هذا الـمؤشِّر اللاّفت، لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ عالــم الاتّصالات الواسع، حين حوّل الكونَ إلى قرية صغيرة، قدّم خدمات جليّة للّغة العربيّة، فقد أتاح للأمم الأخرى أن تطّلِع عليها صوتاً وصورةً، بجهد ضئيل.
والـمفاجأةُ أنَّ الــمراقبين يتوقّعون مساهمة العولمة هذه في الصّعود باللّغة العربيّة من الرّتبة السّادسة في مصافّ اللّغات العالميّة، إلى الرّتبة الـــثّالثة، في السّنوات القليلة القادمة!
وهكذا نعلم أنَّ لـــغتنا ترفدها كلّ الـــظّروف والـمتغيّرات بقدرة على الانتشار. وهكذا نعلم أيضاً أنَّ عولمة الغرب الــظّالِمة ستنهض على أنقاضها عالميّة الإسلام العادلة، وما هي إلاّ مسألة وقت، ولعلَّ الاصطبار يضيِّق هذا الوقت، فهل نحن فاعلون؟