رابعاً: فقدان النسخ الأصلية لكتبهم المقدسة، وتباين المخطوطات المتأخرة.

يعترف علماؤهم بأن النسخ الأصلية لكتب العهد الجديد مفقودة، وما الموجود الآن إلا نسخ عن تلك الأصول.

ومن المناسب أن يكون بداية لحديث عن إنجيل متى؛ إذ هو أول كتاب من كتب العهد الجديد حسب الترتيب المتداول.

يرى جمهور العلماء من النصارى أن إنجيل متى كتب بالعبرية، ثم ترجم إلى اليونانية.

وبعضهم يرى أنه كتب باليونانية ابتداء.

جاء في قاموس الكتاب المقدس: "واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل الأصلية، فذهب بعضهم: إلى أنه كتب أولاً بالعبرانية أو الآرامية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام.

وذهب آخرون: إلى أن كتب باليونانية كما هو الآن.

أما الرأي الأول: فمستند إلى شهادة الكنيسة القديمة، فإن آباء الكنيسة قالوا: إنه ترجم إلى اليونانية، ويستشهدون بهذه الترجمة. فإذا سلمنا بهذا الرأي التزمنا[80]: بأن نسلم بان متى نفسه ترجم إنجيله أو أمر بترجمته[81].

والذي يفهم من هذا الكلام: أن الإنجيل الموجود هو باللسان اليوناني لا العبراني. وأن القدماء من آباء الكنيسة يرون أن متى ألف إنجيله بالعبرية ثم ترجم إلى اليونانية.

والشيخ رحمت الله الهندي ينقل عن حشد من علمائه القدامى أن متى دون إنجيله بالعبرية، وأن النص اليوناني ما هو إلا ترجمة للنص العبري[82].


من هو المترجم؟


يرى بعضهم أن متى هو المترجم من العبري إلى اليوناني[83]. لكن هذا الأمر ليس مجزوماً به على وجه اليقين.

ويرى بعضهم كابن البطريق النصراني: أن يوحنا – صاحب الإنجيل الرابع – هو المترجم[84].

وينقل صاحب إظهار الحق عن لاردنز قوله: "كتب بي بيس أن متى كتب إنجيله بالعبرانية، وترجمه كل أحد على قدر لياقته". ثم علق الشيخ رحمت الله الهندي على هذا القول: "ترجمه كل أحد على قدر لياقته" بقوله: هذا يدل على أن أناسا كثيرين ترجموا هذا الإنجيل، فما لم يثبت بالسند الكامل أن هذا الموجود ترجمة فلان، وأنه كان ذا إلهام، فكيف تعد ترجمته من الكتب الإلهامية؟![85]

أما كون متى هو الذي ترجمه فيعترف جيروم من علمائهم أن هذا الأمر لم يتحقق ولم يتأكد، كما أنه لم يحقق من معرفة من هو المترجم[86].

ومن المعلوم أن فقدان الأصل المترجم عنه، وكذلك عدم معرفة من هو المترجم يقدح في الحجية ولا شك. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "لقد وددنا أن نعرف ذلك الأصل، لنعرف أكانت الترجمة طبق الأصل أم فيها انحراف؟

ولنعرف أفهم المترجم مرامي العبارات ومعانيها سواء أكانت هذه المعاني تفهم بظاهر القول أو بإشارته، أم بلحن القول وتلويحاته، أم بروح المؤلف وغرضه ومرماه الكلي من الكلام، ولكن عزَّ علينا العلم بالأصل. ولقد كنا نتعزى عن ذلك لو عرفنا المتر جم، وأنه ثبت ثقة أمين في النقل، عالم لا يتزيد عن العلماء، فقيه في المسيحية حجة فيها، عارف للغتين فاهم لها مجيد في التعبير بهما، فعندئذ نقول: ثقة روى عن ثقة بترجمة، ونسد الخلة بتلك الرواية، ونرأب الثلم بتلك النظرة ولكن قد امتنع هذا أيضاً"[87].

يعلم مما سبق أن أنجيل متى كتب بالعبرية على ما عليه جمهورهم، وان النص اليوناني الموجود الآن ما هو إلا ترجمة، وأن المترجم لم يعرف على وجيه اليقين. إضافة إلى ذلك يمكن القول:


إن النسخ الأصلية لبقية كتب العهد الجديد مفقودة، وما الموجود الآن إلا النسخ عن تلك الأصول. جاء في قاموس الكتاب المقدس تحت عنوان نص الكتاب المقدس: "...... إلا أنه لم يصل إلينا بعد شيء من النسخ الأصلية التي كتبها هؤلاء الملهمون أو كتابيهم، وكل ما وصل إلينا هو نسخ مأخوذة عن ذلك الأصل"[88].

ومعلوم أن الكتاب المقدس عند النصارى يشتمل على العهدين القديم والجديد.

ويقول كاتب الموسوعة البريطانية: "إن جميع النسخ الأصلية للعهد الجديد التي كتبت بأيدي مؤلفيها الأصليين قد اختفت"[89].

ثم إن أقدم نسختين كاملتين للعهد الجديد[90] مكتوبتان باللغة اليونانية، وترجعان إلى القرن الرابع الميلادي وهما: النسخة السينائية وقد عثر عليها في سيناء، والنسخة الفاتيكانية وهي موجودة الآن في الفاتيكان[91].

ثم إن هذه النسخ متفاوتة فيما بينها، وفيها فوارق متفاوتة الأهمية وعددها من حيث الكثرة يلفت النظر كما يقول علماؤهم[92].

يقول كاتب الموسوعة البريطانية "... إن مقتبسات أباء الكنيسة من كتب العهد الجديد والتي تغطية كله تقريباً تظهر أكثر من مائة وخمسين آلفاً من الاختلافات بين النصوص"[93].

بل إن نسخة الفاتيكان وهي غاية في الأهمية – في نظرهم – قد تعرضت للتصحيح والتنقيح[94].

هذا وقد شعر بمشكلة اختلاف النسخ جيروم – من علماء القرن الرابع – حيث قال: "إني لما أردت ترجمة العهد الجديد قابلت النسخة التي كانت عندي فوجدت اختلافاً عظيماً"[95] وهذه الاختلافات ليست مقتصرة على المخطوطات المختلفة للعهد الجديد بشكل عام، بل هي قائمة حتى بين النسخ المتعددة للكتاب الواحد.

يقول نينهام[96] في كتابة تفسير إنجيل مرقس: " سوق يتحقق القرآن من أن الإنجيل (أي إنجيل مرقس) قد كتب أولاً باليد، واستمرت هذه الطريقة اليدوية تستخدم لقرون طويلة في إنتاج نسخ منه... ومن بين مئات المخطوطات لإنجيل مرقس والتي عاشت إلى الآن، فإننا لا نجد أي نسختين تتفقان تماماً"[97].


كما أن إنجيل لوقا يعاني من الاختلافات الكثيرة بين النسختين المتعددة على ما يصرح به علماؤهم[98].

لذلك – وبسب فقدان النسخ الأصلية – يقر علماؤهم بوجود إضافات ألحقت بكتبهم المقدسة، بدليل أن النسخ القديمة لتلك الكتب قد خلت منها.

فالأعداد من 9-10 من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس كلام مضاف لا يوجد في المخطوطات القديمة[99]. مع أن هذه العداد تضمن عقائد في غاية الأهمية، حيث تحكي ظهور المسيح – عليه السلام – لتلاميذه بعد القيامة من الموت، ومطالبتهم لهم بنشر تعاليم الإنجيل في العالم اجمع، وأن من آمن ينجو، ومن لم يؤمن يدان، كما تخبر عن فعله لبعض المعجزات، وأخيراً تحكي هذه الأعداد صعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله – تعالى-.

والعدد الثالث عشر من الإصحاح السادس من إنجيل متى كلام أضيف إلى الدعاء الذي علمه المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، ليقولوه في صلاتهم، ونص العدد المضاف: "لأن لك الملك والقوة والمجد آمين". وفرقة الروم والكاثوليك تجزم بإضافة هذه العبارة. وكذلك لا توجد هذه العبارة في الترجمة اللاتينية.


كما رد هذه الإضافة بعض محققي فرقة البروتستنت[100].

وكذلك الإصحاح الحادي والعشرون من إنجيل يوحنا عمل مضاف على ما رجحه بعض علمائهم[101].

وكثير من علمائهم يقطعون بإضافة العدد الثالث والخمسين من الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا وكذلك العدد الأول إلى الحادي عشر من الإصحاح الثامن من الإنجيل نفسه[102]، حيث إن أحدث طبعات الإنجيل حذفت منها هذه الأعداد، وبدأ الفصل الثامن بالعدد الثاني عشر، ومع أن هذه الطبعة تعتبر عن رأي أثنين وثلاثين عالماً من أساتذة النصرانية[103].

ومما حكم بإضافته ما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا[104] فقد جاء فيها: " إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب والكلمة والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد".

لكن المحققين من علمائهم جزموا أن العبارة على النحو التالي: " لآن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد"[105].

ومما يؤكد هذه الإضافة أن العبارة في ترجمة العهد الجديد للكاثوليك هي" والذين يشهدون ثلاثة 7 الروح والماء والدم. وهؤلاء الثلاثة متفقون 8".


ثم تذكر الترجمة في الحاشية تعليقاً على العدد 7 ما نصه: "في بعض الأصول: الأب والكلمة الروح والقدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد". لم يرد في الأصول اليونانية المعول عليها، والأرجح: أنه شرح أدخل إلى المتن في بعض النسخ[106]. والذي يلفت النظر في هذه الإضافة بالذات هي أنها تعطي الشهادة الصريحة على وجود عقيدة التثليث في كتبهم، تلك العقيدة التي يجمع النصارى على الإيمان بها.

كذلك فإن من علمائهم من شكك في صحة النص المتضمن لعقيدة التثليث، والمنسوب إلى المسيح- عليه السلام – والموجود في خاتمة إنجيل متى، والنص كما في الإنجيل المتداول والذي يحكي قول المسيح لتلاميذه: "أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم: الأب والابن والروح القدس"[107].


والسبب في الشك كما يرى صاحب كتاب تاريخ العقيدة د. أدولف هرنك[108].

يعود إلى الأتي: " لم يرد ألا في الأطوار المتأخرة من التعاليم المسيحية من يتكلم عن المسيح وهو يلقى مواعظ، ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من الأموات وأن بولس لا يعلم شيئاً عن هذا.

ثم إن صيغة التثليث هذه هي التي تتكلم عن الأب والابن والروح القدس، غريب ذكرها على لسان المسيح ولم يكن لها نفوذ في عصر الرسل، وهو الشيء الذي كانت تبقى جديرة به لو صدرت عن المسيح شخصياً[109].

هذا وقد حمل علماؤهم النساخ لأسفارهم المقدسة هذه الأخطاء الكثيرة من زيادات وإضافات واختلافات في النسخ المتعددة لتلك الأسفار، حيث أعترف هؤلاء العلماء بأن من النساخ من غلط عن قصد، ومنهم من وقع في الخطأ عن غير قصد[110].

يتبين من خلال ما سبق كم كان الأثر عظيماً من جراء فقدان النسخ الأصلية، إذ ما كانت مثل تلك الاختلافات والإضافات في نسخ العهد الجديد توجد ولو كانت النسخ الأصلية موجودة.

ووجود مثل هذه الاختلافات والإضافات في نسخ العهد الجديد بعامة، وفي النسخ المتعددة للكتاب الواحد، ليدل على أن الأيدي المجهولة قد لعبت دوراً في تلك الكتب، ونسبت إلى مصنفي تلك الأسفار ما لم تخطه أقلامهم، فأي حجية- بعد ذلك- تبقى لمثل هذه الكتب بعد اعتراف المحققين المقدسين لها- من علمائهم- بوجود الاختلافات والإضافات فيها.
يتبع