بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعد:
الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه هو الانتماء إلى هويةٍ, واضحةٍ, ثابتة، هوية مستقلة متميِّزةº فهو الذي يُعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أمماً، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم، لأنَّ الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها.
فما هي هويتنا نحن المسلمون؟ ولمن يكون انتماؤنا؟ وإلى من ننتسب؟ ولأي شيءٍ, نتعصب؟ وعلى أيِّ شيءٍ, نوالي ونعادي؟
في العصور الأخيرة، وبالتحديد في القرن الهجري الماضي، حصل للأمة المسلمة ما يمكنُ أن نسميهِ أو نطلق عليه " بأزمة الهوية "، أزمة تحقيق الانتماء، فحصل فيها ولها من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب، ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها، وإلى هذا اليوم لا تزال الأمةُ تعيشُ هذه الأزمة، أزمة الهوية، أزمة الانتماء، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئةٍ, من المستغربين، و إمَّا بالغش والغُبارية وتكدر الرؤية، عن كثير ممن ينتسبُ لهذه الأمة، سواءً كان من عامةِ الشعوب، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي، أو حتى من الحكومات أو غير ذلك.
لذلك يجبُ أن نحدد هويتنا بدقة، وأن نعرفها بوضوحº لنعرف ما هي حقيقتنا و أهدافنا، وما هو المنهج الذي يجبُ أن نسير عليه؟
فهل هويتنا هي القومية أم الوطنية؟ أم التبعية للشرق أو الغرب أو لهيئة الأمم؟ أم هويتنا هي السير وفق النظام العالمي الجديد؟
ما هي هويتنا نحن المسلمين؟
إن َّالقومية جاءتنا عن طريق الغرب، عن طريق أوروبا، ونشرها اليهود [ ] في تركيا، فأثاروا النعرة القومية الطورانيةº ثُمَّ أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى، فبدل أن يكون الرقم الذي معنا يتعدى الألف مليون، أصبح لا يتجاوزُ مائة وخمسون مليون.
ثم حصل التفرق والانحطاط، هذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية، والتي عبر عنها شاعرهم بقوله:
و أغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك، والفجور والفساد، ونقلوهُ إلى بلاد العرب بصفةِ التقدم والرقي والحضارة.
هل هويتنا هي الوطنية؟!
إنَّ الأوطان رقعةٌ ضيقة، ما الذي يحدها؟ ما الذي يُبَيِّنُها؟ هل هي المكان الذي قضيتَ فيه حياتك؟ وما تحديد هذا الوطن الذي يجبُ أن يتعصب له الإنسان، وأن يوالي عليه وأن يعادي؟ إنَّ الوطن لا يُحد ولا يوضح، فإذا قيل مثلاً: إنَّ أهل مصر [ ] يجبُ أن يتعصبوا لمصر، فسيختلفُ أهل مصر [ ] لأي شيءٍ, يتعصبون: للصعيد أم للقاهرة؟ وأهل الصعيد سيختلفون لأي شيءٍ, يتعصَّبون لأسوان أو لأسيوط؟ إنَّ هذه الهوية لا تحديد لها، وإنَّها تفرقةٌ وضعفٌ وخورٌ في الأمة.
هل ننتمي لهيئةِ الأمم؟ وللشرعيةِ التي يُطنطنون بها، وهي في واقع الأمرِ جاهلية يُسيِّرها اليهود [ ] والنصارى، فنحن كما قال جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * * * ولا يستأمرون وهم شهود
أم هل ننتمي للنظام العالمي الجديد؟ الذي نكون عجلةً من عجلاته، ولكن السائق غربي يقود الحافلة، إلى أي شيءٍ, ننتمي؟ وما الذي يُميزنا عن غيرنا؟ وما الذي يحدد هوية هذه الأمة؟ ما الذي يجعلنا نجتمع على كلمة سواء؟
إنَّ هويتنا أيٌّها ـ الأخ القارئ ـ هي هذا الدين الذي أكرمنا الله به وأخرجنا به من الضلالةِ إلى الهدى، ومن العمى إلى البصيرة، هذا الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي تلتقي عنده وحدة الإسلام، هذه الأمة الكبرى من مشرق الأرض إلى مغربها، فلا يجمعها جنسٌ ولا تجمعها لغةٌ ولكن يجمعها دين واحد، هو هذا الدين الذي اتحدت وائتلفت عليه.
لقد كان المسلمُ يخرجُ من أقصى المغرب وينتقل إلى أقصى المشرق وهو يعتبر الجميع بلاده، بل إنَّهُ ينتقلُ من بلدٍ, بعيد إلى بلد آخر، فإذا جاء احتفى به أهل البلد وعينوه لهم قاضياً و إماماً.
انظر مثلاً إلى ابن خلدون العالم الكبير والمؤرخ، وهو صاحبُ المقدمة التي هي من قواعد علم الاجتماع، ولد في بلاد تونس، وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً، وانتقل إلى مصر [ ] فعينوه فيها قاضياً، وهكذا كانت الأمة:
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً *** الشام [ ] فيه ووادي النيل سيانِ
و كل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ, *** عددت أرجاءه من لب أوطانِ
بل إنَّ تاريخ هذه الأمة المسلمة يتعدى الألف وأربع مائة سنة، الماضية إلى أعماق التاريخ، إلى يوم أن أنزل آدم – عليه السلام – إلى هذه الأرض، منذ أن وجد الإسلام على هذه الأرض وذاك هو تاريخنا.
إن َّالأمة المسلمة أمة واحدة من عهد آدم عليه السلام كما قال الله تعالى: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاعبُدُونِ)) (سورة الأنبياء: 92).
وقال سبحانه في سورة المؤمنون: ((يَا أَيٌّهَا الرٌّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيمٌ)) (سورة المؤمنون: 51).
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسلاَمُ)) (سورة آل عمران)، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثم أتباعهم من المؤمنين، ولذلك فنحن نتفاعل مع قصص الأنبياء [ ] عندما نقرؤها في كتاب الله جل وعلا، فعندما تقرأ سورة يوسف، أو عندما تقرأ قصة إلقاء أبينا إبراهيم في النار، أو عندما تقرأ قصة موسى مع فرعون تحس بشعور غريب، كأنما أنت ممن شهد الحدث، وممن هو معني به، كما أنك أيضاً عندما تقرأ هذه القصص تجد في نفسك العداوة للطواغيت فرعون وهامان وقارون، كما في نفس الوقت [ ] تعادي أبا جهل وأُبي بن خلف وعبد الله بن أُبي ومن تبعهم إلى عصرنا.
إن هذا هو الشعور الواحد شعور الأمة الواحدة، كما قال الله سبحانه: ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ, مِّلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمينَ مِن قَبلُ)) (سورة الحـج: 78) هو: أي الله عز وجل، سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا: أي في هذا القرآن: ((لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَولَاكُم فَنِعمَ المَولَى وَنِعمَ النَّصِيرُ)) (سورة الحـج: 78) ز
ويقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه: ((ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثى جهنم، قيل: وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)) ([1]).
إنَّ لنا ثلاثة أسماءٍ, سمانا الله بها (المسلمين)، (المؤمنين)، (عباد الله)، إذن دعوى الجاهلية التي جاءت في هذا العصر الحديث، وتوعد عليها بأنَّ صاحبها من حثى جهنم هو كل تعصب لغير هذا الدين، سواءً كان تعصباً لجنس، أو لقبيلة، أو لوطن، أو لأرض، أو لقومية، أو لغة، فكل تعصبٍ, لغير هذا الدين على غير حق فصاحبه قد دعى بدعوى الجاهلية.
فالتعصب للأوطان أو للأنساب، أو الدعوة [ ] للقومية أو الوطنية هو أمرٌ من أمور الجاهلية، فكيف بالسعي لتعميق هذه الانتماءات، ثم أيضاً التفريق بين الناس على هذا الأساس، ووزنهم بهذا الميزان: ميزان القوميات والوطنيات واللغات والأجناس؟ إنَّ هذا كلَّهُ من دعوى الجاهلية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [ ] رحمه الله تعالى: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من غراء الجاهلية).
و قال ابن القيم [ ] رحمه الله تعالى: " الدعاء [ ] بدعوى الجاهلية كالدعاء [ ] إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثلهُ التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به، فكلٌّ هذا من دعوى الجاهلية ".
ثم نتذكر القصة المشهورة التي رواها البخاري [ ] ومسلم عندما ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، فقال المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي [ ] صلى الله عليه وسلم: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها خبيثة، دعوها فإنها منتنة)) رواية البخاري [ ] ((دعوها فإنَّها خبيثة))، ورواية مسلم: ((دعوها فإنها منتنة))مع أن هذه " يا للأنصار يا للمهاجرين " أوصاف يحبها الله ورسوله، فإنَّ الله عز وجل سمَّى المهاجرين بهذا الاسم، وهو الذي سمى الأنصار بهذا الاسم فقال: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ,)) (سورة التوبة: 100) ومع ذلك لما أصبحت الدعوة [ ] هنا على غير حقٍ, تعصب للباطل، أصبحت من دعوى الجاهلية، فكيف بغير ذلك أيٌّها الأخ الكريم.
ومما يجدرُ أن نذكره في هذا الحديث ما ذكره بعض الدعاة إلى الله عز وجل عن قصةٍ, مؤثرة ينبغي أن نأخذ منها عبرة...يقول:
(أنه عقدت ندوة في فلسطين [ ] المحتلة عام 1980هـ وبالتحديد في 19/12/1980هـ، حضرها من مصر [ ] الدكتور مصطفى خليل رئيس وزراء مصر [ ] الأسبق وحضر هذه الندوة عددٌ من الأساتذة اليهود [ ] المتخصصين في الشؤون السياسية والعربية، فقال خليل هذا: ((أودٌّ أن أطمئنكم، أننا في مصر [ ] نفرق بين الدين و القومية، ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية)، فوقف أحدُ اليهود [ ] بروفيسور اسمه " دافين " قائلاً: ((إنكم أيٌّها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكنني أحب أن أقول لكم، إننا في إسرائيل نرفضُ أن نقول إنَّ اليهودية مجرد دينٍ, فقطº بل إننا نؤكد لكم أنَّ اليهودية دينٌ وشعبٌ ووطن)، وقام آخر البروفيسور " تيفي ياقوت " وقال: (أودٌّ أن أقول للدكتور مصطفى خليل، أنَّه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية، و إننا نرفضُ أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرد أصحاب دين لا قومية، فنحنُ نعتبر اليهودية دينناً وشعبناً و وطننا) إلى آخر كلامهِ الذي ذكر فيه أن القومية أوروبية المنشأ والمصدر، وأنَّ الأوربيون صدروها إلى الشرق.
ألا شاهت وجوه الناعقين بالانتماء لغير الإسلام، الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، فلهم أقول: خذوا الدروس من هذا اليهودي إذا كنتم قد صددتم عن أخذ الدروس من الكتاب والسنة.