بسم الله الرحمن الرحيم


أولاً: مجمع نيقية والصراع بين الموحدين والثالوثيين:

لم يتم انتشار النصرانية الثالوثية (مذهب بولس الجديد) إلا بعد صراع طويل مع النصارى الموحدين، تم حسمه أخيراً بقوة السيفº فقد تصدى تلاميذ المسيح المخلصون لأقوال (بولس)، وتشير أعمال الرسل ـ كما تسمّى في العهد الجديد ـ إشارة دائمة إلى أعداء (بولس)، وإلى صراع معهم أينما ذهب بغلاطية، وكورنثوس، وكولوسي، وروما، وإنطاكية(5).



ويشير المؤرخون إلى أن النصرانية ربما كانت الأكثر انتشاراً في القرون الأولى لميلاد المسيح - عليه السلام -، وكانت المشكلة الكبرى هي تبني الكنيسة الرومانية لعقيدة التثليث، والعمل على نشر ذلك بالقوة، وقد توالت الثورات والمذابح بسبب هذا الموقف، وكان أشد هؤلاء الثوار الموحدين خطراً هو (آريوس) الليبي المولد، ونظراً لانقسام الدولة الرومانية بين قوادها في مطلع القرن الرابعº فقد رأى (قسطنطين) أن يستعين بالنصارى في حربه ضد خصومه، وعندما انتصر في أحد معاركه تحت شارة الصليب رأى أنه مدين لهذه الديانة بالفضل، وعندما وجد الخلافات المذهبية قائمة وتهدد وحدة الإمبراطورية دعا أساقفة جميع الولايات لحضور مؤتمر عام في (نيقيا)، وفي مايو عام 325م افتتح بنفسه رسميّاً هذا الاجتماع الجليل ـ وهو أول المجامع المسكونية الكنسية ـ وأعرب عن أمله ورجاله في أن تتم وحدة المسيحيين واجتماع كلمتهم(6).



ويقدم (يوسبيوس) (260 - 340) أبو التاريخ الكنسي، والذي لعب دوراً هاماً في اجتماع نيقية «وكان المجلس عاصفاً، ولما قام (آريوس) المسن ليتكلم لطمه على وجهه شخص هو (نيقولاس الميري)، ثم هرول الكثيرون بعد ذلك إلى الخارج، وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم في رعب مفتعل من هرطقات الرجل.. وتمخض هذا المجمع عن بيان
العقيدة [ ] النيقية وهو بيان «ثالوثي» دقيق، وناصر الإمبرطور هذه العقيدة [ ] الثالوثية»(7).



وإلى هنا أتوقف عن الحديث عن النصارى الموحدين، وتطورهم التاريخي بعد ذلكº حيث أجاد الدكتور (سفر الحوالي) الكتابة في هذا الموضوع في الدراسة التي نشرت بالبيان عدد (شعبان)، ويمكن الرجوع أيضاً في ذلك إلى كتابنا الإسلام والغرب الأمريكي.



* مجمع خلقيدونية:

انعقد مجمع خلقيدونية في المدينة التي سمي بأسمها عام 451م بناء على دعوة الإمبراطور مرقيانوس، والإمبراطورة بولخاريا لانعقاد هذا المجمع بناءً على طلب أسقف روما الذي احتج على قرارات المجمع المسكوني الرابع سنة 449م، الذي قرر أن السيد المسيح بعد تجسده صار اتحاد اللاهوت والناسوت في طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، ومن ثم فقد قرر مجمع خلقيدونية إلغاء قرارات المجمع السابق الذي دعا إليه (تاؤدسيوس الصغير) الإمبراطور، والذهاب إلى أن السيد المسيح بعد تجسده كان له طبيعتان: لاهوتية، وناسوتية. ومشيئتان: لاهوتية، وناسوتية. وقد نتج عن قرارات هذا المجمع انقسام الكنيسة إلى شطرين:

الشطر الأول: يضم كنيسة رومية والقسطنطينية اللتين اعتنقتا المعتقد القائل بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.

الشطر الثاني: ويضم كنيسة الإسكندرية ومن اتبع خطواتها مثل: السريان، والأرمن، وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن طبيعة المسيح هي الطبيعة الواحدة (أي اتحاد اللاهوت والناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير)، وتم نفي (ديسقورس بابا الإسكندرية) على أثر ذلك، والذي قام بإرسال تلميذه (يعقوب) إلى
مصر [ ] لتثبيت أتباعه على معتقده، ومن هنا كانت تسمية بعض المؤرخين للأرثوذكس المصريين باليعاقبة.



ويذهب القمص (زكريا بطرس) إلى أنه: «قد تدخلت الأغراض والمطامع الشخصية في التفرقة بين صفوف الكنيسة الواحدة ـ الأولى أن يقول في اختراع المعتقدات ـ رأينا مجهودات بابا روما ضد البابا (ديسقورس) لا لشيء سوى الغيرة والأنانية ـ فقد أوكل الإمبراطور إلى (ديسقورس) رئاسة المجمع المسكوني الرابع، فعز على (بابا روما) الذي كان يطمع في هذا ـ فعمل على سحق (ديسقورس)، وتم له ذلك في مجمع خلقيدونيةº حيث استباح له ضميره أن يقسم الكنيسة إلى شطرين، ولكن نار الغيرة لم تقف عند هذا الحد فنظر (بابا روما) إلى بطريرك القسطنطينية ـ عاصمة الدولة الرومانية في ذلك الحين ـ وما وصل إليه من مركز مرموق أقر مجمع خلقيدونية 451مº فمنح بطريرك الإسكندرية حق الزعامة والتقدم، فاحتج أسقف روما، ووقف الخصمان وجهاً لوجه في نضال وشجار حول لقب «الأعظم». ثم من جهة أخرى قام شجار آخر عنيف بين الكنيستين حول إضافة كلمة إلى قانون
الإيمان [ ] ـ وهي كلمة «الابن» التي أضافتها كنيسة روما إلى قانون الإيمان [ ] عن الروح القدس [ ] عند القول: «نعم! نؤمن بالروح القدس [ ] الرب المحيي المنبثق من الأب ـ وهنا تضيف كنيسة رومية كلمة «والابن» فيقولون المنبثق من الأب والابن».



وكان نتيجة لهذا أن اعترضت كنيسة القسطنطينية على ذلك، واعترضت أيضاً على بعض العادات الكنسية التي وضعتها كنيسة رومية كضرورة بقاء الكهنة غير متزوجين، وظل النزاع قائماً بين الكنيستين حتى سنة 1053مº حيث أصدر (بابا روما) حكم الحرمان على أسقف القسطنطينية، فلم يكن من هذا الأخير إلا أن أذاع على العالم أن كنيسة روما قد هرطقت.



* النصرانية في الميزان:

وقد نتج عن هذا الصراع والشجار انقسام للخلقيدونيين إلى شطرين:

الأول: كنيسة رومية، وسميت بالكنيسة الكاثوليكية أو اللاتينية أو الغربية، وكنيسة القسطنطينية التي سمت نفسها الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية تمييزاً لها عن الكنائس التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية(1).



* انقسام الكنيسة الكاثوليكية:

لرجال الدين النصارى الغربيين التابعين للكنيسة الكاثوليكية تاريخ طويل في الثورة عليها، ولكن أول الأعلام البارزين من هؤلاء (هوجون ويكلف 1320- 1384م) أستاذ اللاهوت الإنجليزي الذي ذهب إلى أن العلاقة بين الله والإنسان علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة الكنيسة، وأن أعظم ما تحتاجه الكنيسة هو التخلص من أملاكها الدنيوية المتزايدة. وقال: «إن المسيح والقديسين لم يأتوا إلى الناس بشيء من صكوك الغفران، وأن الأحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة، وينهبون بذلك أمو
الهم [ ] لعنة الله عليهم».



أما زعيم البروتستانتية الأكبر فهو (مارتن لوثر) الذي كان متأثراً باليهودية تأثراً كبيراً، ويرى أن العهد القديم حجب العهد الجديد. ولكن من ناحية أخرى فهناك شواهد تدل على تأثر (لوثر) بالزرادشتيةº فقد نسب إلى فعل الشـيطان ظواهر شتى لا تسر مثل: سقوط البرد، والرعد، والطاعون، ولكن فلسفته ازدادت قتامة باقتناعه بأن الإنسان بطبيعته شرير وميال للإثم، وأنه ليس هناك مــن هــو مسيحي، أو ورع بفطرته، ويـرى أنـه لا يمكن لقدر من الأعمال الصالحة أن تكفِّر عن
الذنوب [ ] التي اقترفها خير الناس، «ولا يمكن أن تكفر خطايا البشر إلا تضحية المسيح المفتدية - آلام ابن الله وموته ـ ولا يمكن أن ينجينا من عذاب جهنم إلا الإيمان [ ] بهذا التكفير [ ] الإلهي»(2)º مما شكل ثورة على الكنيسة في الغرب إلى قسمين: كاثوليكية، وبروتستانتية.



بدأت ثورة (لوثر) على الكنيسة الكاثوليكية برفضه للشهادة على فاعلية صكوك الغفران التي يصدرها الباب ويتم الاتجار فيها لإعفاء الناس من الخطيئة، ورأى أن سهولة إصدار هذه الصكوك والاتجار فيها «قد أضعف الإحساس بالندم الذي يجب أن يثيره ارتكاب الإثم، وجعل الخطيئة تبدو أمراً تافهاً يمكن تسويته وديّاً بصفقة تعقد مع بائع يتجر بالغفران»(3).



وبعد انضمام عدد من علماء اللاهوت إليه، واشتداد صراعه مع الكنيسة ارتفع صوته عالياً بالقول بأن: «البابا زعيم لص، وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة، وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة، وبالوعة ليس لها قرار من الظلم، ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟ »(4).



وقد زار (لوثر) روما عام 1510م ولكنه وصفها بعد الثورة بأنها تدعو إلى المقت، وقال: «إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين، وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت ذلك»(5).



ويتم التساؤل: كيف من الممكن للاهوت غير جذاب كهذا أن يحرز رضا مئات الملايين من الناس في سويسرا، وفرنسا، واسكتلندا وإنجلترا وخصوصاً في أمريكا التي هي موضع دراستنا؟ بل نتساءل إلى أبعد من ذلك عن مدى علاقة تلك الجبرية المروعة بسلوك البيورتانيين الإنجليز أتباع (كالفن) في أمريكا الذي تميز بالإجرام والوحشية؟ ويجيب المحللون على ذلك بأن هؤلاء خصوصاً البيورتانيين (المتطهرين) رأوا في أنفسهم أنهم ينتمون إلى تلك الصفوة القليلة التي كتب لها الخلاص في
القدر [ ] الإلهي، وأن ذلك الخلاص تبعاً لفكر (كالفن) ومن قبله (لوثر) لا يتعلق بشكل السلوك أو الأعمال التي يتخذونها خصوصاً عندما يكتمل الإيمان [ ] بالاعتقاد بأن من يمارسونه ضدهم من تلك الكثرة الغالبة التي قدر عليها العذاب. كما أنه من الجدير بالقبول تلك المقارنة التي يشيع بين المحللين عقدها بين عقيدة هؤلاء البيورتانيين (المتطهرين) وبين عقيدة الشعب اليهودي، وقد أشرنا فيما سبق لمدى تأثر (لوثر) نفسه بالعهد القديمº فكلا الفئتين تعتقد بالاختيار الإلهي لها، وأن لديها مهمة مقدسة في تطهير الأرض الموعودة (فلسطين [ ] بالنسبة لليهود وأمريكا أو إسرائيل الجديدة بالنسبة للإنجليز



----------------------------------------

(*) النقد للديانة النصرانية علم قائم بذاته تجده في (علم مقارنة الأديان)، قام به العديد من الدارسين الغربيين وغيرهم، ومن آخرهم المفكر الغربي (موريس بوكاي) في كتابه الشهير (الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)، والذي على أثره أثبت تحريف الإنجيل، وسلامة القرآن وصحة النص القرآني. - ^ -

(1) وقد شرحت هذا الكلام في مجلة البيان العدد (204).

(2) نقلاً عن (ول ديورانت) قصة الحضارة.

---------------------------------------------------------

(1) الفرِّيسيون: هم الطائفة اليهودية المنافسة لطائفة الصدوقين المختصة بالكهانة، وتمتاز عنها بكثرة العدد، وشيوع المبادئ والآراء، وحسن السمعة بين سواد الشعب، وقد كانوا هم الذين يثورون على السلطان (الرسمي)º حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية) د. عبد الغني عبود، المسيح والمسيحية والإسلام، ص 45 ـ 46.

(2) راجع في ذلك رضا هلال (المسيح اليهودي) و د. عبد الغني عبود (المسيح والمسيحية والإسلام)، ص 86.

(3) قصة الحضارة: مج6 ج1، ص 263.

(4) المرجع السابق: مج6 ج1 ص 263، 264.

(5) المثرائية: ديانة وثنية، ترتكز حول بعض الخفايا التي عفى عليها اليوم النسيان، تتخيل (مثرا)، وهو يضحي بعجل مقدس. ويلوّح أن جميع المقاصير المقدسة المثرائية تزدان بصور (المثرا)، وهو يذبح ذلك العجل الذي ينزف من دمه نزفاً عظيماً من جرح في جنبه، ومن ذلك الدم نشأت حياة جديدة.

(6) معالم تاريخ الإنسانية: مج 2ج 1، 706.

(7) المرجع السابق، مج2 ج1 ص 706: 707.

(8) الحضارة الهلينية، ص 38، 39.

(9) نقلاً عن ول ديورانت، قصة الحضارة: مج 12 ج 2 ص 56.

(10) نقلاً عن المرجع السابق: مج 19 ج 2 ص 201.

-----------------------------------------------------------------------

(1) نقلاً عن المرجع السابق، قصة الحضارة: مج 8 ج 2 ص5.

(2) نقلاً عن المرجع السابق، ص 6.

(3) نقلاً عن المرجع السابق.

(4) وقد أوردنا الكثير من الشواهد في هذا الموضوع في كتابينا: (حقيقة
العلمانية [ ] والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين) و (الإسلام والغرب الأمريكي بين حتمية الصدام وإمكانية الحوار).

(5) رضا هلال - المسيح اليهودي ونهاية العالم، ص 58.

(6) م. ب. تشارلزورث - الإمبراطورية الرومانية، ص 214.

(7) ول ديورانت - قصة الحضارة: مج6 ج1 ص 392.

----------------------------------------------------------------------

(1) راجع فيما سبق القمص (زكريا بطرس) - موجز تاريخ انشقاق الكنائس - موقع المسيحية في الميزان.

(2) نقلاً عن ول ديورانت: مج 12ج 2، ص 62.

(3) نقلاً عن المرجع السابق، ص 58.

(4) نقلاً عن المرجع السابق، ص 26.

(5) نقلاً عن المرجع السابق، ص 15.