بسم الله الرحمن الرحيم

في عام 1969 حصل الباحث الصهيوني «يهوشع براور» على جائزة «الدولة» لقيامه بإنجاز دراسة استنتج بموجبها أن ما جرى للصليبيين في فلسطين [ ] لن يتكرر مع الكيان الصهيوني مجدداً في بلادنا، وفي واقع الأمر لم تكن تلك الجائزة في ذلك الوقت [ ] بالتحديد - والذي شهد تحولات فلسطينية وعربية كثيرة - لم تكن أمراً عرضياً، أو أمراً أكاديمياً صرفاًº بل كان الكيان الصهيوني بتلك الجائزة يحاول طمأنة نفسه، وطمأنة اليهود [ ] الوافدين أن مستقبلهم لن يكون إلى البحر كأسلافهم الصليبيين، وكما يقول «يوري أفنيري»: (إن الصليبيين حاربوا طيلة ثمانية أجيال ليجدوا أنفسهم وقد القوا إلى البحر، ومن هنا يتوجس اليهود [ ] من أن يصل التشابه إلى هذا المستوى).
ففي هذه العبارة الصريحة يُعبّر «افنيري» عن الهاجس الذي يشغل اليهود [ ] خصوصاً وأنهم أنشئوا كيانهم في ظرف استثنائي ناتج عن الشرذمة التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية، وهي حالة شبيهة بالحالة التي نشأت فيها مملكة بيت المقدس اللاّتينية، في ظل ظروف مماثلة عاشتها المنطقة لحظة بدء الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.
فالخوف من ملاقاة ذات المصير دفع باليهود [ ] إلى قراءة المنطقة العربية والإسلامية قراءة ذات بعد استراتيجي بغية إدراك مواطن الضعف، والعمل على استمرارها، واكتشاف مواطن القوة وكيفية التعامل معها، لإدراك هذا الكيان أنه كيان غريب لا ينتمي لجغرافية المنطقة، وبالتالي لا يمتلك ما يلغي لديه المخاوف الأمنية التي تبقى شغله الشاغل.

استشراق مبكر:
كانت بداية الاستشراق اليهودي على موائد الاستشراق الأوروبي، والذي ساهم في خلق المفاهيم والرؤى السلبية تجاه المنطقة العربية والإسلامية، وبهذه الرؤية السلبية انطلق اليهود [ ] في استشراقهم، وتميزوا عن الاستشراق الأوروبي في طبيعة عملهم، فكانت محاولات المستشرقين اليهود [ ] التركيز على ما يسمى بـ «الإرث العبري» ومحاولة نقل هذه الفكرة إلى داخل العقلية الأوروبية على اعتبار أن اليهود [ ] هم جزء من الشرق، وأن إعادتهم إليه مسألة أخلاقية، ولا توجد فيها دوافع استعمارية، خصوصاً مع بروز التيار البروتستانتي، ومحاولات تأكيد الرؤية التوراتية للمنطقة.
لذلك كانت الأبحاث الاستشراقية اليهودية في تاريخ العرب وجغرافيتهم هي مهمة ذات بعد صراعي يُستخدم فيها التاريخ بمدلولاته، وتستخدم الدراسات - بعد تزييفها في معظم الأحيان - كأداة لبناء منظومة من الرؤى والمفاهيم، ومحاولة تصديرها على أنها حقائق تاريخية ثابتة.
لذلك سعى المستشرقون اليهود [ ] إلى فكرة ربط اليهود [ ] بالمنطقة العربية وتحديداً فلسطين، فعمل المستشرقون اليهود [ ] على توجيه الاستشراق الغربي نحو هذا الهدف من خلال رسم هيكلية المنطقة العربية والإسلامية وفق المنظور الاستشراقي اليهودي، رغبة منهم في أن يسير الاستشراق الغربي على خطى الاستشراق اليهودي، حيث عمل المستشرقون اليهود [ ] على استحضار عوامل صراع شرقي - غربي بغية حشد الغرب في خندقهم، واستخدمت في ذلك آلاف المطبوعات الصادرة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، والتي تصل بسهولة ويسر للباحثين الغربيين في سنوات دراستهم الأولى، مما يجعل التحرر من هذه الأفكار أمراً صعباً.
لذلك يأتي الاستشراق اليهودي ليكون مكملاً لما بدأ به الاستشراق الغربي، ثم ليعمل على إدماج النتائج المعرفية في شؤون العرب والمسلمين وفق مسار محدد، يراد من خلاله المنطقة برمتها، وجعلها في أذهان الأوروبيين والغرب عموماً خلاف ما هي عليه في محاولة إثبات ما يسمى استمرارية «التاريخ اليهودي» في فلسطين [ ] وحولها تحديداً.
لذلك جاءت محاولات كتابة ما يسمى «التاريخ اليهودي» خلال الحملات الصليبية، فأظهرتهم تارة محاربين - وهو أمر ينافيه العقل - فقد كانوا يدفعون الجزية وهذا ثابت في كل الكتابات التاريخية، فكيف يمكن لهم أن يكونوا محاربين، ثم تأتي محاولات إلصاقهم بالأرض من خلال وصفهم كمزارعين، إضافة إلى نفي الهوية الواحدة لعرب فلسطين، وجعل الهوية اليهودية لفلسطين [ ] هي المسألة المركزية في أذهان الغرب.

تطور الاستشراق:
بعد نكبة عام 1948تطور الاستشراق اليهودي تطوراً كبيراً، فلم تعد الأهداف الصهيونية محاولة إثبات ما يسمى «التاريخ اليهودي» فحسب بل تعدى ذلك إلى دراسة التاريخ والجغرافيا، والعادات والتقاليد وكل ما أمكن عن المنطقة.
من هنا إن كان الاستشراق الغربي قد تركز حول مساعدة المؤسسات الغربية على تحقيق طموحاتها وتطلعاتها في الهيمنة، فإن الاستشراق اليهودي تجاوز ذلك ليجعل المنطقة برمتها تحت أنظاره، فالاستشراق الصهيوني اليوم يدرس أحوال المسلمين من ماليزيا وحتى تركيا وأفريقيا، ناهيك عن أحوال العرب المسلمين.
والاستشراق اليهودي الجديد يزحف ليحل محل الاستشراق التقليدي من خلال تحويل الاستشراق ذاته إلى استخبارات في الميادين الاستراتيجية كافة، لتمكين هذا الكيان من الاستمرار في تحقيق التفوق، وإنما يعكس ذلك الطبيعة العنصرية لهذا الكيان، من خلال استخدام الجوانب المعرفية بغية تحقيق السيطرة، والهيمنة على المنطقة برمتها.

اهتمام بحثي:
عندما نعلم أن الجامعة العبرية تخصص قرابة نصف ميزانيتها للمشاريع البحثية ندرك أهمية الأبحاث في العقلية الصهيونية المعاصرة، فيكون الباحثون أشبه بأداة استشعار عن بعد، ترصد المخاطر التي تواجه المشروع الصهيوني في بلادنا، فلقد سبق مشروع بناء الجامعة العبرية في القدس [ ] والذي جاء عام 1918 بمساعدة بريطانيا، سبق نشأة هذا الكيان، وكانت خطط بنائها قد وضعت في نهايات القرن التاسع عشر، وهي منذ تشكلها تحث الباحثين اليهود [ ] على دراسة الشؤون العربية كافة، ويتم تقديمهم في المجتمع الصهيوني على أنهم «خبراء الشؤون العربية»، حيث يعمل الكثير منهم مستشارين سياسيين وأمنيين لدى القادة العسكريين.
فالصهيونية التي وضعت نفسها وسط تشكل عربي وإسلامي، بدأت بدراسات مفصلة للتعرف على مكامن القوة والضعف، لامتلاك مصدر معرفي يساعدها في تعميق التناقضات، وصياغة خطاب وبرنامج ميداني للتعامل مع العرب وفق توالي الظروف السياسية وغيرها.
لذلك فالاستشراق اليهودي ليس ترفاً فكرياً، ولا ينبع من حاجات الإنسان إلى ثقافة محددة، إنما عليه أن يستطلع أحوال العرب والمسلمين من ماليزيا وحتى ساحل العاج، وبالمقابل فإن أمامه مهمة أخرى، وهي تعزيز الانتماء لليهود القادمين من الخارج من أجل التحفيز على الاستمرارية في بناء المشروع الصهيوني، ولا يتم ذلك إلا بإقامة عشرات المؤسسات البحثية، والعمل على صناعة الباحثين وصياغتهم من خلال مؤسسات الاستيعاب، فتجد الباحث الصهيوني والذي يريد دراسة أي من القضايا العربية يحصل على امتيازات خاصة، وتوضع أمامه إمكانات كبيرة لإنجاز مهمته.

دراسة وتعبئة:
فالحروب في الاستشراق اليهودي تشكل مادة بحثية أساسية، وتأتي دراستها وتحليل دورها في السياق العام للسياسة الصهيونية، والوقوف على النتائج والاستخلاصات التي أفضت إليها تلك الحروب بغية إدماجها في رؤية مستقبلية للصراع لتحاشي التقصير، وتشغل معركة حطين الباحث الصهيوني ليس من خلال دلالاتها العسكرية فحسب بل ومن خلال دراسة الظروف التاريخية التي سبقت هذه المعركة، والعمل على منع تكرارها من جديد، بما يشكل ذلك مصدراً للرعب لدى الكيان الصهيوني.
ففي عام 1987 وعلى إثر انطلاق الانتفاضة الأولى المباركة أقام الكيان الصهيوني مؤتمرا أعقبته العديد من الندوات، وذلك في ذكرى مرور800 عام على معركة حطين، وحاول الباحثون الصهاينة من خلال ذلك التذكير من جديد باختلاف التجربة بين الحملات الصليبية وبين الصهيونية.
وبكل تأكيد إن أعمال هذا المؤتمر لم تكن موجهة لغايات بحثية أكاديمية، وإنما جاءت موجهة إلى صميم المجتمع الصهيوني الداخلي، والذي بدأ يرى مع الانتفاضة صورته الغريبة عن المنطقة، ومن خلال التعاطف العربي الشعبي والإسلامي بدأ يلمس من جديد الظروف التاريخية التي سبقت معركة حطين، بما يشكله ذلك من هاجس يؤرق سريرة الصهاينة.
وهنا نلاحظ مهمة جديدة للاستشراق اليهودي أنه أخذ يخاطب المجتمع الصهيوني من الداخل بغية جعل المجتمع الصهيوني في حالة توحد مع المؤسسة العسكرية والتي لها مفهومها الخاص للأمن، فمفهوم الأمن لأي دولة يعني حماية الحدود، إلا أن هذا الكيان يرى أن مفهوم الأمن بالنسبة إليه يعني «الوجود ذاته» لذلك مع انطلاق الانتفاضة المباركة لم يعد مفهوم الردع للأنظمة العربية يعني له الكثير بسبب التماس المباشر بينه وبين أصحاب الأرض.
ومن هنا نجد مفهوم الأمن إنما يستند على رؤية استشراقية من صميم الدراسات التاريخية استخلصها الباحث الصهيوني دان هورو فيتش وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، حيث يقول «هنا تكمن فرصتنا الأخيرة، فإما الوجود والاستمرار بأي ثمن، وإلا فإن أمامنا الفناء النهائي».

رعب دائم:
ما جرى للصليبيين في بلادنا من الطبيعي أن يشكل حالة قلق مستمرة للصهاينة في بلادنا، فهناك مسألة لا شعورية داخلية تقود الصهاينة لدراسة هذا التاريخ للوصول إلى حالة من الاطمئنان الداخلي، فعليهم اختراع الكثير من الأوهام، وتزييف العديد من الحقائق، مع انهيار أسطورة الجندي الذي لا يقهر بفعل الانتفاضة المباركة، والتي تشكل بحق أكبر فعل تاريخي مؤثر في مواجهة الاستعمار الغربي منذ معركة حطين والتي كان أهم عامل فيها بروز التيار الجهادي الإسلامي، والتصميم الكبير الذي أبداه الفلسطينيون بما يعتبر عملاً أسطورياً، فلم تفلح التكنولوجيا في كبح جماح شعب أعزل، وهكذا يصطدم المشروع الصهيوني للمرة الأولى بالحائط الإسلامي، وهو الأمر الذي تحدث فيه المستشرق اليهودي آرمينوس فامبيري 1831-1913 إلى هرتزل محذراً، حيث قال له «.. القدس [ ] مقدسة لهؤلاء الناس مثل مكة»، لكن هرتزل لم يستطع أن يعي تلك الحقيقة، والتي تجلت ملامحها في الانتفاضة المباركة الثانية أثناء محاولات تدنيس الحرم الشريف.

حقائق:
الحقيقة التي لا بد من رؤيتها والتي ينبغي أن تصبح علامة فاصلة في الثقافة العربية أن مفهوم التسوية من كامب ديفيد الأولى وحتى أوسلو وخارطة الطريق كل ذلك ساهم في تغذية النزعة الاستعلائية الصهيونية، حيث نرى أن المجتمع الصهيوني لم يترك مناسبة إلا وعبر فيها عن فاشيته، لذلك لا بد من تصدير مفهوم الرعب إلى داخل الكيان الصهيوني، ويتجلى الأمر من خلال إعادة تشكيل واقعة حطين في أذهان الغزاة الصهاينة، بما شكلته من وحدة إسلامية، وتمسك بهذه العقيدة، حيث الإسلام هو الوحيد القادر على تعديل كفة المواجهة، وتنفيس وإزالة التضخم المرضي في الشخصية اليهودية، التي غذّاها الاستشراق اليهودي، وأظهرها بغير مظهرها الطبيعي، ويتجلى انكسار هذا المفهوم فيما نراه اليوم من جدار الفصل العنصري الذي يعتبر تعبيراً عن هذه الحالة، ومحاولة لترميم مفهوم الأمن الذي كسره المجاهد الفلسطيني.
فالانتفاضة المباركة جعلت الجندي الصهيوني يقف وراء الجدار ممسكاً ببندقيته في ذاكرته البعيدة هاجس حطين، ولا يدري من أين يأتيه الرعب هل من القادم من وراء الجدار أم من حفرة تحت قدميه، من هنا ستكون مهمة مراكز البحث الصهيونية القادمة العمل على إقناع اليهود [ ] إن أجلهم طويل هي مهمة صعبة ومعقدة.