لقد استطاع بابا الكنيسة الكاثوليكية وحاكم الدولة الفاتيكانية البابا يوحنا بولس الثانى فى إقامة علاقات ذات أهمية مع الشعوب الأخرى ، كثيراً ما اتسمت هذه العلاقات بالغموض والخفاء وبخاصة فى علاقة البابا باليهود والأمريكان ، ومن أخطر تلك العلاقات التى اهتم بها البابا هى علاقتة باليهود ولذا كان الحديث عن تلك العلاقة هو أمرفى غاية الصعبة على الباحث أن يجدها واضحة بينة ، فهى علاقة اتسمت بالغموض والخفاء بعد ان كانت واضحة كل الوضوح فيما قبيل انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى ، إذ أن العلاقة أخذت موقفاً واحداً هو العداء المستحكم لليهود اعتماداً على نصوص الإنجيل ، وحرصاً على تعاليم الإنجيل قام الباباوات على على مر تاريخ الكنيسة الكاثوليكية فى اصدارالبيانات التى تبين حقيقة اليهودية وخطرالشعب اليهود على المجتمعات المسيحية بل على جميع شعوب العالم .

ولقد التزم الباباوات خلال حبرياتهم منذ قيام الكنيسة الكاثوليكية حتى انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى (1962-1965م) بكل ما أصدره الباباوات السابقين من بيانات تدين الشعب اليهودى وتُحمّله المسؤولية الكاملة فى حادثة قتل يسوع المسيح ، ورفض الكنيسة الغربية لقيام دولة إسرائيل فى فلسطين ، لكن التحريف والتغيير فى تلك العلاقة بدأ خلال انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى وبدأت الكنيسة تغير من موقفها تجاه اليهود شيئاً فشيئاً حتى استطاع اليهود أن يتوغلوا ويخترقوا الكنيسة وينجحوا فى إستصدار وثيقة تبرئهم من دم المسيح من خلالها يدخلون إلى أرض فلسطين .

إن الفاتيكان يمثل المرجعية الدينية لمئات الملايين من النصارى الكاثوليك ويعد أهم المؤسسات النصرانية على الإطلاق ، ولا تضاهيه فى هذه المكانة أى مؤسسة كنسية أخرى وهو ما جعله هدفاً للإختراق اليهودى الذى حقق فى العقود الأخيرة نجاحات كبيرة فى هذا المجال ، فما حقيقة هذه الإختراقات للفاتيكان ؟ وما التسلسل التاريخى لها ؟ هذا ما يحاول الاستعراض التالى لتطور العلاقات بين اليهود والفاتيكان الإجابة عنه .

ينـقـســــم هـــذا الفصــل إلـى مبـحـثيـــن :

1- المبحث الأول : نظرة تاريخية فى العلاقات
اليهودية والمسيحية .

2- المبحث الثانى : موقف البابا يوحنا بولس الثانى
من اليهود وإسرائيل .


المبحــــث الأول

( نظرة تاريخية فى العلاقات اليهودية المسيحية )

أولاً : مــوقـــف اليـهــود من النصـــــارى .

إن المتابع للعلاقات اليهودية المسيحية لن يجد عناءً فى إدراك مدى التحول الذى حدث فى هذه العلاقة خاصة فى الكنائس البروتستانتية أولاً، ثم تبعتها فى التغيير الكنائس الكاثوليكية ، لقد عاش اليهود والنصارى قروناً متطاولة فى عداء شديد يستعصى على الحل ولقد كان الخلاف والشقاق والصراع هو السائد بينهم وعلى أسس عقدية دينية ، فما زال اليهود ينتظرون مسيحاً خاصاً ، يحقق لهم السيادة على شعوب الأرض ، ويحكمهم بالشريعة التى زيفوها واستبدلوا بشريعة موسى ، شريعة العنصرية والتعصب والقسوة والفساد (1)

وبنظرة عابرة فى الأناجيل الأربعة نجدها تعترف اعترافاً صريحاً بكون المسيح عليه السلام نشأ يهودياً وأنه لم يأت بتشريع جديد خاص به ، بل كان يدعو اليهود وأتباعه منهم أن يحرصوا على التوراة وأن يعملوا بحسب أوامرها كما تُبين أن المسيح ُطول إقامتهِ ومُدّة دعوته كان آخذاً على عاتقه شرح الناموس الإسرائيلى وبيان روح التشريع الموسوى ، كما ترينا كذلك الأناجيل كيف كان المسيح دائم التوبيخ لرؤساء اليهود وشاتماً إياهم لعدم علمهم بأصول التشريع ومخالفتهم له (2) لكل هذا تقدم اليهود لمناوأة المسيح بعد أن آمن به مجموعة قليلة ضعيفة فقيرة من أصحاب المهن البسيطة ، والكثير من اليهوديين لم يسمعوا لكلامه ومواعظه ، بل أخذوا يعملون على منع الناس من سماع دعايته ، ولما أعيتهم الحيلة ورأوا أن الضعفاء والفقراء يجيبون نداءه ويلتفتون حوله مقتنعين بقوله أخذوا يكيدون له ويوسوسون للحكام بشأنه ويحرضون الرومان عليه ، وانتهى الأمر إلى أن تمكنوا من حمل الحاكم الرومانى على أن يصدرالأمربالقبض عليه والحكم عليه بالإعدام صلباً (3) ومن تلك الأمثلة الدالة على عدائهم للمسيح ما قاله لهم عيسى بعدما دعاهم ، ولم يستجب لدعوته الإ القليل "31فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. 32فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. 33أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ 34لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ، "(4)

إن اليهود كانوا أكثر الناس عداوة للمسيح ولأمه فاتهموا أمه بالزنا واتهموه بالهرطقة والكذب والابتداع وحكموا عليه بالكفر وحينما تمت خطة اليهود بعد اتفاقهم مع أحد الحواريين على أن يدلهم على المسيح حين تتوجه إليه الجموع الثائرة للقبض عليه وتقديمه للحاكم الرومانى (بيلاطس) ليصلبه ، ومنذ تلك اللحظة لا ينسى النصارى أبداً أن اليهود هم الذين أوشوا بالمسيح عند الحاكم الرومانى كما اعتقد النصارى أن اليهود قد تلوثت أيديهم بدم المسيح ، فاستقر فى وجدان كل نصرانى العداوة لهؤلاء القتلة

ثم ذكرت الأناجيل موقف الحاكم بيلاطس لما رأى عدم قدرة اليهود على إثبات التهمة التى تستدعى قتل أوصلب المسيح ، فقال كما يحكى إنجيل متى "24فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً:«إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ! 25فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا:«دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا». (1) وإنما قال ذلك لأنه تيقن من عدم وجود تهمة تستوجب الصلب فأراد أن يتبرأ من تلك الجريمة ويُحمّلها لليهود ، وبالفعل تمت عملية الصلب بطريقة همجية بشعة ، ومارس اليهود خلالها فنون التعذيب الجسمانى والمعنوى وأظهروا الكامن من الشر فى أعماق نفوسهم لدى النصارى والمسيح .

ولقد أخبرنا القرآن أن اليهود لم ينكروا دورهم فى هذه الجريمة منذ زمن المسيح إلى وقتنا هذا بل نجدهم يجاهرون بسب المسيح وامه فينسبونها إلى الفاحشة ويتبجحون بإدعائهم قتل المسيح عليه السلام ويتفاخرون بذلك ، فشهد القران عليهم إذ يقول الله تعالى " {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا*وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}(2)

وتبعاً لنصوص التلمود (*)(الذى هو من أهم الكتب الدينية عند اليهود بل الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية ، وهو تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة (التوراة) ، ويخلع التلمود القداسة على نفسه باعتبار أن كلمات علماء التلود كانت توحى بها الروح القدس ذاتها ، وباعتبار الشريعة الشفوية بذلك مساوية فى المنزلة للشريعة المكتوبة ) (3)
وحسب الاعتقادات الدينية السائدة لدى اليهود نجدهم يذكرون يسوع المسيح فى تلمودهم بكلامهم البذئ فيقولون (يسوع الناصرى موجود فى لجّات الجحيم بين الزفت والقطران والنار) لماذا؟ لأن (يسوع الناصرى ارتد عن الدين اليهودى ) ثم (إن امه مريم أتت به من الجندى (باندارا) بمعاشرة الزنا ) لذلك يقول اليهود (إن الكنائس المسيحية بمقام القاذورات وإن الواعظين فيها أشبه بالكلاب النابحة ) (وعلى اليهود أن يعاملوا المسيحين كحيوانات دنيئة غير عاقلة) (4)

بل ينص التلمود على أنه من العدل أن يقتل اليهودى كل أممى لأنه بذلك يقرب قرباناً إلى الله ، كما نجد من تلك الاعتقادات الدينية السائدة لدى اليهود تلك العقيدة التى تعرف بـ(سر الدم المكتوم)وملخصها
" أنهم إذ لم يضعوا دم المسيح فى خبز الفطير فى عيد الفصح فإن الفطير ينتن ودم المسيحى ضرورى لأنه تذكار لما أمر الله به بنو اسرائيل بأن يلطخوا أبواب بيوتهم بدم الحمل المذبوح بعيد الفصح عندما كانوا تحت عبودية فرعون ، ثم هم يستعملون هذا الدم فى الرش على طاولات الطعام قبل العشاء السرى ويضعون منه قليلاً فى الخمر ثم يلعنون الديانة المسيحية (5) و وقد وقعت بالفعل أحداث تؤكد أن اليهود ثلوثت أيديهم بدماء المسيحين لهذا الغرض عدة مرات (6)
هذا هو الموقف الذى اتخذه اليهود من النصارى ، لم يتغير منذ زمن المسيح إلى عصرنا ذلك لأن هذا الموقف لم ينتج عن أسباب اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، إنما هو قائم على أسس عقدية دينية مما جعل أمر التغيير فيه صعباً ، لأن الدين هو أقوى ما يحرك الشعب اليهودى رغم تحريفه وتبديله ،
فاليهود إلى وقت قريب كانوا يقولون " يجب على اليهود السعى الدائم لغش المسيحين " ويقولون : " من يفعل خيراً للمسيحين فلن يقوم من قبره قط "(1)

إن الشواهد على كراهية وحقد اليهود على النصارى تجل عن الحصر لكننا أردنا أن نذكر بعض النماذج التى توضح مدى العداء المستحكم المبنى على عقائد دينية لازال يعمل بها إلى يومنا هذا.



والأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد رد عليهم النصارى التحية بأحسن منها فكلما مكنتهم الظروف من الانتقام كان النصارى لايضيعون الفرصة فى استغلالها ضد اليهود .

ولكن فجأة حدث تحول فى موقف النصارى تجاه اليهود وحدثت ألفة بين الفريقين بغير سبب واضح فلم يغير اليهود عقائدهم فى المسيح مثلاً ولم يعلنوا تبرأهم مما قيل فى مريم أو من دم المسيح أو تبرأهم من آبائهم وأجدادهم الذين قاموا بقتل المسيح أو لم يعلنوا أنهم تابوا وندموا على قتلهم للمسيح ويطلبون الصفح من أتباعه

إذاً فما الذى حدث ليحدث هذا التحول والتغير فى المواقف النصرانية من اليهودية ؟