بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين


ثانياً : مــوقـــف النصـــارى من اليهـــــود

ويمكـن لنـا أن نقسـم ذلك المـوقـف إلـى جـزئيــن :


أ‌- موقف النصارى من اليهود قبل ظهور حركة الإصلاح الدينى :

لقد كان موقف المسيح عليه السلام تجاه اليهود موقفاً واضحاً وبيّن ذلك فى قوله لهم ( فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. 32فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. 33أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي ) (1) كما أن هناك نصوص عدة فى الأناجيل تبين هذه العلاقة التى لا شك أنها تظهر مدى عناء وألم المسيح من إيذائهم له وعدم إجابتهم لدعوته فى مواقف عديدة .

لا شك أن النصارى آلمهم قتل المسيح واضطهاد اليهود لهم فكتموا ذلك حتى دارت الدائرة على اليهود وأصبحوا مشردين فى الأرض ، فتسلط النصارى عليهم وانتقموا منهم شرانتقام فى حوادث كثيرة سجلها التاريخ ، واتسم موقف الكنيسة قبل الإنشقاق وظهور حركة الإصلاح الدينى (*) بأنه موقف شديد العداء والصراع ، وظلت الكنيسة محافظةً على موقفها الذى يقوم على رفض التصالح مع اليهود الإ إذا اعترفوا بالمسيح واعتنقوا النصرانية ، وعليه فقد كان النصارى جمعياً بقيادة البابا يعادون اليهود ويقودون حملات التطهير والإبادة ضدهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولم يكن فى الفكر النصرانى قبل حركة الإصلاح الدينى أدنى مكان لإحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين أو لأية فكرة عن وجود الأمة اليهودية .
وينبغى أن نعلم أن النصارى مافعلوا ذلك الإ عن عقيدة رسخت فى نفوسهم ووجدانهم هى أن اليهود هم قتلة المسيح ولهذا السبب أقميت المذابح الجماعية لإبادة اليهود فيها ، والتاريخ حافل بالوقائع التى يعجز المرء عن إحصائها ومن ذلك .
ما شهدته أوربا خلال القرن الثانى عشر الميلادى من عمليات الذبح الجماعية لليهود فى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وبخاصة فى مطلع تسييرالحملات الصليبية (الفرنجة) إلى فلسطين وذلك تنفيذاً لقول اليهود فى محاكمة المسيح «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» وطلباً للغفران قبل تحرير القدس .
ولقد كانت صورة اليهودى قرب نهاية القرون الوسطى لا تظهر فى الرسوم والحكايات الشعبية الإ على صورة إنسان نجس وخاطئ أوعلى شكل بومة أو أفعى وغير ذلك من الاضطهادات التى تفنن فيها النصارى ، فاعتادات الجماعات اليهودية حياة الاضطهادات ومالت إلى العزلة حيث تم وضع اليهود داخل أحياء منفصلة تحاط بها أسوار مرتفعة لها بوابتان يقف عليهما حرس مسيحى ، كما كانت الجماعات اليهودية تتعرض للثورات الشعبية فى أثناء حدوث أزمات أو انتشار مرض معين مثل الطاعون أو الموت الأسود حيث كان يلقى باللوم على اليهود وتوجه لهم تهمة نشر الوباء ،
وهكذا عرفت أوربا سلسة من الأحداث والصراعات واضطهاد اليهود طوال القرون الوسطى (2)
ولقد كان النصارى إلى وقت قريب يقولون : " يعتبر اليهود خطراً على جميع شعوب العالم ، وخاصة الشعوب المسيحية ، ويقولون أيضاً " يتضمن التلمود كل الكفر والإلحاد والخسة (3)

أما موقف الباباوات تجاه هذه الاضظهادات فيمكن القول بأنهم كانوا هم المحركين لها بل كانت حركات الإبادة ضد اليهود تصدر بأوامرهم وتحت رعايتهم وعلى سبيل المثال :

ما فعله البابا إينوسنته (Innocent) سنة (1244م) الذى أصدر أمراً حرم فيه على المسيحيين الإستخدام عند اليهودى وأوعز إلى ملك فرنسا بإحراق التلمود وهذا نص كلامه
" إن ما يسميه اليهود تلموداً هو عندهم كتاب عظيم الأهمية وهو يتضمن بصراحة شتائم لله ويحتوى على خليط قصص وسوء تحريف وحماقات لم يسمع بمثلها وقد كان علماء كلية باريس فحصوا إتماماً لأمر سلفنا البابا غريغوريوس الطيب الذكر هذا الكتاب كتاب الخرافات والترهات وكذلك غيره من الكتب فى جميع تفاصيلها وإخزاءً لليهود أَحرِقُوها أمام الشعب جميعاً وأمام أرباب الكهنوت كما أنبأونا ذلك فى رسالتهم إلــــــــــخ ....


وفى سنة 1322م أى فى حبرية البابا يوحنا الثالث والعشرين أُحرقت نسخ التلمود فى روما كما قتل النصارى اليهود الذين قُبض عليهم بجوار المدينة ووزعت أموالهم على فقراء البلد

وفى عام 1353م أمر البابا يوليوس الثالث بإحراق نسخ التلمود فأحرقها الناس فى مدن جلّ أهلها مسيحيون مثل برشلونة والبندقية وروما وغيرها (1)

هذه هى أبرز مواقف الباباوات تجاه اليهود قبل ظهور حركة الاصلاح الدينى .

ب- موقف النصارى من اليهود بعد ظهور حركة الإصلاح الدينى :

مـوقـف الكنيســة الكـاثـوليكيـة (الفـاتيكـان) :

لقد ظل الفاتيكان بعد ظهور حركة الإصلاح الدينى محافظاً على موقفه الذى اتسم بالعداء لليهودية ، ومنذ أن تربع البابوات على عرش البابوية أخذوا فى إصدار الوثائق والقرارات التى تدين الشعب اليهودى وتحمله جريمة الإساءة للمسيح وصلبه ، بغض النظر عن اللقاءات التى استغلها البابوات لإظهار الكراهية والعداء لليهودية و(الحركة الصهيونية ) ذلك الموقف المأخوذ من العقيدة الدينية النصرانية ، ومن البيانات التى أصدرها الباباوات السابقين لحركة الإصلاح الدينى .
هذا الموقف ظل واضحاً حتى قبيل انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى (1962-1963م ) والذى من خلاله بدأ التغيير فى موقف الفاتيكان من اليهود شيئاً فشيئاً ، حتى تمكن اليهود من إختراق أكبر هيئة مسيحية فى العالم فاستطاعوا أن يعبثوا فى مقدساتها ، حتى نالوا الاعتراف الذى عملوا له منذ أمد طويل ليحصلوا عليه ، ذلك الاعتراف الذى من خلاله يتمكنوا من العودة إلى فلسطين تمهيداً لعودة المسيح الثانية .
كما قلنا أن الموقف كان ثابتاً حتى قبيل انعقاد المجمع الفاتيكانى الثانى ولا يمكن أن نتحدث عن تغيير مواقف الفاتيكان بعد حركة الإصلاح فى مرحلة واحدة لذا سنقسم ذلك الموقف إلى عدة مراحل :

1- المــــرحــــلـة الأولــــــى : " العـــــــــــداء "

لقد ظل موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود موقفاً متشدداً حيث كان ينُظر إلى اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة المسيح وكفرهم بها ، فأصبحوا فى نظر الكنيسة الكاثوليكية من الكافرين المارقين قتلة المسيح ، لذلك لم يكن هناك فى العقيدة الكاثوليكية أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى فلسطين أو بعث الأمة اليهودية من جديد والتصالح معها ذلك لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى وجودها بظهور دعوة المسيح كما ان الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من الكنائس الأخرى لم تكن تعترف بأن اليهود هم شعب الله المختار لأن المسيح حارب بشدة هذه النزعة العنصرية فيهم ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول فى ملكوت الله المفتوح أمام جميع الصالحيين (1) وطبقاً للعقيدة الكاثوليكية الرسمية ـ اقترفوا إثماً فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل ، وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى " الأمة اليهودية " إلى الأبد ، ولذلك فليـــس لليهود مستقبل قومي جماعي؛ ولكن ـ باعتبارهم أفراداً، كما يعتقد الكاثوليكيون ـ يستطيعون أن يجدوا الخـلاص الروحي " بارتدادهم إلى المسيحية ".
وقد أصدر البابا غريغوري الثالث عشر عام 1581م ، حكماً بإدانة اليهود نص فيه على "أن خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذّبه تزداد جيلاً بعد جيل، وتحكم على كل فرد من أفراده بالعبودية الدائمة" التزم الباباوات الذين تعاقبوا من بعده هذا الموقف (2) ولذلك كان من الطبيعي أن يعمل اليهود على استهداف الكنيسة الكاثوليكية، والسعي إلى تقويض نفوذها في فرنسا، تمهيداً للانقضاض على الحصن الكاثوليكي في روما بالذات.

ولهذا العداء المستحكم ، كان لابد من حصول المواجهة بين الحركة الصهيونية والبابوية ممثلة بالبابا بيوس العاشر، الذي رفض الموافقة على المشروع ( اليهودي ـ الصهيوني ) في جعل القدس مركزاً لدولة يهودية، فأكّد البابا فى بيانه الذي أصدره عند انعقاد مؤتمر بازل في سويسرا، موضحاً فيه أن "جعل القدس مركزاً لدولة يهودية يتعارض مع نبوءات المسيح نفسه". كما أنه أكد أثناء لقائه بهرتزل ( في اللقاء الذي جمع بينهما فى 25/12/ 1904م ) موقف الكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية ، وذلك بقوله: "لا أستطيع أبداً أن أتعاطف مع هذه الحركة ـ الصهيونية ـ فنحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس، ولكن لا يمكننا أبداً أن نقره ، إنني بصفتي قيِّماً على الكنيسة ، لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر، لم يعترف اليهود بسيدنا ، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي ، وتالياً فإذا جئتم إلى فلسطين وأقام شعبكم هناك فإننا سنكون مستعدين كنائس ورهباناً لتعميدكم جميعاً". فرد هرتزعلى البابا قائلاً : "إن النكبات والاضطهادات لم تكن في اعتقادي خير وسيلة لإقناع قومي بما يكرهون" فردّ البابا: "إن سيدنا يسوع المسيح، أتى إلى هذا العالم ولا قوة له ولا سلاح... وهو لم يضطهد أحداً، وإنما هو الذي تعرض للاضطهاد وتخلى عنه الناس"..(يقصد بذلك اليهود)

وإذا كان هذا المقطع من كلام البابا بيوس العاشر، يمثل رداً على ادعاءات هرتزل، فإن البابا قد أوضح في مقطع آخر من الحديث نفسه ، المعتقد المسيحي وموقف الكنيسة من اليهود، ما نصه: ".. أما أن يظل اليهود محتفظين بمعتقدهم ينتظرون مجيء المسيح ، والمسيح عندنا قد جاء وتمت بعثته للبشر، في هذه الحالة نعتبر اليهود منكرين للاهوت يسوع المسيح، ولا مجال هنا لمساعدتهم لا في فلسطين ولا في غيرها، وهذا هو الوجه الأول ، أما الوجه الآخر أن يذهبوا إلى فلسطين شعباً بلا دين بالإطلاق، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا في مجال أضيق، وغير مستعدين لمؤازرتهم" (1)

وحينما أعلن وعد بلفور عام 1917م
وهو الوعد الذي تعهدت الحكومة البريطانية من خلاله بأمرين اثنين :
1- بذل افضل المساعي والجهود من اجل اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين .
2- عدم السماح بأي اجرء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين نتيجة انشاء الكيان الجديد .

لم تعلن الكنيسة الكاثوليكية موافقتها على هذا الوعد ، بل ظلت على موقفها معارضة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وكانت تشير إلى التزامها بموقف البابا وتعاليمه القائمة على أسس دينية وإنسانية تتعلق بالمسيحين العرب فى فلسطين إضافة إلى اعتقادها بأن معظم يهود الولايات المتحدة الأمريكية ليسوا على وفاق مع الحركة الصهيونية المسيحية إذ شكلت أقلية بينهم إلى ما قبيل قيام اسرائيل 1948م (2) وهذا ما ظل عليه الفاتيكان حتى تأسيس إسرائيل عام 1948م ، وذلك من منطلق الخوف على مستقبل النفوذ النصراني لحساب اليهود، وهو ما أشار إليه البابا "بندكتوس الخامس عشر" عام 1921م، حيث قال: "إن حال النصارى في فلسطين لم يتحسن، بل ازداد سوءاً، ولا يسعنا من ثمّ إلا التنديد بمحاولة إبعاد النصرانية عن مواقعها ليحل مكانها اليهود
وفى خلال الفترة ما بين عام 1947- 1949م أى فى حبرية البابا بيوس الثانى عشر أصدرالبابا سبعة نصوص تصنف على أنها "متعاطفة" مع الموقف العربى كانت على جانب كبير من الأهمية طالب فيها بالآتى :
1- بإنهاء حرب فلسطين بما يضمن حقوق جميع سكانها الأصليين وجميع طوائفها .
2- حماية الأراضى المقدسة وتدريل منطقة القدس كلها .
3- إعادة اللاجئين العرب إلى أراضيهم وممتلكاتهم وتعويض من لايرغب فى العودة منهم تعويضاً عادلاً(1)

ويتبين لنا من هذه المواقف السابقة أن الالتزام الدينى الكاثوليكى هو الذى كان يملى موقف الفاتيكان السياسى ، وبالتالى فإن العقيدة الدينية المسيحية كانت تشكل فى ذاتها حاجزاً فى وجه الحركة الصهيونية يتعذر اجتيازه .

وتمكن الفاتيكان من ان يؤثر بصورة أساسية على مواقف الدول الكاثوليكية فى العالم ( فرنسا – أسبانيا – البرتغال – أمريكا اللاتينية ) التى التزمت بالبعد الدينى لموقف الفاتيكان ، وإن كانت أعطت عدا الالتزام طابعاً سياسياً أحياناً أو إنسانياً أحياناً أخرى ، أوالاثنين معاً فى معظم الأحيان ، الأمر الذى جعل اليهود يتطاولون على باباوات الكنيسة وبخاصة البابا بيوس الثانى عشر الذى ظل رافضاً للضغوط الدولية التي مارستها الدول الغربية لتغيير موقفه من الصهيونية والاعتراف بالكيان الصهيوني

- المرحـــــلة الثانيـــــــة : " الحيــــــــاد "

لقد وقف الباباوات من اليهود موقفاً صارماً حازماً يحمل كل العداء والكراهية لهم حتى وفاة البابا الذى وقف أمام الصهيونية برجولة وشرف من خلال معتقده الدينى الذى أظهره فى مواقفه السياسية بشأن عودة اليهود إلى فلسطين وهو البابا بيوس الثانى عشر، الإ أن اليهود استغلوا الأحداث لتحقيق مصالحهم فما الذى حدث ليبدأ الفاتيكان أولى خطوات التغيير فى موقفه
تجاه اليهود هذا ما سنتعرف عليه فى هذه المرحلة .
في عام 1958م.. توفي البابا بيوس الثاني عشر، فاستغل الصهاينة وفاته وعدم قدرته الدفاع عن نفسه بأن حملوه مسئولية ما حدث لهم على يد النازية ، ليبدأ التحول والانقلاب الخطير في موقف الفاتيكان والكاثوليكية تجاه اليهود وإسرائيل ، فقد بلغ من وقاحتهم وتهجمهم الدنئ أن قدموا على مسارح نيويورك وباريس مسرحية (النائب)(*) يعنون به نائب الله على الأرض و نائب المسيح أى البابا فملاؤا المسرحية حقداً على صاحب أعظم شخصية فى العالم المسيحى قاطبة وحشوها بالإفترءات والأكاذيب إلى جانب السخرية والإستهزاء بأرائه ومكانته ، ومن دوافع الأسف والخزى الأ يثور الغرب المسيحى على هذه الوقاحة والبذاءة اليهودية وتمر المسرحية بأرقى المسارح وبنخبة المثقفين المسيحين فى الغرب فلا يحركون لها ساكنا ً (1)
وكان من المفترض أن تشهد الدبلوماسية الفاتيكانية انطلاقة جديدة بغياب البابا المتَّهم بمساعدة النازية ، والدفاع عن البابا لكن المنظمات الصهيونية والجماعات الصهيونية المسيحية في أمريكا والكنيسة البروتستانية شدَّدت من حملتها على البابا المتوفى ، مذكِّرة بما وصفته بتأييده للنازية ، وبسبب ما نُشرعن معاناة اليهود أثناء الحكم النازى أبدى بعض الكاثوليك تعاطفاً مع بعض برامج الصهيونية ، وبدأت تظهر إلى حيز الوجود الدعوات للحوار بين النصرانية واليهودية ، وصدرت كتب بهذا الخصوص ، كما عُقدت لذلك العديد من الندوات ، وعاد التركيزعلى ضرورة التلاحم بين العهدين القديم والجديد (2)
وبدأت المرحلة الجديدة لتى اتسمت بالتراجع فى الموقف الفاتيكانى، واتسمت ظاهرة التراجع بأمرين أساسيين:
الأمر الأول : كثرة نفوذ الولايات المتحدة ، وبالتالى ضغطها السياسى والاقتصادى على الدول الكاثوليكية ، والذى أصبح أشدّ فعالية من التأثير الروحى الفاتيكانى .
الأمر الثانى : لم يكن الفاتيكان نفسه بمنأى عن هذه الضغوط الأمريكية . مع ذلك رفض الفاتيكان التقسيم الذى أقرته الأمم المتحدة فى 29 تشرين الثانى / نوفمبر1947م (3).
ويرى بعض الباحثين أن موقف الفاتيكان تغيرمنذ عام 1950م عندما بدأت الشيوعية تتسرب إلى الشرق الأوسط وطرحت إسرائيل نفسها كقاعدة أمريكية فى قلب المنطقة للتصدى لهذا التسرب الشيوعى الذى يشكل خطراً على المصالح الاستراتيجية لأوربا والولايات المتحدة ، من تلك اللحظة تغيرت الأوضاع فبدلاً من ضغط الفاتيكان على أمريكا أصبح هناك ضغط أمريكى على الفاتيكان لصالح إسرائيل على اعتبار أنها معادية للشيوعية ومرتبطة بالمعسكر الغربى (4)

- المرحــلة الثالثة : " الشعـــور بالذنــب لـــدى اليهـــود "

لقد سبق أن ذكرنا أن الفاتيكان قد اعتمد عند قيام اسرائيل عام 1948م موقفاً صامتاً لا يعترف باسرائيل ولا يدين قيامها ، واستمر هذا الموقف حتى منتصف الخمسينات من القرن العشرين ، حينما بدأ التعاطف مع اليهو بسبب ما نشرعن معاناتهم أثناء الحكم النازى وعدم اتخاذ الكنيسة أى موقف اتجاه النازية .

إن الفاتيكان لم يعترف قانونياً بإسرائيل حتى مطلع الستينات وإن كان اعترافه بها يأتى بحكم الواقع فهو يجتمع بممثليها ومبعوثيها ، الإ أن الصهيونية لم تيأس فعملت كل شئ فى سبيل الوصول إلى أهدافها فراحت ترواد الفاتيكان بواسطة كرادلة وكهنة ومفكرين كاثوليك من مختلف الدول وبواسطة مؤسسات كاثوليكية منوّعة الأغراض ، ثقة من فلاسفة الصهيونية بأن الاحتكاك المباشر بين الصهيونية والكاثوليك يخلق بينهم تفاهماً فتفاعلاً فتجاوباً ينتهى حتماً إلى ضغط كاثوليكى عالمى يجر الفاتيكان إلى الإعتراف بإسرائيل .
وبالفعل نجحت الصهيونية فى اكتساب عدد من الأنصار من بين صفوف أعضاء المجمع المقدس الذين طلبوا من المجمع المسكونى أن يستنكر التيارات المعادية لليهود فى العالم وأن يلغى من الصلوات المسيحية تلك العبارة التى تسئ لليهود وأن تصدر وثيقة تبرئ اليهود من مسؤولية صلب المسيح والقاء هذه المسؤولية على الجنس البشرى كافة (2)
إن الصهيونية سمحت لأتباعها أن يدخلوا النصرانية لخدمة اليهود والدولة الصهيونية بل كانت تعتبر ذلك عملاً وطنياً دينياً ولذا دعت أصحاب القدرات من اليهود للقيام بهذا العمل ، فقد جاء فى الوثيقة الصهيونية على لسان الحاخام ريشورن فى اجتماع سرى عقد فى براغ 1869م ما يلى :
" قيل بأن عدداً من اخواننا اليهود تنصروا وماذا يضيرنا ان هؤلاء الذين يتعمدون باجسامهم ستظل ارواحهم يهودية وسوف يكونون لنا مشعلاً نستنير به فى اكتشاف خبايا النصرانية ، ومساعدين لنا على رسم الخطط التى تدمر المسيحية ، ان الكنيسة عدونا الخطير ، فلنستفيد من اخواتنا الذين تنصروا فى الظاهر لبث الفساد فى الكنيسة واشاعة اسباب الخلاف والفرقة والصراع بين المسيحين ونشر الانباء المشوهة التى تسئ إلى رجال الدين ، فيقل احتراهم ويزدريهم الشعب فى كل مكان ولقد أثبت الواقع الذى حدث عام 1965م حقيقة عمل أولئك اليهود المتنصرين ، اذ كانت لهم اليد المحركة فى صياغة وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح واصدارها . فكان هذا تحقيقاً لمخطط رسم من قبل ذلك بما يقرب من مائة عام (3) ولاشك أن من ابرز الشخصيات التى كانت مرحبة جداً بمشروع وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح هو الكاردينال بيا رئيس الوحدة المسيحية مقدم الوثيقة والمونسينورأوسترنجز هو( احد مستشارى سكرتارية الوحدة المسيحية فهو مسيحى متحول عن اليهودية وهو نفسه الذى تحول عن اليهودية لا أبواه أو بعض أجداده ، ولاشك أنه مما يلفت النظر أن نرى يهودياً يتحول إلى المسيحية ويصبح من رجال الكنيسة ثم يكون فى الوقت نفسه شديد العطف على دينه الأول وثيقة الصلة بأصحاب ذلك الدين )
ألست ترى أن هذا الوضع مخالف للعادة والعرف ورغم أنه تحول عن اليهودية الإ أنه كان يتلقى الجوائز النقدية من المؤسسات الدينية اليهودية ، ولا عجب فى ذلك فإن اليهود بإتفاق هيئاتهم الدينية يدسون على غير اليهود أناساً يدعون تحولهم عن اليهودية لخدمة الأغراض الإسرائلية(4)