لقد سمى الله تعالى في القرآن الكريم الكريم اليهود والمسيحيين بأهل الكتاب، وبين كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب. ومنذ ظهور الإسلام كان التفاهم والتسامح هما السمة السائدة في العلاقة بين الطرفين. وبالرغم من التحريف الذي طرأ بعد ذلك على كتب أهل الكتاب وعقائدهم، إلا أن أنهم ما يزالون يستندون في كثير من أخلاقهم إلى أساس الإيمان بالله الواحد، وإلى مفهوم الحلال والحرام. وقد حض القرآن الكريم على أن تكون العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب علاقة حضارية قائمة على الاحترام والتفاهم. فطعام أهل الكتاب حل للمسلمين؛ وللرجال المسلمين أن يتزوجوا من نسائهم. (سورة المائدة:5)، وهذه الأحكام تفيد بأنه يمكن بناء علاقات جوار حميمة وإنشاء علاقات قرابة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، كما يمكن لكل طرف منهما أن يجيب دعوة الآخر إذا دعاه لمأدبة طعام. ومثلما هو الشأن في جميع الأمور، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة والنموذج في هذا الموضوع كذلك. فقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والمسيحيين معاملة في غاية العدل والرحمة، وقد أراد بذلك أن يؤسس لعلاقة بين أتباع الأديان الأخرى والمسلمين تقوم على التفاهم والمحبة. ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك في الفترات التي جاءت من بعهده كُتبت معاهدات ووضعت ضمانات تسمح للمسيحيين واليهود بممارسة شعائرهم الدينية على النحو الذي يريدونه، وتعطي الفرصة كذلك للجماعات الدينية الأخرى لكي تواصل حياتها ووجودها بصورة طبيعية. وخلال الأعوام الأولى من ظهور الإسلام تعرض المسلمون لظلم وأذى كبيرين من المشركين، وبإشارة من النبي عليه الصلاة والسلام هاجروا إلى الحبشة ودخلوا في حماية النجـاشي الملك المسيحي هناك في تلك الفتـرة. وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المدينة كانت علاقة التعايش التي ربطتهم باليهود الذين كانوا يسكنون هناك مثالا يحتذى لجميع الأجيال التي جاءت من بعهدهم. كما أن التسامح الذي عومل به اليهود والمسيحيون الموجودون في الجزيرة العربية في عهـود انتشاره وتوسعه يعد أنموذجا حيا للطريقة التي يتيعن على المسلمين التعامل بها مع أهـل الكتاب. وكمثال على ذلك فقد جاء في المعاهدة التي أمر النبي عليه الصلاة والسلام بكتابتها للمسيحي ابن حريش بن كعب ومن هم على دينه: "وبعد أن كتب هذه البنـود قرأ قوله تعالى: "وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (سورة العنكبوت:46).(1).
وهناك روايات تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرمآدب أعراس أهل الكتاب وزار مرضاهم وأكرمهم وطيب خاطرهم. حتى إنه عندما زاره وفد من مسيحيي نجران فرش عليه الصلاة والسلام لهم عباءته وطلب إليهم أن يجلسوا. وما زواج النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة المصرية المسيحية ماريا (أو مريم) إلا تأكيد لهذا الوعي الرفيع والخلق السامي. وبعد انتقال النبي عليه الصلاة والسّـلام إلى الرفيق الأعلى كانت المعاملة الطيبة والحسنة التي تعامل بها المسلمون مع أهل الكتاب تقوم على أساس ما رأوه من رسول الله عليه الصلاة والسلام طوال حياته من تسامح مع الجماعات غير المسلمة ومن واحترام لها.
1-ابن هشام، أبو محمد عبد الملك توفي في عام 218هـ/834 م)، السيرة النبوية، دار التراث العربي، بيروت 1396/1971، الجزء الرابع، ص. 241-242؛ حميد الله، الوثائق، ص. 154-155، رقم96-97؛ الحياة مع المصادر الشرقية والغربية، ص. 95.