الصوفية والكرامات:

"غلا الصوفية في أمر الخوارق، فشرَّقوا فيها وغرَّبوا، ولعل أهم ما يُميِّزهم عن أهل السنة -في هذا الباب- أمور أهمها (انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي؛ محمد أحمد لوح: [2/ 293-311]):

أولاً: اعتبار الخوارق معياراً للولاية، وأن من لا كرامة له لا ولاية له. قال الشعراني في ترجمة محمد الغمري عن قوله: "وكان سيدي أحمد لا يأذن قط لفقير [لمريد أو صوفي] أن يجلس على سجاده إلا إن ظهرت له كرامة" (الطبقات الكبرى؛ للشعراني: [2/88]).

ثانياً: الشغف بالخوارق، وتفسير كل خارق أو أمر غريب بأنه كرامة حتى صارت همهم، قال ابن الجوزي: "عن إبراهيم الخراساني أنه قال: احتجت يوما إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت"؛ ثم علَّق عليها ابن الجوزي فقال: "في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلَّت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز؛ ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله تعالى لا يُكرِم بما يمنع من استعماله شرعاً" (تلبيس إبليس؛ ص: [382]).

ثالثاً: لما جعل الصوفية الكرامة أساس الولاية حرصوا على جمع الكرامات لمن ادَّعوا لهم الولاية، وتعدَّى الأمر إلى الاختلاق والكذب، ومما نسجوه ما ذكره الشعراني عن أبي بكر البطائحي أنه "أول من ألبسه أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخرقة ثوباً وطاقية في النوم، فاستيقظ فوجدهما عليه، وكان يقول: أخذت من ربي عز وجل عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي، ويقال: إنها ما دخلها سمك ولا لحم قط فأنضجته النار أبداً" (الطبقات الكبرى؛ للشعراني: [2/132]).

وكأن الكذب بدأ فيهم من قديم، فتنبه له بعض كبارهم؛ فقد قيل لرابعة العدوية: "يا عمة! لِمَ لا تأذنين للناس يدخلون عليك؟ قالت: وما أرجو من الناس؟ إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل. ثم قالت: يبلغني أنهم يقولون: إني أجد الدراهم تحت مصلاي، ويطبخ لي القدر بغير نار، ولو رأيت مثل هذا فزعت منه، قيل لها: إن الناس يكثرون فيك القول، يقولون: إن رابعة تُصيب في منزلها الطعام والشراب؛ فهل تجدين شيئاً فيه؟ قالت: يا بنت أخي! لو وجدت في منزلي شيئاً ما مسسته، ولا وضعت يدي عليه" (انظر تلبيس إبليس، ص: [383]، وانظر: تقديس الأشخاص: [2/298]، وانظر أمثلة أخرى في الطبقات الكبرى للشعراني: [2/107]، [126]، [136]، [140]).

رابعاً: كرامات الصوفية وخوارقهم كما أنها لا مكان لها عند العقلاء، فإنها لا كرامة لها عند العلماء بشريعة الله عز وجل وكم في كراماتهم المحكية من معارضات ومخالفات للشريعة المحمدية! ومن ذلك: أن أحدهم كان يتشوش من قول المؤذن: الله أكبر فيرجمه، ويقول: عليك يا كلب، نحن كفرنا يا مسلمون حتى تكبروا علينا؟! (الطبقات الكبرى: [2/140] وانظر: بدع الاعتقاد، محمد الناصر، ص: [223]).

أما ما يذكرونه عن بعض من يذكرون بالخير من الشطحات والأحوال المُنْكَرَةِ، فإن الواجب التثبت منه؛ لعدم الثقة في نقلهم، وما ثبت منه فإن منه ما يكون عوارض تعرض لهم بسبب بعض أعمالهم؛ فإن من خلط في عمله اختلطت خوارقه، ولهذا أمرنا أن نقول كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] (انظر أولياء الله عقلاء؛ لابن تيمية: [75]).

الرافضة والكرامات:

يفضل غلاة الرافضة أئمتهم على الأنبياء، ثم صار ذلك من أصول الشيعة الاثني عشرية (انظر أصول مذهب الشيعة؛ د. ناصر بن عبد الله القفاري: [2/614]).

ويرى الرافضة أن خوارق الأولياء (معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة)، وأنها ليست من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوَّب صاحب كتاب بحار الأنوار لهذا المعنى باباً بعنوان: (إنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء)، وأورد فيه جملة من أحاديثهم (انظر بحار الأنوار؛ للمجلسي: [27/ 29-31]).

"وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير التي هي أحياناً أشبه بعمل السحرة والمشعوذين، وحيناً هي من ضروب الخيال، وغرائب الأحلام. وهذه المعجزات لا تزال تتولَّد عند الشيعة وتتجدَّد" (أصول مذهب الشيعة: [2/ 623-262]).

المنكرون للكرامات:

وهم: الفلاسفة[5]، والمعتزلة[6]، ومن تأثر بهم[7]، وابن حزم[8]، وبعض الأشاعرة كالإسفراييني[9]. وتبعهم معاصرون من مدَّعي العقلانية، ويرون أنه لا يقع من الخوارق غير معجزات الأنبياء.

وهذه بعض شُبَهِ القوم مع مناقشتها:
الشبهة الأولى: قالوا: إن تجويز الكرامات يفضي إلى السفسطة؛ لأنه يقتضي تجويز انقلاب الحجر ذهباً، والبحر دماً عبيطاً. والرد على هذا من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه لا يُسلَّم ببلوغها هذا المبلغ.
والثاني: أن ذلك يجوز ولا يقتضي سفسطة؛ لأن ما ذكرتم وارد عليكم في زمن النبوة.

والثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم المادية؛ وجواز تغير العادة بسبب الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها (انظر طبقات الشافعية: [4/260] وما بعدها، وانظر حول الأولياء والكرامات؛ د. الأنور: [35]).

الشبهة الثانية: أن الكرامة لو جازت لاشتبهت بالمعجزة، فلا يبقى لها دلالة على النبوة.

والرد على هذه الشبهة بمنع الاشتباه -كما تقدَّم التفريق بينهما في مبحث سابق-؛ ثم إن الولي لو ادَّعى النبوة بعد ظهور الكرامة له لكان كاذِباً، ولم يكن ولياً (انظر طبقات الشافعية، شرح الطحاوية: [2/75] ولوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: [2/394]).


الشبهة الثالثة: أن الكرامة لو ظهرت لولي لجاز الحكم له بمجرَّد دعواه أنه يملك شيئاً من غير بيِّنة لظهور درجته المانعة من كذبه، وهذا خلاف قاعدة:

"البيِّنة على المدَّعي" والرد: أن الكرامة لا توجب عصمته ولا صِدقَهُ في كل الأمور، وهذا يضبطه الشرع ولا يخرج عنه (انظر طبقات الشافعية: [35]).

الشبهة الرابعة: أنها لو جازت سراً وهو أولى من العلن، وهذا يفضي إلى أن لا يستدل بها على النبوة، ثم إن تكرارها يفضي إلى التحاق الخوارق بالعادات فلا تصدق معجزات الأنبياء!

والرد من وجهين:

الأول: أنها تجوز على وجه لا يصير أداة.

الثاني: وهو أنها تجوز بحيث لا تظهر ولا تشيع ولا تلتحق بالمعتاد.

وتكرُّرِها للولي لا يخرجه عن طريق السداد، وإلا فلا يكون ولياً على التحقيق، ثم إن المعجزة تتميز عن الكرامة كما سبق. وهذه الشبهة لو جاز إيرادها لكان في كرامات الأمم السابقة، دون هذه الأمة.

الشبهة الخامسة: أنه لو كان لها أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، ولم يظهر عنهم شيء منها.

قال ابن السبكي: "وهذا قول مرذول، فلو حاول مستقصٍ استقصاء كرامات الصحابة رضي الله عنهم لأجهد نفسه ولم يصل إلى عُشر العشر" (طبقات الشافعية: [4/260]).

وموردو هذه الشبهة يراوغون في الكلام، فمثلاً: القاضي عبد الجبار في المغني لم يعرض للأدلة المثبتة للكرامات من القرآن، والزمخشري يقول بخصوصٍ منفي على إبطال العموم، كما استدل بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26]، على إبطال جميع الكرامات. ورد بقول السكندري في الانتصاف (الانتصاف فيما بتضمنه الكشاف من الاعتزال مع الكشاف؛ ص: [172]).

الشبهة السادسة: أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق يخل بعظيم قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس (لوامع الأنوار؛ ج2، ص: [394]).

وهذا مردود؛ فلا يخفى أن في الكرامة تصديقا للأنبياء، وما حصلت لهم إلا ببركة اتباعهم للرسل (الفرقان: [120])، وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المنكرين ورد عليهم في النبوات (انظر النبوات؛ ص: [204-206]). كما ناقش المعتزلة في خوارق العادات من أحد عشر (انظر النبوات، ص: [175-191]).

وبعد؛ فليس إنكار الكرامات سديداً؛ لمعارضته من قبل الشرع والواقع، ولا التوسُّع فيها جائزاً؛ لمخالفته نهج الصواب.

إننا نُثبِت الكرامات لأولياء الله الصالحين، ونقول: ليس كل من أتانا بخارق عددناه ولياً، ما لم يكن ملتزماً بهدى السابقين الأولين رضي الله عنهم.

وفي الوقت نفسه؛ لا ننتقص أحداً من الصالحين، لأنه لم تقع له كرامة؛ فكم من ولي لم يحصل له خارق! وإن أعظم كرامة لزوم الاستقامة.

نسألك اللهم حسن الختام.
ـــــــــــــــــ
المراجع:

[1]- (الواجب أن يبقى الإنسان مُتهِماً لنفسه في صحة عمله، سواء وقعت له الكرامة أم لا؛ لأنه جزم بقبوله شهادة لنفسه بأن من المتقين وأنه من أهل الجنة وقد كان دأب الصالحين وسنتهم البقاء بين الخوف والرجاء بعد أداء الطاعات).

[2]- (عدَّ السبكي هذا الأمر من الأدلة على وقوع الكرامات، انظر طبقات الشافعية: [2/ 333-334]).

[3]- (انظر الماتريدية دراسةً وتقويماً؛ أحمد بن عوض الله الحربي، ص: [386]).

[4]- (انظر أصول الدين؛ للبغدادي: [174-175] والإرشادية للجويني: [267-269]، والمواقف للإيجي: [240]).

[5]- (انظر شرح الواسطية؛ لهراس، ص: [178]).

[6]- (انظر المغني لعبد الجبار: [15/241]، والكشاف للزمخشري: [4/172]، والنبوات ص: [16]، وشرح الطحاوية، ص: [752]).

[7]- (انظر رسالة التوحيد، لمحمد رشيد رضا، ص: [176-177]، وتسفير المنار: [12/293]، [2/74]، 2/316]).

[8]- (انظر الدرة فيما يجب اعتقاده، ص: [194-197]).

[9]- (انظر طبقات الشافعية: [4/260]).


عبد اللطيف بن محمد الحسن