فوائد الكرامة:
الفائدة الأولى: دلالتها على قدرة الله وكمال مشيئته وعلى كمال علمه وكمال غناه.
الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء، والمعجزات فيها دعوة للإيمان، والكرامات تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسل (النبوات: [19-20]).
الثالثة: أن الكرامات من البشرى المعجلة في الدنيا المذكورة في آية الأولياء: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64]. وهي: كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات" (انظر التنبيهات اللطيفة، للسعدي: [99-100]).
الرابعة: تقوية إيمان العبد وتثبيته؛ قال الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].

ولهذا قلَّت الكرامات في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وكثرت بعدهم؛ وذلك لقوة إيمانهم، وضعف من بعدهم بالنسبة إليهم، وذلك أن الصحابة شاهدوا التنزيل وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم آمن بالغيب فاحتاج إلى شيء يزيد يقينه (طبقات الشافعية: [2/333]، وانظر شرح الطحاوية: [2/ 747-748]، وتعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله على التعليقات المنيفة، ص: [98]، والفرقان: [128] [4/534]، والسير: [4/934]).
الخامسة: إقامة الحجة على العدو، كما حصل لخالد رضي الله عنه في شرب السم، وكقصة أبي مسلم الخولاني (انظر تعليقات ابن باز، والرسل والرسالات للأشقر، ص: [155]، وانظر: الفتح: [7/443] فيما نقل عن ابن بطال).

وفي هذا نصرة لدين الله ورفعة لكلمته إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، كما حصل لأصحاب الكهف.
السادسة: إكرام من الله تعالى لعباده لصلاحهم وقوة إيمانهم، كما حصل لمريم من الرزق (الرسل والرسالات، للأشقر: [155]).
السابعة: قضاء حاجة صاحب الكرامة أو حاجة غيره، وإنقاذه أو إنقاذ غيره، كما حصل لسعد رضي الله عنه في قصة مرورهم على الماء، وكما حصل لسارية حيث نُجِّي الجيش عامة، وليس هو وحده.
الثامنة: ابتلاء من وقعت له الكرامة أيَشكُر أم يَكفُر؟ أيتواضع لله أم يغتر بعمله فيهلك؟
التاسعة: في وقوع الكرامة لناس دون آخرين ابتلاء لمن لم تقع لهم: هل الكرامة غايتهم من الاستقامة؟ وهل يثبتون بلا كرامة أم يتزعزع إيمانهم؟

العمل بمقتضى الكرامات:

من فوائد الكشف والإلهام والفراسة والرؤى -وهي من الكرامات-: تحصيل الخير وتوقي الشر قبل وقوعه.

وشرط ذلك: ألا يُعارِض العملُ -بناءً عليها- حكماً شرعياً ولا قاعدة دينية، ومثاله: لو شهد شاهدان عدلان في أمر، فرأى القاضي في منامه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تحكم بهذه الشهادة؛ فإنها باطل، فإنه لا يجوز له العمل بمقتضى هذه الرؤيا؛ لأنها تهدم قواعد الشريعة. وكذا: لو حصلت له مكاشفة بأن الماء الذي يريد الوضوء به مغصوب أو نجس، فإنه لا يتركه ويتيمم؛ لأن فتح هذا الباب يبطل العمل بالظاهر، ويلغي الشريعة.

وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أوجهاً مما يسوغ العمل بالخوارق على وفقها، منها:

1- أن يكون في أمر مباح، كأن يرى رؤيا بأن فلاناً سيأتيه في وقت ما، فيتأهب لاستقباله، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع.

2- أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه يراهم من وراء ظهره؛ لفائدة إقامة الصفوف، وأخرى هي تقوية إيمان من سمعه.


3- أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد ويتأهب.
وقال: "إنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالاً يحتذى حذوه، وينظر في هذا المجال إلى جهته" (الموافقات: [2/275]، انظر: [2/266]، وما بعدها).

أعظم الكرامة لزوم الاستقامة:

ليس وقوع الخارق أمراً لازماً للولي، فكم من الأولياء الصادقين -من الصحابة فمن بعدهم- قلم تقع لهم خوارق! وكم من السحرة والمبطلين من وقعت لهم الخوارق!

ولا شك أن الخوارق ابتلاء للعبد من جنس النعم، وليس حصولها برهاناً على فضل الرجل عند الله، ولا عدمها دليلاً على هوانه. قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:15-17].

لكن الكرامة الحقة -التي بها نجاة العبد- إنما هي استقامته على أمر الله عز وجل حتى يأتيه اليقين.

قيل لأبي محمد المرتعش: "فلان يمشي على الماء! قال: عندي أن من مكّنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم ممن يمشي على الماء!" (سير أعلام النبلاء: [15/231]).

للاستقامة لا طالباً للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السُهروردي في عوارفه: "وهذا أصل كبير في الباب؛ فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما مُنحوا به من الكرامات وخوارق العادات؛ فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى متهماً لنفسه في صحة عمله؛ حيث لم يحصل له خارق[1]، ولو علموا بسِرِّ ذلك، لهان عليهم الأمر، فيُعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً. والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة؛ فهي كل الكرامة" (شرح الطحاوية: [2/ 747-748]).

ولا شك أن من أعظم الكرامات: ما أكرم الله به سلف الأمة وعلماءها والمجددين والمصلحين فيها؛ حيث بارك في أوقاتهم، وأعمارهم، وأعمالهم؛ فكتب بعضهم ما يعجز غيره على نسخه في مدة عمره[2]، وكان لعلومهم من الأثر ما نراه إلى يومنا هذا، وكتب الله لها البقاء والنماء، وكم كان للمصلحين من الأثر، وكم يترتب على مواقفهم الحميدة من آثار تجنيها الأمة طيلة سنين أو قرون! وتأمّل قوله تعالى في فضل من آتاهم العلم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269].

فأين هذا ممن تكون كرامته: الإكرام بمال، أو طعام، أو كشف في حادثة، أو قدرة على أمر؟!
ومن أوجه تفضيل الاستقامة على الكرامة:

1- أن الدين لا يُنال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختصاصه به يفضله على بقية الخوارق.

2- أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون، أما الخوارق فإنها لهم ولغيرهم.

3- أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه ولا يضره، وقد يقع له من حصول الخارق مضرة من عُجْبٍ ونحوه.

4- أنه يدفع مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة إلى كشف.

5- أن الكشف والتأثير قد يكون فيه فائدة وقد لا يكون.

6- أن الدين إذا صح أوجب خرق العادة إذا احتاج إليه صاحبه؛ لقول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق من الآية:2-3].

7- أن الدين هو إقامة حق العبودية، وهو فعل ما وجب عليك، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية؛ إذ لم يؤمر العبد بتحصيلها وفعلها (قاعدة في المعجزات والكرامات: [29-37]).

المخالفون لأهل السنة في الكرامات:

وهم فئتان: متوسعون في إثبات الكرامة، ومنكرون لوقوع ما سوى المعجزات. فأما المتوسعون فهم: الأشاعرة والماتريدية والصوفية والرافضة.

الأشاعرة والماتريدية:

خالف الأشاعرة أهل السنة في بعض تفاصيل مسائل النبوات والمعجزات والكرامات. ومن ذلك: "قولهم: إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء"، وهذا راجع إلى مذهبهم "في شروط المعجزة؛ حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة، وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوها من آيات الأنبياء؛ لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيها، ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات" (موقف ابن تيمة من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود: [3/ 1378-1782]).

وزعم الباقلاني أن: "الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها فيه على أيدي الكفرة والسحرة. وهذا تناقض" (موقف ابن تيمة من الأشاعرة؛ د. عبد الرحمن المحمود: [3/1382]).

ومما غلط فيه الأشاعرة والماتريدية[3]: زعمهم: أن كل ما وقع معجزة لنبي جاز وقوعه كرامة لولي[4]، وهذا توسع في إثبات الكرامة، وهو مردود بكون: "معجزات الأنبياء التي هي دليل صدقهم لا يجوز أن يأتي بها أحد غيرهم لا من المخالفين، ولا من الموافقين؛ لأن المعنى في إعجازها أنها لا تتكرَّر لغيره ممن ليس في منزلته؛ لأنها إذا أتت على يد غيره لا تصلح أن تكون شاهدة على صدقه هو فقط؛ لأن أساس هذه الشهادة هو عجز غيره عن الإتيان بمثل ما أتى به حتى تبقى حاملة أسرار الإعجاز كلها" (موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية؛ د. أحمد بناني، ص: [231]).