خالف الأشاعرة أهل السنة في بعض تفاصيل مسائل النبوات والمعجزات والكرامات. ومن ذلك: "قولهم: إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء"، وهذا راجع إلى مذهبهم "في شروط المعجزة؛ حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة، وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوها من آيات الأنبياء؛ لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيها، ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات".

في الحلقة الأولى: تَقدَّم الكلام عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهل السنة والمتصوفة، ومفهوم الخوارق والكرامات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم الإلهام والفراسة والرؤى؛ ببعض الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائد، وتبِع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية.

عقيدة أهل السنة في الكرامات:

من عادَ إلى كتب أهل السنة وجد موقفهم من الكرامة وسطاً بين إنكار الجافين، وتوسُّع الغالين؛ قال الطحاوي عن الأولياء: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم" (شرح الطحاوية: [2/745]).
وقال ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يُجرِي الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة" (الفتاوى: [3/156]، وانظر شرح الواسطية لخليل هراس؛ ص: [176]، وانظر الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف للصنعاني؛ ص: [20]).

و"لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والوقائع قديماً وحديثاً على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه" (التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة للشيخ السعدي؛ ص: [97]، وانظر لوامع الأنوار: [2/294]).

والأدلة كثيرة؛ منها:

- "ما ذكره الله من مجيء الرزق لمريم؛ لا من بشر، وكذا إنبات الرطب وإجراء النهر لها؛ ولم يكن شيء منها قبل ذلك" (هذه الكرامة تجدها في سورة [آل عمران:37]، [مريم:25]).

- ومنها: ازورار الشمس عن أهل الكهف، فلا تصيبهم مع أنهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً" (هذه الكرامة تجدها في سورة [الكهف:17]).

- ومنها: ما وقع لسارة من حملها بإسحاق رضي الله عنهما في سن اليأس" (هذه الكرامة تجدها في سورة [هود:71-72]).

- ومنها: إحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام" (هذه الكرامة تجدها في سورة [النمل:40]).

"وكذا؛ كفّ يد الظالم عن سارة، ومنها: نجاة أصحاب الغار من الصخرة التي انطبقت عليهم، ومنها: تكلُّم الغلام في المهد، ومنها: عجز الملك عن قتل الغلام حتى قال: بسم الله ربّ الغلام" (انظر صحيح البخاري، ح: [2358]، [5084]، [3465]، [3436]، [206]).

ومن الكرامات الواقعة للصحابة رضوان الله عليهم: "أن عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما توقّع مقتله في أول من يُقتَل يوم أحد، فحصل ذلك ودُفِن مع عمرو بن الجموح رضي الله عنهما فأخرجه جابر بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم دُفن غير أذنه، ثم دفنه في قبر وحده" (رواه البخاري، ح: [1351]).

وعن أنس رضي الله عنه: "أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله" (رواه البخاري، ح: [456]).

ضوابط قبول الكرامة:

أ- ضابط عام في الكرامات:
ليس من منهج الإسلام التعويل على الكرامات، وجعلها شرطاً للإيمان؛ فقد عاب الله على المشركين لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات خارقة، فقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا . قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء:90-93].

فقد كانت معجزاته صلى الله عليه وسلم معتمدة على الحجة والبرهان، وأجلُّها القرآن الكريم أعظم معجزة أُعْطِيَت لنبي، وهي أنفع المعجزات.

ولذا كانت حياته صلى الله عليه وسلم تجري موافقة للمألوف جرياً على العادة مع كونه أعظم الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم؛ فكان يأخذ بالأسباب كما فعل يوم الهجرة (مع أنه حصلت له معجزات في هجرته).

وهذه خاصية الدين والمنهج الذي يصلح للبقاء، خلافاً لما يظنه كثير من الناس من أن الأولياء يجب أن يتصرفوا في هذا الكون ويُعْطَوا مفاتيحه! (انظر تقديس الأشخاص: [2/ 288-289]).

ب- ضوابط من تقع له الكرامات:
أولاً: أن يكون من وقعت له من عباد الله المؤمنين. "فمن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر به ملتزماً طاعته فيما أوجب وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً لله، ولو حصل له من خوارق العادة ما عسى أن يحصل؛ فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور -من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها- إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقرِّبة إلى سخطه وعذابه" (الفتاوى: [10/431]).

ثانياً: "أن لا يجزم في كل خارق يحصل له أنه كرامة؛ بل الواجب عليه أن يعرِض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان فلبَّس عليه" (قطر الولي؛ ص: [272]).

ثالثاً: أن لا يدَّعي صاحبها الولاية؛ لتعذُّر الجزم بقبول العمل، كما وصف الله عز وجل حال أوليائه المؤمنين المتقين، فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: "أَهُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق؛ ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدَّقون، وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات»" (أخرجه الترمذي، ح: [3175]، وصحَّحه الألباني، ح: [2537]).

ثم إن في ادِّعاء الولاية تزكية للنفس وذلك منافٍ لحال الولاية.

رابعاً: أن لا تكون الكرامة غايته، يطلبها ويسعى في حصولها؛ فهو خلاف حال السلف.

ج- ضوابط الكرامة ذاتها:
أولاً: أن لا تشتمل الكرامة على ترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرَّمات، أو التزام شيء من العبادات لم يُرِد فيه نص شرعي؛ وذلك لأن الولي إنما نال الكرامة بطاعته وإيمانه؛ فلا يمكن بحال أن تكون تلك الكرامة سبباً لتركه شيئاً مما نالها به، ثم إن المحرَّم خبيث، والله لا يُكرِم عبده بخبيث؛ كما أن من دلائل الولاية الوقوف عند النصوص الشرعية فلا يكون ولياً لله من أحدث في دين الله تعالى ما ليس منه.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "قد لبَّس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا -بزعمهم- أمر القوم؛ والحق لا يحتاج لتشييد بباطل"؛ ثم ساق قصة تُروى عن سهل بن عبد الله فيها أن أحد الأولياء اشترط عليه أن يرمي ما معه من الزاد حتى يعطيه نور الولاية فتكون له خوارق العادات، ففعل، إلى أن قال سهل: فغشيني نور الولاية! ثم علَّق ابن الجوزي بقوله: "ويدل على أنها حكاية موضوعة [قولهم: اطَّرِحْ ما معك]؛ لأن الأولياء لا يخالفون الشرع، والشرع نهى عن إضاعة المال" (تلبيس إبليس؛ ص: [285]) كما أمر بفعل الأسباب.

ومثال ذلك أيضاً: من تحمله الجن فيحج مع الناس بلا إحرام ولا مرور بميقات... خِداعاً من الجن له.

ثانياً: ألا تشتمل على ما عُلِم في الشريعة عدم وقوعه، كدعوى لقيا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وكأن يرى شخصاً على صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام، وأحللت لك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف.

قال الشاطبي: "مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات، وليس كذلك؛ بل من أعمال الشيطان. كما يُحكى عن عبد القادر الجيلاني أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة: [يا فلان! أنا ربك، وقد أحللت لك المحرَّمات، فقال له: اذهب يا لعين. فاضمحلت السحابة]. وقيل له: بِمَ عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرَّمات. هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حَكَماً فيه لما عرف أنها شيطانية" (الموافقات: [2/ 275-276]).

ثالثاً: ألا يستعين بالكرامة على معصية الله عز وجل فإن أكمل الكرامات ما كان معيناً على طاعة الله عز وجل أما الكرامة والكشف والتأثير إن: "لم يكن فيه فائدة كالاطّلاع على سيئات العباد، وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب" (مجموع الفتاوى: [11/328]).

رابعاً: ثبوتها: قال الطحاوي: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم" (شرح الطحاوية: [2/746]). وقد يتعسَّر ذلك كثيراً بعد انقطاع عصر الرواية، ولقلة من يعتمد عليه في نقل الأخبار في الأعصُر المتأخرة.