كرامات الأولياء:
تعد الكرامة نوعاً من خوارق العادات. والعادة هي: الحالة المتكررة على نهج واحد، كعادة الحيض في المرأة (المعجم الوسيط). وخرق العادة إنما يكون بتمزيقها ووقوعها على خلاف الحال المعهودة المألوفة التي استقر وقوعها عليه (النبوات-لابن تيمية). وخوارق العادات قد تكون باستغناء الإنسان عن الحاجات البشرية كالطعام والشراب بأن تحصل له بسبب غير معتاد، أو تكون بأن يعلم شيئاً فيراه أو يسمعه، وليس في إمكان البشر سماعه أو رؤيته عادة، وهذا المسمى: الكشف أو المكاشفة، وقد تكون بحصول الأثر في الأشياء مما ليس في قدرة البشر فعله في العادة، كوجود ضوء من غير مصدره، ومن هذا إجابة الدعوة.

إن تمام الغنى والعلم والقدرة التي تكون الخوارق من جنسها إنما هو لله تعالى وهو الذي يخرق العادة لمن شاء، ولذا نفاها نوح عليه السلام عن نفسه، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينفيها عن نفسه، فقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] (الصفدية وقاعدة في المعجزة من الكرامات-لابن تيمية). كما أن تلك الخوارق منها ما يكون محموداً إذا أعان صاحبه على البر والتقوى، كمعجزات الأنبياء وكرامات الصالحين لحجة في الدين أو حاجة بالمسلمين، ومنها ما يكون مذموماً حيث كان عوناً على الظلم والفجور، كخوارق السحرة والفجرة، وما لم يكن من هذا ولا ذاك كأن كان عوناً لصاحبه على قضاء حاجته فإنه المباح، ثم إن استُغل في خير أو شر صار محموداً أو مذموماً (النبوات وشرح الطحاوية).

تعريف الكرامة:
الكرامة لغة: مصدر كَرُم، أو اسم مصدر من كرّم أو أكرم. والكاف والراء والميم: أصل صحيح، له بابان؛ أحدهما: شرف الشيء في نفسه، أو شرف في خلق من الأخلاق (معجم مقاييس اللغة). ويظهر أن الكرامة من الباب الأول لشرفها في ذاتها، وصاحبها كريم من الباب الثاني لشرفه في خلُقه مع الخالق تعالى ومع الخلق أيضاً. والكرامة من الكرم، وهو: ضد اللؤم ونقيضه (القاموس المحيط)، والكرامة: اسم يوضع للإكرام، كما وضعت الطاعة في موضع الإطاع (لسان العرب).
أما اصطلاحاً: فلم ترد الكرامة بهذا اللفظ في الكتاب ولا السنة ولا كلام الصحابة، وقد سماها الله عز وجل آية، فقال بعد ذكر كرامة أهل الكهف في ازورار الشمس عن كهفهم المفتوح جهتها: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17] فهي آيات وبراهين على قدرة الله، ودالة على كرامة صاحبها وإنما سميت بهذا تمييزاً لها عن المعجزة، وهذا التفريق في اللفظ إنما قال به كثير من المتأخرين (النبوات، وقاعدة في المعجزات والكرامات)، ثم شاع، وصار هو المقول به في عامة أقوال العلماء.
وحيث وجد الخارق للعادة نظرنا فيمن وقع له؛ فإن كان مؤمناً تقياً، وكان هذا الفعل الخارق مما يصلح ظهوره على يد الولي: عددنا ذلك كرامة، وعلى ذلك فيمكن تعريفها بأن يقال: هي أمر خارق للعادة يجريه الله على يد ولي ليس بنبي علم الولي بذلك أم لا (تقديس الأشخاص).

ومنه يظهر أن شروط الكرامة هي:
1- وجود أمر خارق للعادة.
2- ظهورها على يد ولي، وإلا لم تكن كرامة، بل استدراجاً.
3- كون هذا الولي ليس نبياً.
4- كون هذا الخارق مما يصلح أن يكون كرامة لولي، فلا يشتمل على معصية، أو باطل (الموافقات للشاطبي). ولا يشترط عدم التحدي، ولا كونها لحجة أو حاجة (النبوات وشرح الواسطية)، ولا علم صاحبها بها.

الفرق بين الكرامة والمعجزة:
كرامات الأولياء من باب معجزات الأنبياء، والاختلاف بينهما في الدرجة، ويظهر الفرق بينهما في الأوجه الآتية:
الأول: الكرامة لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء، كما أن أصحابها الأولياء لا يصلون في الفضيلة والثواب درجات الأنبياء؛ فللأنبياء معجزاتهم الكبرى التي لا يظهر مثلها على يد أحد من الأولياء أو الشياطين، وهي من الأدلة على صدقهم، فلا يمكن أن تختلط بأحوال غيرهم، قال ابن تيمية رحمه الله: "فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين" (النبوات).
ولكن هناك خوارق أقل درجة تسمى صغرى، وهي من التوابع والنوافل، ولا يعتمد عليها استقلالاً في صدق الأنبياء، وهي التي يجوز أن يظهر مثلها على يد الأولياء كرامة لهم، ودلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي تبعوه؛ فهذه الدرجة من المعجزات التي يحصل مثلها للإنس أو الجن لا تكون وحدها آية للنبي؛ فإن الله أيد نبوتهم بتلك المعجزات الكبرى التي لا يقدر عليها إنس ولا جن (النبوات، والموافقات للشاطبي). وهذه بحمد الله قاعدة واضحة للتمييز بين المعجزة والكرامة، يشهد لها قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» (رواه البخاري). والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها (النبوات). وبهذا يتبين خطأ قول من قال بأن كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي (وهم عموم الأشاعرة).
الثاني: أن المعجزة تقع للنبي مقترنة بدعوى النبوة، وليست كذلك كرامة الولي.
الثالث: أن المعجزات من الدلائل على صدق النبي وتأييد الله له، وتأتي لحاجة الخلق وهدايتهم، وتحصل للأنبياء وهم عالمون بوقوعها، كما يجب عليهم إظهارها، خاصة إذا توقف إيمان الناس عليها، ولا يشترط كل ذلك في الكرامة.

الفرق بين الكرامات والأحوال الشيطانية:
وإذا اعتبرنا المعجزات والكرامات من باب واحد، وجعلنا النبوة أساساً للتفريق بين الكرامات والأحوال الشيطانية (موقف ابن تيمية من التصوف-د أحمد بناني) سهل الأمر جداً، وتبين الفرق بينهما في الأمور الآتية:
1- أن الكرامات سببها الولاية الحقة لله تعالى وهي الإيمان والتقوى (الموافقات، والنبوات)، فلا عبرة بالخوارق بدون ذلك، إنما هي من الشيطان. قال الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة" (تفسير ابن كثير، قاعدة في المعجزات والكرامات). ومن النكت المليحة لأبي يزيد البسطامي قوله: "لله خلق كثيرون، يمشون على الماء، لا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير، فلا تغتروا به، حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشرع" (سير أعلام النبلاء، والحلية).
2- أن الكرامات قائمة على الصدق، بخلاف تلك المخاريق المبنية على الكذب: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222].
3- أن الخوارق الشيطانية في حقيقتها هي تصرفات من جنس تصرفات الجن والإنس، تفعلها الشياطين في غيبة عن أعين الإنس؛ من نقل شيء أو قتل أو أذى ونحوه، وليس فيها تحويل جنس إلى جنس، ولا ما يختص الرب بالقدرة عليه، ولا ما تختص به الملائكة فأين هذا من تكثير الماء القليل، بحيث يفيض حتى يصير بذاته كثيراً (النبوات).
4- أن الكرامات هبة من الله، أما الخوارق والأحوال الشيطانية فتحصل بالتعلم والرياضة ودعاء الجن والشياطين، والتقرب إليهم (تقديس الأشخاص).
5- أن أولياء الله يحاولون إخفاء الكرامة، ولا يلتفتون إليها، ويعلمون أنها نعمة يجب شكرها، ويخشون أن تكون ابتلاء لا يثبتون فيه، ومن كان هذا حاله فلا يتصور منه أن يجعل الكرامات ميدان منافسة، فيسعى إلى إبراز كراماته، وإبطال كرامات غيره، وأصحاب الأحوال الشيطانية على خلاف هذا تماماً، بل لا يظهرونها غالباً إلا في حضرة الناس، ويتحدى بعضهم بعضاً فيها، بغرض إبراز المهارات في الخديعة والمكر، فيقع بينها من التعارض الشيء الكثير (تقديس الأشخاص).
6- أن كرامات الأولياء أمر ثابت في النصوص الشرعية وواقع الصالحين، بخلاف تلك الأحوال الإبليسية التي يُبطل أثرها الذكر والقرآن. وشتان بين ما يخنس بتلاوة القرآن ويبطل أثره أو يضعف، وبين ما يقويه القرآن، ويزيده نوراً (تقديس الأشخاص).

الإلهام والفراسة من كرامات الأولياء:
أ - الإلهام لغة: يدل على ابتلاع شيء ومن هذا الباب : الإلهام، كأنه شيء ألقي في الروع فالتهمه، قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] (معجم مقاييس اللغة-لابن فارس) والإلهام: إيقاع شيء في القلب، يطمئن له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه (المعجم الوسيط).
والملهم هو: المحدّث، المُفْهَم، الذي يصدق ظنه في الأشياء، تتكلم الملائكة على لسانه، فيجري عليه الصواب من غير قصد منه، ويطلق على ذلك المكاشفة.
والمكاشفة الصحيحة: علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد، ويطلع بها على أمور تخفى على غيره، وقد يواليها، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها (مدارج السالكين).
دليل الإلهام: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن قبلكم ناس محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» (رواه البخاري). ولا يعدو الإلهام أن يكون فتحاً من الله تعالى على عبد من عباده المؤمنين بما يوافق الحق الذي أنزله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كالرؤيا الصالحة فيها كشف للنائم، وإطْلاع له على شيء مما لم يقع بعد. مصداقه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (رواه البخاري).

والإلهام على منزلته لا يمكن أن يكون مكملاً لنقص في الدين، أو محدِثاً لحكم جديد فيه، كما هو الحال تماماً بالنسبة للرؤيا؛ فإن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بأمر وجب عليه أن يعرضه على الشرع؛ لأن كل من كان من أهل الخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لما ورد عليه (ابن تيمية، في الفتاوى). ومن الإلهام: ما وقع للصديق رضي الله عنه في موقفه يوم قتال أهل الردة، حين خالفه كثير من الصحابة، فقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" (أخرجه البخاري)، حتى شرح الله صدور أصحابه لما أراه من الحق، ومنها: تسيير جيش أسامة الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته.

وقال عمر رضي الله عنه: "وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يارسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلتُ عليهن، قلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه قالت: يا عمر! أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} [التحريم من الآية:5]" (رواه البخاري). ومن إلهاماته: اختياره قتل أسارى بدر.

ب - الفراسة: يراد بالفراسة في اللغة معنى ذا جانبين؛ أحدهما أخص من الآخر، وهما:
1- المعرفة بالأمور، والخبرة بالأحوال، من خلال النظر المحكم فيها.
2- المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها (المعجم الوسيط).
ويمكن تعريف الفراسة في الاصطلاح بأنها: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يكشف له بعض ما خفي على غيره، مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيسدد في رأيه، دون أن يستغني بذلك عن الشرع. والفراسة المقصودة هنا الفراسة الإيمانية، وهي غير فراسة الرياضة، والفراسة الخلقية، بل هي على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ فراسة (مدارج السالكين)، فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية، وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة (مدارج السالكين). والسبب أن هذه الفراسة نشأت له من قربه من الله تعالى فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد والمحجوب كما ثبت في حديث الأولياء، "وليس هذا من علم الغيب، بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب منه" (الروح-لابن تيمية).

وللفراسة من الفوائد:
1- الانتفاع بالمواعظ، والاستفادة من الحوادث والعبر، قال تعالى بعد أن ذكر قصة إهلاك قوم لوط: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر من الآية:75] أي: الناظرين المتفرسين المتفكرين المعتبرين.
2- دقة الحكم بين الناس وخاصة من القضاة، وحفظ الحقوق، وتحقيق المصالح العامة، التي يهدف الشرع إلى تحقيقها (الطرق الحكمية).
3- تولية الأكفاء في رعاية مصالح الأمة.
4- توقع الأحداث قبل وقوعها، فتؤخذ لها العدة والحيطة، فتُتّقى الشرور وتدفع المفاسد.

ومن الفراسة: ما وقع لعمر حين دخل عليه نفر من مذحج، فيهم الأشتر النخعي، فصعّد فيه البصر وصوبه وقال :"أيهم هذا؟" قالوا: مالك بن الحارث، فقال: "ما له قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً". وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليه رجل من الصحابة وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: "يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقلت: أوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة" (الروح-لابن تيمية).