نتكلم هنا عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهل السنة والمتصوفة، ومفهوم الخوارق والكرامات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم الإلهام والفراسة والرؤى؛ ببعض الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائد، وتبِع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه، وبعد:
فإنه لما صحت أفهام سلف الأمة من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وأحسنوا العبادة وما أراد الله منهم، انصرفت عنايتهم لما كُلّفوا به، فحرصوا على ما ينفعهم غاية الحرص، ولم يأبهوا بما يشغلهم عن ذلك ويلفت قلوبهم إلى سواه، فقلّ كلامهم، وبلغوا من العمل منتهاه. ولما كثر الكلام، وقل العمل، وزاد الانحراف حدة، عظمت المخالفة في أمور؛ منها ما حصل في مفهوم الأولياء وكراماتهم، وشرّق الناس في أمر الكرامات وغربوا، حتى صارت تشكو من الأحوال الآتية:

1- استفحال أمر الصوفية في المبالغة في الكرامات، وما يسمونه بالكشف والإلهام، حتى أتوا فيها بما ينافي الشرع والعقل؛ ويظهر هذا جلياً لمن نظر في كتبهم مثل: (الطبقات الكبرى) للشعراني، و(جامع كرامات الأولياء) لابن الملقّن، و(كرامات الأولياء) للنبهاني ونحوها. والخطير في الأمر تصديق عامة الناس من السذج والبسطاء والمغفلين لمثل هذه الخرافات المنكرة، حتى صارت تصوغ عقول كثير من الناس، وأصبحت معياراً للاستدلال، وطريقاً للتعبد.
2- توسّع أهل الكلام (الأشاعرة والماتريدية) من وجه آخر، وتجويزهم أن تصل كرامات الأولياء إلى حدّ معجزات الأنبياء.
3- إنكار معتزلة الأمس، ومعتزلة اليوم (العقلانيين) للكرامات.
4- تلبيس أهل السحر والشعوذة بخوارقهم على العامة، وادعاؤهم أنها كرامة!

ويبقى أهل السنة بوسطيتهم يقفون في أمر الكرامات موقفاً وسطاً يتميزون به، سيراه القارئ الكريم مدعّماً بالأدلة، محلىً بالأمثلة والضوابط والفوائد.
ولا بد من الكلام أولاً عن مفهوم الأولياء. والله المعين.

معنى الولاية:
قال ابن فارس: "الواو واللام والياء أصل صحيح يدل على قرب. من ذلك الولْي: القرب. يقال: تباعد بعد ولْي، أي: بعد قرب. ومن الباب المولى: المعتِق والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والصاحب والجار، كل هؤلاء من الولْي وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه" (معجم مقاييس اللغة).
والوَلاية: النصرة، والوِلاية: تولي الأمر. وقيل: الولاية والولاية نحو: الدّلالة والدّلالة، وحقيقته: تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك (مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني).
أما الولاية الشرعية فأمرها غاية في الوضوح، قال الله تبارك وتعالى: {أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس:62-64] فكل مؤمن تقي هو ولي لله تعالى بالمعنى الشرعي، ويدخل في ذلك الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم فهم سادة الأولياء. لكن الأولياء في الاصطلاح يراد بهم مَنْ سوى الأنبياء، فيمكن أن يقال إن الولي هو: كل مؤمن تقي ليس بنبي.

والإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وهو قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وقول القلب هو الاعتقاد الجازم، وعمله قيامه بالعبادات القلبية كالإخلاص والمحبة والخوف والرجاء.
والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت مع البر كانت التقوى اسماً لتوقي جميع المعاصي، والبر اسماً لفعل الخيرات (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي). قال ابن رجب: "فظهر بذلك أنه لا طريق توصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن ادعى ولايته والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدون من دونه" (جامع العلوم والحكم). وقال ابن حجر: "المراد بولي الله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته" (فتح الباري).

وأولياء الله على مرتبتين:
إحداهما: مرتبة من تقرب إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
وثانيتهما: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، وهذه درجة السابقين المقربين، وقد ذكر الله تلكما الدرجتين ودليل الصنفين في سورة الواقعة والرحمن والإنسان والمطففين وفاطر(جامع العلوم والحكم)، فقال: {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} [الواقعة:8]. ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11].
والحاصل أن الولاية مرتبة في الدين عظيمة لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ فهي درجة عالية لا يُصعد إليها إلا بسلّم الشريعة؛ بل من اعتقد ولاية من يترك الواجبات ويفعل المحرمات فهو كافر مرتد؛ لتكذيبه الآية (أولياء الله عقلاء ليسوا مجانين - لابن تيمية).
والولاية لها جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر، واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل، وجانب يتعلق بالرب تعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة، أما الكرامات فهي أمر إضافي وليست شرطاً في الولاية (مقدمة تحقيق كرامات أولياء الله للالكائي - لأحمد سعد حمدان) كما سيأتي.

فضل الولاية والأولياء:
يكفي الأولياء ما جاء في الآية من تولي الله لهم، ونصرتهم وتأييدهم ومعونتهم وإصلاح أحوالهم، وأنه لا خوف عليهم مما أمامهم في الآخرة، ولا هم يحزنون على ما خلفهم من الدنيا، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هنيئاً لهم، يوفقهم الله بهدايته وتسديده، ويحوطهم بحمايته ونصرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (رواه البخاري). وهذا أصح حديث يروى في الأولياء (الفرقان). وقد ذُكر فيه المقتصدون والسابقون، أما الظالم لنفسه بالإصرار على الذنوب فلا يكون ولياً حتى يتوب.

الولاية لا تستلزم العصمة:
الولي بَشَرٌ يجوز عليه ما يجوز على الناس من الغلط والسهو والظن الخاطئ ونحو ذلك، ولا يقدح ذلك في ولايته خلاف ما زعمت الصوفية من أن القلب إذا كان محفوظاً كانت خواطره معصومة من الخطأ! فإنه ليس في النصوص ما يدل أو يشير إلى ذلك، بل نصوص الشريعة وإجماع العلماء على خلاف ذلك، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ . لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ . لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأََ الَذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:33-35]، فأثبت لهؤلاء المتقين المحسنين ذنوباً، وأنه يغفرها لهم، ولم تكن تقواهم مستلزمة لعصمتهم من الذنوب.
وأيضاً: فـ «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» (الحديث رواه الترمذي) ، وهو من سادات الأولياء، ومع ذلك لم يكن يركن إلى ما يلقى في قلبه؛ بل يعرضه على الكتاب والسنة، ويدع ما خالفهما، وعلى هذا النهج مشى الركب. قال أبو سليمان الداراني: "إنه يقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة" (الفرقان).
وخطأ الولي في اجتهاده العلمي ليس نقصاً في ولايته إذا كان ممن استفرغ جهده في البحث والاستدلال، وخطؤه مغفور له، وهو مأجور غير مأزور. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فأصاب فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (أخرجه البخاري).


الولاية عند الصوفية:
اختص الصوفية بمفهوم آخر للولاية؛ حيث زادوا على الحدّ الشرعي فقال أبو القاسم القشيري: "الولي له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره. والثاني: فعيل، مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً" (الرسالة القشيرية). وقوله هذا تأسيس للقول بعصمة الولي. وعرفه الجرجاني بمثل تعريف القشيري، وقال الجرجاني أيضاً: "الولاية هي: قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه" (التعريفات). وهذا يشير إلى الفناء أو الحلول.

ويمكن تلخيص انحرافات الصوفية التي خالفوا بها الكتاب والسنة في مفهوم الولي في نقاط عدة (انظر تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي - محمد أحمد لوح):
1- زعمهم أن الولي يتطور ويتشكل ويتواجد في أماكن مختلفة في آن واحد. قال الشعراني في ترجمة الشيخ حسين أبي علي: "كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات تدخل عليه الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل عليه فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل عليه فتجده صبياً، وهكذا" (الطبقات الكبرى).
2- أن ما يتخيله الولي ويتصوره في خياله فإنه يقع كما تخيّل. كما حكى الشعراني عما حصل للجوهري، حين غطس في البحر وتخيل أنه تزوج عراقية فأنجبت له أولاداً، فأتته بعد مدة بأولادها منه (الطبقات الكبرى).
3- دعواهم عصمة الولي وأنه لا يجوز الإنكار عليه ولو خالف الشريعة. فقد نقل الشعراني عن علي الخواص قوله: "إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من طائفة العلماء أو الفقراء، فتسقط من عين رعاية الله عز وجل" ثم قال: "وإنما نهى القوم عن المنازعة؛ لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها" ثم وصفها بكونها وراثة نبوية (الطبقات الكبرى).
4- أن الولاية تكون بأيدي الأولياء الكبار يهبونها لمن شاؤوا. يقول الدباغ: "يقدر الولي على أن يكلم أحداً في أذنه، ولا يقوم عنه حتى يكون هو والولي في المعارف على حد سواء" (لإبريز من كلام سيدي عبد العزيز-لأحمد بن المبارك). وهذا يبين وجهاً من مخالفتهم في كيفية اكتساب الولاية، كما قالوا باكتسابها بالتخلي والرياضة ونحو ذلك.
5- زعمهم أنهم يقابلون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ويتلقون عنه التشريع، ويسألونه عن الحلال والحرام، وصحة الحديث وضعفه (الطبقات الكبرى في ترجمة أبو المواهب الشاذلي).
6- ادعاؤهم أن للولاية خاتماً كما للنبوة خاتم، وهي فكرة صوفية اخترعها الحكيم الترمذي، وطورها الصوفية بعده حتى جعلوا لكل زمان خاتماً، ومنهم من جعل لولاية الخصوص خاتماً، وخاتماً لولاية العموم، فلا ولي بعده! (تقديس الأشخاص).
7- نسبتهم إلى الأولياء صفات الربوبية من علم الغيب، والتصرف في الكون. وانظر مثلاً ما حكاه الشعراني عن إبراهيم الجعبري من اطلاعه على خفايا من أحوال الناس (تقديس الأشخاص). وقد حكى الشعراني عن الجعبري أنه كان يُضْحِك ويُبْكِي من حوله إذا شاء، وأنه حبس بول ناس ثم أطلقه! (تقديس الأشخاص). ونقل عن محمد الحضري أنه يقول: "الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم" (تقديس الأشخاص). ونقل عن الشربيني أنه كان يقول للعصا التي كانت معه: "كوني إنساناً فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت" (تقديس الأشخاص).