عانت الكنيسة الأمرين في عصر الشهداء تحت حكم دقلديانوس،(Diocletian) حتى قيل ان جميع الإضطهادات التي مرت تتضاءل أمام سلسلة الإضطهادات في عهد دقلديانوس . ويسبب شراسة هذا الاضطهاد، جدف بعض الأساقفة ورعاياهم وخانوا إخوانهم، مرت السنين، وصارت المسيحية دين الدولة، فهل تقبل توبة هؤلاء الخونة؟ وهل يليق أن تضع الكنيسة يدها علي يد الدولة التي أحلت دماء المسيحيين؟ المتشددون والذين أُطلق عليهم " الدوناتستيون " فيما بعد رفضوا توبة الخونة، (Donatist ) وقالوا: لا يليق ان تدنس الكنيسة يدها مع الدولة، وكانت الكنيسة أكثر مرونة فقبلت توبة هؤلاء، ورأت ان تشدد الدوناتستية خروجا عن إيمان الكنيسة الجامعة، بل ونادت بإكراه المتشددين علي الرجوع إلى حظيرة المسيح والاستعانة بسيف الدولة وسلطتها التشريعية، لقد تحولت النعجة الصامتة إلي جزار



الدوناتست، وهم أتباع دوناتس أسقف قرطاجنة. كريستلوجيا هذه الفرقة لا تختلف عن الكنيسة الجامعة، غير ان فكرهم أكثر روحانية، لذلك اعتبرتهم الكنيسة منشقين ولم تعتبرهم هراطقة، يري الدوناتستيون ضرورة الحفاظ علي طهارة الكنيسة، وتعتبر الذين تعاونوا مع الدولة أثناء الاضطهاد غير صالحين للرتبة الكهنوتية، كما تري انه الكنيسة ليس لها علاقة بالدولة،
أثناء اضطهاد دقلديانوس صدرت قوانين تأمر بتسليم المسيحيين كتبهم المقدسة والكؤوس المستخدمة في القداس، فكان هناك من تخلي عن الكتب ولم يعد يحتفظ بها وهناك من سلم الكتب للسلطات، الدوناتسية وصفت الفريق الأول بالخونة ولكن خيانتهم أقل من خيانة الفريق الثاني، فخيانتهم لا تغتفر ولا يصلحون لأي رتبة كهنوتيةـ فالشخص غير المقدس ليس بإمكانه أن يقدس الخبز في سر الأفخارستيا [1]
في عام 313 تم رسم سسيليان (Caecilian ) أسقفا علي قرطاجنة، علي يد فيلكس (Felix of Aptunga ) [2] واعترض العديد من الأساقفة وعلى رأسهم زعيمهم سكندوس (Secundus ) واعتبروا سيامته باطلة لأنه الأسقف الذي رسمه متهم بتسليم الكتب والكؤوس أيام الاضطهاد وهذه خيانة لا تغتفر
منسيريوس من قرطاجنة (Mensurius of Carthage ( ممثل الكنيسة في أفريقيا كتب إلي سكوندوس يعترف له أنه أسلم بعض الكتب ولكن لم تكن كتب مقدسة، وقال أنها كتب الهراطقة
بين منسيريوس وجهة نظره في الرسالة، وقال ان أتباع مجورينوس ( الدوناتستيون ) أناس متعصبون يسعون إلي الاستشهاد دون أن يتعرض لهم أحد، يذهبون إلي السلطات ويقولون أنهم يقتنون كتبا مقدسة وأنهم لن يسلموا الكتب، رغبة في الشهادة
يقول أندريان فترسكو (Adrian Fortescue ) أن منسيريوس كان يري ان المدونين استغلوا الاضطهاد، ويتحرشون بالدولة رغبة في حياة السجن، والتي من خلالها يتهربون من الدائنين، ويعيشون حياة مريحة في السجن حيث يمدهم المعجبون بالطعام، إضافة إلي اكتساب البطولية المزيفة، وعمل منسيريوس علي منع وصول الطعام إلي هؤلاء مستعينا بمساعده سسيليان الذي رسم أسقفا فيما بعد [3]
سكندوس عقد مجمعا في قرطاجنة وحرم سسيليان ورسم مكانه مجورينوس (Majorinus ) ولما مات مجورينوس خلفه دوناتس (Donatus ) الذي عرفت الطائفة باسمه فيما بعد [4]

الإمبراطور قسطنطين انتزع من الدوناتست كنائسهم وأسلمها إلي الكنيسة الكاثوليكية ونفي قادتهم، وألغى قسطنطينوس قراراته عام 321 وأعاد إليهم كنائسهم، وتكرر اضطهادهم على يد كونستانت Constans (337-350) ولما تولي جوليان الحكم أعفي عن الدوناتست وأعاد إليهم كنائسهم، وفي عصر جوليان كان الدوناتست قد كثروا جدا وصاروا قوة كبري في أفريقيا [5]

الفكر الدوناتستي امتداد لحركات أخري ظهرت من قبل، ففي منتصف القرن الثاني انزعج مونتانيوس من اهتمام الكنيسة بالشؤون الإدارية وتجاهل الروحانيات فأعلن مونتاتيوس أنه البارقليط المنتظر ودعا إلي العودة إلي الحياة الروحية والتقشف،
العلامة ترتليان من أشهر الآباء الذين انضموا إلي المونتانية، وكان يقول من المستحيل ان يكون الإمبراطور مسيحيا ومن المستحيل ان يكون المسيحي إمبراطورا. والدوناتستية استمروا علي هذا نهج، فقالوا : ما هي علاقة المسيحيين بالملوك، وماذا يعمل الأساقفة في البلاط [6]
يري أغسطينوس رفض الدوناتست للارتباط بالدولة ليس فكرا أصيلا لدي الدوناتست، وإنما تبنوا هذا الموقف بعد ان فشلوا في استمالة السلطة،
ذكر المؤرخ الألماني فيلب شاف أن الدوناتست استنجدوا بالإمبراطور قسطنطين لإيقاف الأسقف سيسيليان (Caecilian ) لأنه الأسقف الذي رسمه كان متهما بالخيانة وتسليم الكتب المقدسة إلي سلطات دقلديانوس الذي أمر بحرق الكتب المسيحية، الإمبراطور قسطنطين أوكل البابا ملتياديس في الحكم (Miltiades ) ولما لم تحكم المحكمة لصالح الدوناتست كالمتوقع، طلبوا تحقيقا آخر، ودعا قسطنطين إلي مجمع المعروف بـ مجمع أراليت (Arelate) ولم يكن حكم المحكمة لصالح الدوناتستية بل صدرت قوانين قاسية ضدهم واضطهدوا اضطهادا شديدا بمباركة الكنيسة، بناء علي هذا يري أغسطينوس ان نفورهم من الدولة ليس مبنيا علي إيمان وإنما هو رد فعل جراء إضطهادهم من قبل الدولة
إتهم الدوناتست بدورهم الكنيسة بإكراه الناس علي الدين، فما كان من القديس أغسطينوس إلا وقال " والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي" ( لوقا 14/23) [7]( انظر رسالة أغسطينوس إلي Vincentius الفصل الثاني
القديس أوغسطينوس كرز نفسه في أواخر حياته للرد علي الدوناتست، وقدم مبررات كتابية لجواز استخدام العنف ضد الدوناتست وغيرهم لإرجاعهم إلي حظيرة يسوع

[1]A. Fortescue. Donatism.P 3. Burns & Gates.London 1917
[2]Ibid P 4.
[3]A. Fortescue. Donatism.P 3
[4]Philip Schaff. History of the Christian Church Vol 3 P 361. Charles Scribner's sons. New York 1891
[5] Adrian Fortescue, Donatism. p10
[6]Philip Schaff. History of the Christian Church Vol 2 P 122
[7]Ibid P 361 - 364 أنظر ايضا انظر رسالة أغسطينوس إلي Vincentius الفصل الثاني NPNF1-01