استخلاف الصديق بين التصريح والتلميح - في الأحاديث النبوية

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري ..قال:

قال رسول الله : "إِنَّ مِنْ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْر...
وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ.. لا يَبْقَيَنَّ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ".


قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة.. لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين..

وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحًا وهو: "سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ".

وأخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة ، والطبراني عن معاوية، والبزار عن أنس وغيرهم.

وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن المطعم قال:

أتت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فأمرها أن ترجع إليه
قالت: أرأيت إن جئت، ولم أجدك. كأنها تقول الموت
قال (صلى الله عليه وسلم) : "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ"


قال الشافعي: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو أبو بكر ..

وأخرج الحاكم وصححه عن أنس ..

قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟
فأتيته، فسألته..
فقال: "إِلَى أَبِي بَكْرٍ".


وهذا الحديث يكاد يكون صريحًا... فإن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.

وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:

قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكَ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا..
فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ".


وهذا تصريح أشد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

ويقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا نص جلي في استخلاف أبي بكر الصديق ..

لكنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكتب كتابًا... لماذا؟!

يوضح ذلك ما جـاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت:

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرضه الذي فيه مات: "ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَكْتُبُ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدِي..
ثم قال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ".


وهذا الحديث يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق بوضوح ..
وهو أيضًا من دلائل نبوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ...
فإن المسلمون فعلاً لم يختلفوا في خلافة أبي بكر الصديق عندما طرح اسمه للخلافة...
بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانت بإجماع لم يحدث في مكان على الأرض.. لا قبل ذلك ولا بعد ذلك..
فلم تثبت حالات اعتراض على خلافة الصديق ..غير ما أشاعه المستشرقون.. وغيرهم..

وأخرج مسلم عن عائشة أنها سئلت: من كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مستخلفًا لو استخلف؟

وفي هذا تصريح إنه لم يستخلف أحد صراحة لا أبا بكر ولا غيره

قالت: أبو بكر
قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟
قالت: عمر.
قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟
قالت: أبو عبيدة بن الجراح.


وأبو عبيدة بن الجراح مات سنة 18 هجرية في ولاية عمر بن الخطاب..
ولذلك لم يكن مرشحًا للخلافة عند استشهاد الفاروق سنة 23 هجرية.
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال:

كان قتال بين بني عمرو بن عوف..
فبلغ النبي (صلى الله عليه وسلم) فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم
وقال: "يَا بِلالُ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"
فلما حضرت صلاة العصر، أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر، فصلى.


ثم في رواية البخاري قال سهل بن سعد :

فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) والناس في الصلاة فتخلص -أي شَقّ الصفوف- حتى وقف في الصف الأول..
فصفق الناس... وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته...
فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت فرأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
فأشار إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن امكث مكانك..
فرفع أبو بكر الصديق يديه فحمد الله..
ثم استأخر أبو بكر حتى استوى الصف.. وتقدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. فصلى..
فلما انصرف قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟"
فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. "مَالِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ...
فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ".


روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ..
ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قِحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ..
ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرَبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ".


أي سقوا إبلهم... ثم آووها إلى عطنها... وهو الموقع التي تستريح فيه الإبل...
فهذا مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر في خلافتهما وحسن سيرتهما..
وظهور آثارهما.. وانتفاع الناس بهما..
وكل ذلك مأخوذ من النبي (صلى الله عليه وسلم).. ومن بركته وآثار صحبته..

فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو صاحب الأمر..
فقام به أكمل قيام..
وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه..
ودخل الناس في دين الله أفواجًا..

وأنزل الله تعالى..

(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)

ثم توفى (صلى الله عليه وسلم)..
فخلفه أبو بكر سنتين وأشهرًا وهو المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم).. "ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ".
وحدث في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام..
ثم توفى..
فخلفه عمر ...فاتسع الإسلام في زمنه... وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله.
فعبر (صلى الله عليه وسلم) بالقليب عن أمر المسلمين..
لما فيه من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم..
وشبه أميرهم بالمستقى لهم..
وسقيه لهم قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم...

وهذا فيه من دلائل نبوته (صلى الله عليه وسلم)...
إذ لم يمكث أبو بكر إلا سنتين وأشهر قليلة..
ومكث عمر فترة طويلة... ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم).. "نَزَعَ نَزْعًا لَمْ يَنْزِعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ".
استخلاف الصديق بين التصريح والتلميح - في الصلاة

نأتي إلى حديث هام....
وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف أبي بكر الصديق ..
وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر أن يصلي بالناس أيام موته..
فظل يصلي بهم 10 أيام والرسول (صلى الله عليه وسلم) ما زال حيًّا..
لكن يمنعه المرض من القيام.

روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت:

لما مرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرضه الذي مات فيه..
فحضرت الصلاة، فأذن لها..
فقال: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"
فقالت له: إن أبا بكر رجل أسيف -أي شديد الأسف والحزن..
وفي رواية: رجل رقيق- إذا قام مقامك لم يستطع أن يُسمع الناس..
فأعاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأمر مرة ثانية..
فردت عليه نفس الرد..
فأعاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مصرًّا على رأيه..
فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد للمرة الثالثة فقال: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ".
وقال: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"...فخرج أبو بكر فصلى..


ثم تكمل السيدة عائشة، كما جاء في البخاري.. فتقول:

فوجد النبي (صلى الله عليه وسلم) من نفسه خفة..
فخرج يُهَادى بين رجلين -العباس وعلي - كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع..
فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي أن مكانك..
ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه -وفي رواية إلى يساره وهو مقام الإمام- ...

وقيل للأعمش أحد رواة الحديث: وكان النبي يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته..
والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه نعم.


يعني في هذه الصلاة بدأ أبو بكر الصلاة إمامًا..
ثم لحق به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... فأصبح هو الإمام إلى آخر الصلاة.

والذي يدعونا إلى قول أن السيدة عائشة ... كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس ..
خشية أن يتشاءم به الناس...

ما جاء في كلامها هي في البخاري أيضًا حيث قالت: لقد راجعته، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا.

ولعل السيدة عائشة أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية..
منها على سبيل المثال أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة..
ومن ثم الخلافة إلى أبيها..
وقد حدث وطعن الطاعنون فيها بعد ذلك رغم هذا التردد..

ومنها أن تشهد حفصة بنت عمر على هذا الأمر..
لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة...
وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه..
وذلك لقوته وحسن إدارته وسطوته على الكفار والمنافقين..

فهي بذلك أشهدت أولى الناس بالشهادة..حتى يعلم مراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك ..
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن مترددًا في أمر إمامة أبي بكر ...
وأنه كان حاضر الذهن عندما عهد له بذلك..
وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام..

وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور أو لا تقصدها..
فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل..
وظهر واضحًا لعموم المسلمين أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ..
لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق ..

وهذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله في استخلاف الصديق..

واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب لما قال: رضيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لديننا فرضيناه لدنيانا.

كما روى الحاكم في مستدركه؛ أي رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.

أيضًا استنبط عمر رغبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة..

يوم قال للأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم أبا بكر للصلاة؟
قالوا: بلى. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟
قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.


روى ذلك النسائي والحاكم.

وظل أبو بكر يصلي بالناس طوال فترة مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
ولم يخرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) للصلاة مرة أخرى..
فقد أقعده المرض عن ذلك.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مصرًّا ..
على أن لا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة ..
كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك.

يروي أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة قال: لما اسْتُعِزّ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) -أي اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ".

وهنا لم يصرح الرسول (صلى الله عليه وسلم) باسم أبي بكر أو غيره..

يقول: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا، فقلت: يا عمر قم فصل بالناس.

وواضح أن عبد الله بن زمعة ... وغيره من الصحابة ..
كانوا يعلمون أن الذي يجب أن يصلي بهم هو أبو بكر.. لكنه لم يكن موجودًا.. فليكن عمر..

يقول عبد الله بن زمعة : فتقدم عمر فكبر، فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صوته، وكان عمر رجلاً مجهرًا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... "فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ"

فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله زيادة ....

حيث جاء عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن زمعة وقال له -بعد الصلاة لما سمع غضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. فقال عبد الله بن زمعة : والله ما أمرني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.

فهذا الغضب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤكد أنه يريد أبا بكر لذاته..
وإلا فالصلاة صحيحة..
وعمر من أفاضل الرجال..
بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق..
لكن في هذا المقام أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن لا يلتبس الأمر أبدًا على المسلمين بعد وفاته..
فلا يختلفون على الصديق ..