العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة

الصديق كان أعلم الصحابة..

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال

خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ". فبكى أبو بكر، وقال: "نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا"... يقول أبو سعيد الخدري: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن عبد خير؟ فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا.

وكان الصديق علمه غزير ..
ويفتي في وجود الرسول (صلى الله عليه وسلم)..وكانت هذه الخاصية له وحده..
وأحيانًا لعمر وليس لغيرهما..

سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان يفتي الناس في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟
فقال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ما أعلم غيرهما.


روى البخاري رحمه الله عن أبي قتادة ..

قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله -يريد أن يأخذه على غرة- من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني وأضرب يده، فقطعتها ثم أخذني، فضمني ضمًّا شديدًا، حتى تخوفت، ثم ترك، فتحلل، ودفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم -وهذا كان في أول يوم في حنين- فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ أي لماذا يهربون؟ قال: أمر الله.. ثم تراجع الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - يقصد انتصر المسلمون وانهزم المشركون - وبعد الموقعة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبَهُ". فقمت لألتمس بينة قتيلي، فلم أر أحدًا يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رجل من جلسائه: صدق وسلبه عندي فأرضه مني.

إذ اعترف الرجل أن السلب معه... لكنه يريد أن يأخذه ويرضي أبا قتادة بشيء..

هنا قام الصديق وقال في حمية: كلا لا يعطه أصيبغ من قريش -أي طائر ضعيف- ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)...

يستنكر الصديق أن يأخذ الرجل من السلب شيئًا وإن كان معه...لكن يعطيه لأبي قتادة كاملاً..

فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : صدق فأعطه..

فصدّق (صلى الله عليه وسلم) على فتوى الصديق وهو في حضرته.

و روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت..

دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فطر، أو أضحى، وعندي جاريتان تغنيان بغناء الحرب، والشجاعة، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرهما وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ".

قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى..

إن أهل السنة اتفقوا على أن أبا بكر هو أعلم الأمة، وحكي الإجماع على ذلك، ولعل سبب هذا العلم الغزير تفوقه على الصحابة وملازمته للنبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر من غيره، فقد كان أدوم اجتماعًا به ليلاً ونهارًا وسفرًا وحضرًا، وما أكثر الأحاديث التي ذكر فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج وأبو بكر، أو دخل وأبو بكر، أو جلس وأبو بكر، وهكذا.

ولقد استعمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الحج..
وهو يحتاج إلى علم غزير..
واستعمله على الصلاة لكونه أعلم الناس..
ولم يحفظ له قولاً يخالف فيه نصًّا ولا يعرف له غلط.

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات...

استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله (رضي الله عنه) في الحديث الثابت في الصحيحين: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقاتلتهم على منعه.

روى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "رَأَيْتُ كَأَنِّي أُعْطِيتُ عُسًّا -قدحًا كبيرًا- مَمْلُوءًا لَبَنًا، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى تَمَلأْتُ، فَرَأَيْتُهَا تَجْرِي فِي عُرُوقِي بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَفَضُلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ، فَأَعْطَيْتُهَا أَبَا بَكْرٍ" ، قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر, فقال (صلى الله عليه وسلم) "قَدْ أَصَبْتُمْ".

وقد ظهرت عظمة علمه ودرايته وأدلته عند موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وظهر تفوقه الواضح على الصحابة..
حيث بَيّن لهم موت النبي (صلى الله عليه وسلم).. والآيات التي جعلتهم يقبلون بالمصيبة ويصبرون عليها..!

ثم بَيّن لهم موضع دفنه ...وكانوا قد اختلفوا على ذلك..!

ثم بَيّن لهم ميراثه...وكانوا أيضًا اختلفوا على ذلك...!

وبَيّن لهم قتال مانعي الزكاة كما أشرنا من قبل.....!

وَبَيّن لهم أن الخلافة في قريش.... ولم يذكرها أحد قبله في السقيفة...!

وَبَيّن لهم وجوب إنفاذ بعث أسامة بن زيد ... !

ومن كل ما سبق يتبين مدى غزارة علم الصديق ... وأنه بحق أعلم الصحابة...
حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور

إذا قال أحد الناس .. إن أبا بكر ٍ كان عالما ..
لكن قد يفوقه آخرون في حسن الرأي.. وفي استغلال العلم الذي يعلمه..
فإننا نرد على ذلك بأن الصديق كان أعظم الصحابة رأيًا وأحكمهم في التصرف..
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دائم الاستشارة للصديق ..
وكان أحيانًا يستشيره بمفرده... وأحيانًا يستشيره مع الصحابة..
وكان يميل إلى رأيه دائمًا (صلى الله عليه وسلم)..

ظهر ذلك واضحًا مثلاً في استشارته في أمر قتال المشركين في بدر..
وظهر في أمر الأسارى في بدر..
وفي الحديبية لما توافقت كلماته ورأيه مع كلمات ورأي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...

وقد أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم، والطبراني عن البراء بن عازب أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لأبي بكر وعمر: "لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا"

وظهر من حسن الرأي للصديق في أيام خلافته ما يعجز البيان عن وصفه..
وهناك تفصيلات كثيرة..
ولا يخفى ما في حسن اختياره لعمر بن الخطاب خليفة من بعده ما أصلح للأمة أمرها..
وقوّى من شأنها..
فالرجل فعلاً مسدد الرأي وعظيم الحكمة..
ومن العسير فعلاً أن تبحث له عن خطأ في رأي...أو في حكم... أو في قضية.

وقد روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل ..

أن النبي لما أراد أن يُسَرّح معاذ إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه..
فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وأسيد بن حضير..
فتكلم القوم كل إنسان برأيه..
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) "مَا تَرَى يَا مُعَاذُ؟"
قال معاذ: أرى ما قال أبو بكر..
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) .. "إِنَّ اللَّه يَكْرَه فَوْقَ سَمَائِهِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ".


وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده بلفظ: "إِنَّ اللَّهُ يَكْرَهُ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبْو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الأَرْضِ".

وأخرج ذلك الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ". وقال: رجاله ثقات.

واستدل ابن القيم رحمه الله على فضل الصديق بهذا الحديث..فقال ..

وأضاف أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يُخَطِّئ أبا بكر إلا في تعبيره لبعض الرؤيا.. وإن الصديق من أعرف الصحابة بتعبير الرؤيا..وقال: إن المقصود بالتّخْطِيءِ الذي لا يرضاه الله هو تخطِيء البشر العاديين من غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبي بكر.

ومع هذا العلم الغزير والرأي الحكيم ...
إلا أنه كان دائم الاستشارة لأصحابه...
ولم يكن يعتد برأيه حتى في قضايا حروب الردة..

وإنفاذ بعث أسامة بن زيد ...
فإنه وإن كان صاحب رأي مختلف..
إلا أنه لم يفعله إلا بعد إقناع الصحابة برأيه وعلموا أن الحق معه.

وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران رحمه الله قال:

كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم -أي المختصمون في قضية- نظر في كتاب الله ..
فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به..
وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك الأمر سنة فقضى بها..
فإن أعياه خرج فسأل المسلمين..
وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى في ذلك بقضاء؟
فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه قضاء ...
فيقول أبو بكر: الحمد الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.


مما سبق يتضح أن الصديق لم يجمع فقط صفات الخليفة...
بل فاق فيها كل الصحابة وبسبق واضح..
أجمع على ذلك الصحابة المعاصرون له..
وأجمع على ذلك العلماء الأجلاء المتابعون للأحداث والمحللون لها..
فكان اختياره حقًّا اختيار العقل الحكيم والرأي السديد.

إذن بالعقل والمنطق والحكمة ...
لا بد أن يكون الصديق هو خليفة المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
هذا الأمر مجرد من أي إشارة أو تلميح من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخلافة الصديق..
فما بالكم إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أشار في أحاديث عدة..
وفي مواقف مختلفة إلى رغبته في أن يخلفه الصديق ..

وهذا لا شك يزيد من موقف الصديق قوة..
ويؤيد الرأي الحكيم الذي اجتمع عليه صالحو الأمة وحكماؤها من الصحابة الكرام.