مسألة غضب علي والزبير يوم المبايعة

تذكر إحدى الروايات ..
أن عليًّا والزبير غضبا يوم المبايعة.. والرواية صحيحة..
وفعلاً غضب علي ، وغضب الزبير ..

لكن لماذا غضبا؟

أشاعت فئة من الناس أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق ..
وكانا يريان أن غيره أفضل...
وطبعًا المقصود بغيره هو علي بن أبي طالب ..

لكن بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما ..
نجد أنها فسرت الغضب على محمل آخر.. ومحمل مقبول..
لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية وتركوا بقيتها..

روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه..عن عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح كما صححه ابن كثير..قال علي: ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يصلي بالناس وهو حي.

إذن غضب علي والزبير رضي الله عنهما كان...
لأن مشورة اختيار الخليفة تمت في غيابهما.. وهو أمر مفهوم ومقبول..
ومن الطبيعي أن يغضبا لذلك..
بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر..
لأنهم جميعًا لم يحضروا هذا الحدث الهام..

ولا شك أن كثيرًا منهم من أهل الرأي والمشورة..
و كان ينبغي أن يكونوا حضورًا في اختيار الخليفة... ولا يكتفي بثلاثة من المهاجرين فقط..
هذا عذرهم..

لكن على الجانب الآخر ..
فإن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة معذورون كذلك في غياب بقية المهاجرين..
وقد رأينا الأحداث بالتفصيل..
وكيف أن أبا بكر وعمر كانا في بيت رسول الله وقت اجتماع الأنصار..
وجاء إليهما رجل أخبرهما بالخبر..
فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير...
وفي الطريق لقيا أبا عبيدة بن الجراح على غير اتفاق.. فأخذاه معهما..
ودخلوا جميعًا السقيفة..
وتسارعت الأحداث في السقيفة كما رأينا..
وكان يُخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت... أن تحدث فتنة في المدينة..
وأن يكثر القيل والقال.. والخلاف والتفرق..

فما حدث لم يكن القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور..
ولكن سرعة التقاء الأنصار..
ولهم ما يبررهم كما بَيّنا سابقًا ...هي التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة...

ويبدو أن بعض المهاجرين الآخرين كانوا يجدون في أنفسهم...
لنفس السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ..
مما دعا أبا بكر الصديق أن يقف خطيبًا في المهاجرين بعد المبايعة بأيام ..

كما روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف فقال:

خطب أبو بكر الصديق في المهاجرين فقال: ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة، ولا سألتها في سر، ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قُلّدت أمرًا عظيمًا ما لي طاقة به ولا يد إلا بتقوى الله. فقبل المهاجرون مقالته...

والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا...
فهم يعرفون صدق الصديق وزهده ومكانته وقلبه وإيمانه...
ولو أخذت آراءهم جميعًا ما اختاروا غير الصديق ..
لكنه أراد أن يقطع الشك باليقين..
ويقتل الفتنة في مهدها..
ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئًا في استثنائهم..
بل كان مضطرًا....

إذن كان من الواضح ...
أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهادًا مصيبًا منهم..
فها هي آثار ورواسب حدثت في نفس المهاجرين ..
مع أن الخليفة أبا بكر منهم..فكيف لو كان من غيرهم؟

ونعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمر قبلية أو عصبية.. أو اعتراض عن الاختيار..
لكن وجدوا في أنفسهم لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة..

هذا الموقف من الأنصار..
هو الذي حدا بعمر بن الخطاب أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين..
لم يفقههما القارئ غير المتتبع للأحداث... وللظروف التي قيلت فيها هاتان العبارتان:

أما العبارة الأولى فقد قالها يوم السقيفة وبعد مبايعة أبي بكر ..

إذ قال رجل من الأنصار لعمر بن الخطاب: قتلتم سعدًا والله..

يقصد قتلتم سعد بن عبادة سيد الأنصار باختياركم غيره..

يروي البخاري عن عمر بن الخطاب تفسيرًا لهذا الموقف فيقول: "وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ، أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلاً مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا".

أي مخافة أن يقتلا نتيجة الفتنة التي قد تحدث..

وأما العبارة الثانية التي قالها عمر ...
جاءت في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب في أيام إمارته على المسلمين ..

خطب في الناس فقال: بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا.

يقصد أنه سيبايع فلانًا.. وفلانًا هذا هو طلحة بن عبيد الله دون مشورة أحد..
فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر..

يكمل عمر فيقول: فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وتمت.

فلتة بمعنى فجأة..
فعمر يريد أن يحذر من يقول بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب.. ومع ذلك تمت ونجحت..
وبويع أبو بكر...
فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلاً فجأة.. ويتم له الأمر.

ثم يكمل عمر يصحح المفاهيم للأمة، ويقول: ألا وإنها -أي بيعة الصديق- قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها.

وهذه عبارة هامة جدًّا..
يقصد عمر أن عملية الانتخاب الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم..
فلا بد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور..
وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن أن لا تقر من عامة المسلمين..
لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق ..!

ولو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم ..
فاختار بعضهم طلحة مثلاً... واختار بعضهم عليًّا مثلاً.. واختار بعضهم عمر مثلاً.. وهكذا.. فكيف يجتمعون؟

ولذلك قال عمر بن الخطاب تعقيبًا على هذا الكلام: وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

أي أن السابق فيكم الذي لا يُلحق في الفضل ...لا يصل إلى منزلة أبي بكر..
فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له..
فأبو بكر الصديق وقعت له المبايعة بالإجماع في الملأ اليسير في السقيفة..
ثم وقعت له المبايعة في عامة الناس من رءوس القوم الذين لم يحضروا البيعة..
وليس هذا إلا للصديق ..

لذا نصيحة عمر للأمة ألا تتسرع في أمر اختيار قائدها..
فليس منهم من سيجمع الناس عليه مثلما أجمعوا على أبي بكر..
فعليهم بالشورى المتأنية وبطرح كل الأسماء المرشحة..
وبدراسة كل واحد منهم..
ثم اختيار واحد..

ومن المؤكد أن هذا الواحد سيكون مقبولاً من بعض الناس..
ومرفوضًا من غيرهم..
فإذا حدث اختياره بعد شورى حقيقية.. أمن الشعب الفتنة..
وإن أرغم الناس عليه إرغامًا ..فلا تؤمن الفتنة....