استخلاف ابو بكر الصديق

استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش...
وهذه خطوة عظيمة للوصول إلى الخليفة...
لكن ما زال هناك خطوات وخطوات..
فقريش قبيلة عريقة بالبطون الشريفة..
ففي أي بطن ستكون الخلافة..
ثم إن المهاجرين بالآلاف...
والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان..
فكل رجل من المهاجرين أمة..

فمَن مِن هؤلاء سيتولى هذه الخلافة..
وقد نتخيل أن الأمر شاق..
وعسير..

لكن فلننظر ماذا حدث؟

قال الصديق لعمر ... ابسط يدك نبايع لك...

فقال عمر: أنت أفضل مني...

قال أبو بكر: أنت أقوى مني...

قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك...

سبحان الله ... !

أيُ مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟

ونحن نرى اليوم بعض الإخوة الملتزمين..
ويفترض أنهم مدركين للدين جيدًا..
لكنهم يختلفون فيما بينهم على إمامة مسجد..
أو إمامة في صلاة..
فماذا سيكون حالهم لو كانت إمامة أمة؟!

ثم تقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين وقال: لا ينبغي لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟

وروى النسائي والحاكم ..

أن عمر قال للناس: ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدّم أبا بكر للصلاة؟
قالوا: بلى...
قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟
قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.


هنا وثب عمر ... فأخذ بيد أبي بكر في حسم واضح للمشكلة..

وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور ..

فماذا حدث؟

قام أنصاريان .. أسيد بن حضير وبشير بن سعد يستبقان للبيعة..
ووثب أهل السقيفة للبيعة..
وبايع الحباب بن المنذر ...
وبايع ثابت بن قيس ...
وبايع زيد بن ثابت...
وبايع كل الأنصار في السقيفة....

إلا سعد بن عبادة .... وحتى لا يذهب الذهن بعيدًا..
فإن سعد بن عبادة بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة..
وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة موقفه...
فقد كان مبايعًا للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير..
كما أنه لا يستطيع حراكًا لمرضه..
ويحسب له أن أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه..
ولم يتكلم بكلمة..
ولم يظهر منه في خلافة الصديق أي اعتراض على إمارته..
بل إنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهدًا حيث استشهد هناك....!

وهكذا في يوم السقيفة ..
تمت البيعة لأبي بكر الصديق بإجماع قلما يتكرر في التاريخ..
وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام..

هذا تاريخكم...

تطلعوا حولكم... وشاهدوا في كل بلاد العالم... كيف يكون الصراع على السلطة؟

آخر ما سمعت هو نصف مليون قتيل في صراعات على السلطة في أنجولا..
وها نحن نرى ما يحدث في معظم بلاد العالم اليوم..

ثم انظر ما يحدث أيضًا في البلاد التي يطلقون بلادًا حضارية متقدمة..

أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:

المحور الأول: شكر في الذات... واستعراض للقدرات.
والمحور الثاني: محاولة التعريض والسب والقذف والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر.

ألا يبحث كل مرشح عن عيوب غيره...ليبرزها للناس فيسجل بها نقاطًا لصالحه؟

ألا تسمعون عن تزييف..وتزوير.. ومكيدة؟

ألا تسمعون عن قهر وتعذيب وظلم وبهتان؟

قارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة..
وما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم..
وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين ورقي هذا التشريع.

ولاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم ..
كما لم يحضرها عامة الأنصار..
بل حضرها رءوس القوم..

لذلك ففي اليوم التالي ذهب أبو بكر إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
ودعا عامة الناس وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد..
حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة..
ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للدفن..

وهم أهل بيت النبي : علي بن أبي طالب والعباس .. والزبير بن العوام ..
الجميع يبايع الصديق

في اليوم الثاني ...صعد أبو بكر المنبر..
ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر... ويقدمه إليهم..

فقال بعد أن حمد الله .. وأثنى عليه: أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي.

يقصد مقالة أن رسول الله ما مات...
لكن ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى...
وجميل جدًّا أن يعترف الإنسان بأخطائه أمام الناس... وهذا من عظمة الصحابة.

ثم يكمل: وما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكني كنت أرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا.

أي أنه كان يعتقد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سيكون آخر من يموت في هذا الجيل...
لكن الله شاء أن يموت..
حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول..
فيكونون نبراسًا لمن بعدهم..
وهو اعتذار لطيف عما بدر منه أمس..
فعمر قدوة وقد يتأثر به الناس.

ثم قال عمر : وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.

فقام الناس جميعًا من المهاجرين، والأنصار ...
وبايعوا أبا بكر الصديق على الخلافة.. في إجماع عجيب..

ثم قام الصديق ...وخطب خطبته المشهورة الرائعة..

ثم بعد الانتهاء من دفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
جاء الزبير بن العوام ...
وبايع أبا بكر الصديق..

ثم جاء علي بن أبي طالب ..
كما روى ابن سعد، والحاكم والبيهقي..
وبايع في هذا اليوم الثاني.. وهذا هام جدًّا..
لأن كثير من الناس... وخاصة البعض من الشيعة يطعنون في بيعة علي للصديق ...
ويصرون على أنها تأخرت 6 شهور كاملة بعد وفاة السيدة فاطمة ..

وسنأتي إن شاء الله إلى تحليل موقف علي بالتفصيل فيما بعد..
ثم بعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة وبايع الصديق على الخلافة.
إذن اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق ...

واستقرت الأوضاع..
واجتمع الناس على قلب رجل واحد..
كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم..
مصيبة موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

لكن هذا المصاب ما عطل شرعًا..
ولا أذهب عقلاً..
ولا أوقف حياة..
لا بد للحياة أن تسير..
وعلى الوجه الذي أراده الله .. ورسوله (صلى الله عليه وسلم)..