بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة

قام زيد بن ثابت الأنصاري فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه...

لكن سعد بن عبادة لم ينطق بعد..
وموقفه حرج جدًّا...
فمنذ ساعة أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة..
وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد..
والآن الوضع ينقلب 180 درجة..
ولا بد أنه الآن يفكر ويفكر..
ويعقد الموازنات..
ويقارن الحجج والأدلة..
ويشاور عقله وقلبه..
ولا بد أن هناك صراعًا نفسيًّا داخليًّا في داخله...


أتراهم فعلاً على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش..
أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟

أفكار متزاحمة..
والرجل مريض....ومرهق.. ولا بد أن في داخله حيرة..

والصديق يرقب الموقف في ذكاء.. ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية..
وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًّا وقلبيًّا بأن المصلحة العليا للأمة ..
تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين.. وبالذات من قريش..

فماذا حصل ؟!

في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة... وتظاهرت على إقناع الأنصار..
قام الصديق ...فكشف الورقة الأخيرة في جعبته..
وألقى بالدليل الدافع والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكًّا في قلب أحد...
ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري..

كلمات معدودات ...لكن أثقل من الذهب..

قال الصديق : لقد علمت يا سعد (سعد بن عبادة) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال وأنت قاعد "قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ"..

فهو هنا يُذكّر سعد بن عبادة بشيء من الواضح أن سعد نساه..
إما لبعد الفترة..
وإما لعدم فقه الحديث..
وإما للحزن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وإما للمرض.. أو لغيره من الأسباب..
وهاهنا هو يذكره بقانون وضعه (صلى الله عليه وسلم)... قانون صريح جدا ..

فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال: صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.

!!!!

الله أكبر .. !

أي قلوب ٍ حمل هؤلاء .. !

وأي حب لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) !

وهكذا في بساطة...
قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة ..
قطع بخلافة قريش دون الأنصار..

وهدأت السقيفة...
لنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:

فالحديث الذي ذكره الصديق....هو تشريع واضح من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد..
هو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين الديمقراطية..

فالديمقراطية هي حكم الشعب للشعب..
بمعنى أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعًا يطبق عليه..
خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)..

بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل معروف أو تحريم معروف..
فلا يجوز مثلاً أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟
أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
وهنا في هذا الموقف في السقيفة..
شرعا .. لا يجوز اختيار رجل من غير قريش حتى وإن وافق المهاجرون ووافق الأنصار..
فالأمر خرج من أيديهم إلى يد الله... ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم)..

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)


وأحيانًا..
يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف.. لاعتبارات كثيرة..
لكن هذا قصور في الرؤية... وضعف في الإيمان.. وشك في كلمة التشريع..

وكما نرى في عقب الآية أعلاه ..

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)

ولا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع..
لكان الضلال المبين بعينه..
لكن الله عصمهم من هذا الزلل..
ومَنّ عليهم باتباع الشرع واليقين فيه..

والله أعلم كيف كان سيكون حال الأمة..لو تولى أمرها رجل من خارج قريش..!

وها قد مرت الأيام..
ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق ...
وكيف الله ثبّت به الأمة ..ووطد أركان الدين ...ونشر كلمة التوحيد ..وأعلى شأن المؤمنين؟

وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع... واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد (صلى الله عليه وسلم)..

والله لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط..
بل والتسليم القلبي والوجداني له..
بمعنى أن ترضى.. ترضى رضًا حقيقيًّا بما اختاره الله لك وللأمة..
وبما شرعه الله لك وللأمة..
حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بع****..

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

وهذا ما رأيناه في السقيفة...
رأينا حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الناس..
مع أنه قد فارق الأرض بجسده..
لكن ما زالت كلماته باقية..
وما زالت حكمته باقية..
وما زال شرعه باق..

ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس الصحابة ..
عند سماع كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وحكم الرسول (صلى الله عليه وسلم)..

ورأينا التسليم الكامل المطلق ..

ورأينا تحقيق كلام أبي بكر مصباح وفاته (صلى الله عليه وسلم).. من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت ..

إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين...
وفي ذلك أحاديث كثيرة ..

ففي البخاري عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وسلم)..

"النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمهم، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ"..

وروى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان عنه (صلى الله عليه وسلم)..

"هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ"

مع أن معاوية وأبي هريرة لم يكونا حاضرين في السقيفة..

لكن يبدو أن مصيبتهم في وفاته (صلى الله عليه وسلم) .. أنستهم هذه الأحاديث النبوية ..
لكن عندما قام بتذكيرهم أحد الصحابة مهاجرا كان أم أنصاريا ..
لم يعترض عليه أحد .. وكأنهم واثقين من صحة الحديث ..

وذكر الإمام النووي مثلاً ....في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين..

وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية: اشتراط كونه قرشيًّا، هو مذهب العلماء كافة.

وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين..

وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد..

لكن مع كل ما سبق ..
فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش ...
لا تجعل هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام..
وهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية: "مَا أَقَامُوا الدِّينَ"..
وكما جاء في رواية عن أبي بكر: "مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ"..

وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

"الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".

إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها..
ولم يتبعوا شرع الله فلا طاعة لهم ولا إمرة...

وهو أمر هام في قضية الأئمة من قريش..
لأن القرشيين كانوا معروفين في صدر الإسلام ولفترة بعده..
ثم حدثت الفتوح الإسلامية..
وخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية ..
واستقر كثير منهم في كل بقاع الأرض..
في الشام وآسيا وشمال إفريقيا والأندلس وغيرها..

وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض..
ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم..
وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن..
فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن..

أضف إلى ذلك ..
أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ..
ومع مرور الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا..
وزاد الموقف صعوبة بعد ذلك ..
أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش...
بل إلى آل البيت وليسوا منهم..
ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب..
حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها..

فهل تركنا الشرع دون طريق ؟!

حاشا لله

(اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)

فهناك قاعدة إسلامية أصيلة ..
رواها البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

"اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ"

وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلاً في خلافتهم للمسلمين..
وهو سند صحيح..
صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله ...
وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة والسمع والطاعة لهم..
وهو المقصود من الخلافة ...
جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)..

إذن خلاصة هذه النقطة..
أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق..

لماذا؟

لأنه تشريع..

وسكنت السقيفة وذهب الخلاف ...واستقر الناس على قريش..