كلمة أبي بكر في السقيفة

ماذا قال أبو بكر ....أحكم الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وسلم)؟

لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام في غاية الحكمة:

أولا

يقول عمر: فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ذكره..

يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ..

ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ" ، وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.

بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق الأنصار...
وأشاع جوًّا من السكينة في السقيفة...
ووسع في صدر الأنصار..
وأعطى لكل ذي قدر قدره..
هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله ...
ورسوله الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)..

ثانيا

أما وقد سكنت النفوس..
فليذكر الحق الذي لا بد منه..

قال الصديق : ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.

والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار ..
أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش...

لماذا؟

لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم..
فمنهم النبي (صلى الله عليه وسلم)...
وقريش أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب..لمكانة مكة الدينية في قلوب الناس..

فإذا كان الخليفة من قريش ...اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم..
وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحًا عادلاً تقيًّا..
إذن ليست القضية تقليلاً أو تهميشًا للأنصار..
فإنهم فعلاً أهل الفضل...وأنصار الإسلام ...
وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط حتى نختار حاكمًا من أهلها عليها..
لكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم..
ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب.. ثم كل الأرض بعد ذلك..

وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلاً ..هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين..
أفليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟

ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية.. ولكنه من باب فقه الواقع..
والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش..
وبالذات في ذلك الزمان..

ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة وعن الصحابة أجمعين؟

لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى...

إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق ..
أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.

ثالثا

يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث..
فألقى جملة رائعة..

قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.

فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح..، وهو جالس بينهما..!

فالصديق يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة..
ومع كونه أفضل المهاجرين..
بل أفضل المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح...
وذلك زهدًا في الخلافة.. وبعدًا عن الدنيا..

فأبو بكر لم يكن يريد الخلافة كما يظن البعض فيتهمونه من أنه احتكرها لنفسه ..
وهو لا يقول هذا الكلام من باب السياسة أو الحكمة... أبدًا..
لأننا لو تتبعنا سيرته لعرفنا أنه صادق في عرضه..
وأنه ما رغب في إمارة..
ولا سعى إليها..


فلما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة..

ماذا كان رد فعلهما؟

يعلق عمر على كلام الصديق بترشيحه، فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر...!

وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله..
ويتمنى صادقًا أن يموت في غير معصية..
ولا أن يُقَدّم على الصديق..

فأيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه المرشحون بعيدًا عن الرئاسة؟
الآن أصبح هناك رأيان...

رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار... ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة..
ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ..ويقف وراءه 3 فقط من المهاجرين..


وكل له حجته ومنطقه..
وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا..
بل هو خلاف على ملك ورئاسة وسلطان..

فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر..؟!

قام الحباب بن المنذر...
ولو نتذكر... فالحباب بن المنذر هو الذي أشار على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
بموقع المعركة في بدر..
بعد أن نزل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في منزل آخر..
فوافقه (صلى الله عليه وسلم)..
ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك..
ولهذا فهو يُعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)..

قام الحباب بن المنذر يعرض رأيًا ...رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين..
أي كما يقولون حلاًّ يُرضي جميع الأطراف..

قال: أنا جذيلها المحكك.. وعذيقها المرجب...

الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب...
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به..
والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.

والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه..

ثم قال.. منا أمير، ومنكم أمير.

أي أنه يريد اختيار أميرين..
أمير من الأنصار على الأنصار..
وأمير من المهاجرين على المهاجرين..

أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سويًّا..

وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب ..

(1) هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة..
فمنذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة ..
ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة..
فهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر.. والالتقاء في منتصف الطريق.

(2) أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير...
أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري..

أضاف الحباب: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.

يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية ...
قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من القريشيين...
وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش..
فإن تولى القرشيون الخلافة ...انتقموا من الأنصار..
وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم ..
عند اجتماعهم لاختيار الخليفة ..

يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم أمير من غيرهم.

وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام..
فمهما صغرت القبيلة... فإن رئيسها يكون منها..

لكن قَبِل الجميع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنه كان نبيًّا..
وكانت القبلية معوقًا رئيسيًّا لكثير من الناس في دخول الإسلام..
نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة..
لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد منذ سنوات معدودات..
ولا ننسى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما مات إلا منذ سويعات قلائل..

إذن .. أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول... ليس الحقد على المهاجرين..
لكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.

(3) بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب..
فأين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟!
فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين..
بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة..
كما في حديث رواه مسلم ..

"وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ"

ومن ثم فالحباب بن منذر إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه..
وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة..لكن بأسلوب متدرج..
منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة..

وإن كان هذا الحكم الشرعي قد خفي عن أحدهم ..

فلم يخف عن عمر الذي قال .. إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.

فقال خطيب الأنصار.... إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا استعمل رجلاً منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.

قام عمر مرة ثانية وقال: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.

ثم قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.

ونلاحظ هنا أن عمر بدأ يحتد..
ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلا..
والكلام الذي قاله يحتمل معانٍ كثيرة..
فهو يقول أنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) الإمارة..
والأنصار من العرب.. وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق ..
وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة ..!

هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه ..كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح..

ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلاً جديدًا، قال: إذن أولاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، كذلك أبدًا.

ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين...

ثم هو يريد أن يدلل على كلامه... ويؤكد فيقول: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.

وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين..
إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور...لكنها ستحدث حتمًا..
فقد يدخل الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة..
والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد موت الخليفة الأول..
لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد.. ومن ثم فهذا الرأي أيضًا لا يقبل.

وقف أيضًا عمر وكان شديدًا في الحق حريصًا على الوضوح..
بعيدًا كل البعد عن تمييع الأمور... أو دفن النار تحت الرماد..

قال في قوة وحدّة: لا والله، لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.

طبعًا هذه الكلمة شديدة..
ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها..
لكن عمر يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها..
إن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش... فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا..
فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع القرشيين ولن تبايع الأنصار..
فالاجتماع على القرشيين واجب..
وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية..
لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة.. والفتنة أشد من القتل..

لذلك شرع الرسول (صلى الله عليه وسلم) قتل الخليفة الآخر..
إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه.. وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.

ومن المؤكد أن حدة عمر قد أثارت بعض الأنصار..
فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد..
وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس من الفرسان ..

فقام فارس الأنصار الحباب بن المنذر وأعاد وكرر رأيه: منا أمير، ومنكم أمير. !!

وكأن كلام عمر ليس موجودا ..

فلقد استفزته كلمات الفاروق .. ولم يكتف بذلك..

بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال: وإن شئتم كررناها خدعة.

أي أعدنا الحرب من جديد... !

الله أكبر .. !

أمر خطير..

فارتفعت الأصوات... وكثر اللغط....

ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار والجدل...
فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا مرة ...منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء..
لم يطلب لنفسه..
ولم يبرر..
ولم يقل قد بايعني قومي..

ثم لو نلاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل..
لم يذكروا ولو مرة واحدة منًّا على المهاجرين.. ولا تفضلاً عليهم..
ولم يقولوا مثلاً: جئتمونا مطرودين فآويناكم، فقراء فأغنيناكم، محتاجين فأعطيناكم.

وهذا كله واقع صحيح...لكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان..

كما نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم..
لم يقولوا ولو لمرة واحدة أنهم أفضل من الأنصار..
أو أن كفاءتهم القيادية أو الإدارية أو الأخلاقية أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار.. أبدًا..

كل ما يريدون ترسيخه هو فقه الواقع..
الواقع سواء كان حلوًا أو مرًّا..
الذي يقضي بأن العرب لن تطيع إلا لقريش الآن..
وبعد 10 سنين وبعد 100 سنة .. لن تطيع العرب إلا لقريش ..
وما دام الواقع لم يحل حرامًا أو يحرم حلالاً..
فلا بد من مراعاته..

ولأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح أو أقل صلاحًا..
خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا...

هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة..