يوم السقيفة

في 12 من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة..
اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم..
اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة..
وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة..

و رأى الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم..
لاعتبارات كثيرة..
ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ...

هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن..
وقد تُسأل هذه الأسئلة بحسن نية.. وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة..
وقد تسأل بسوء نية.. للطعن والكيد والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام..

فيبرز من هذه الأسئلة سؤالان هامان ..
ركز المستشرقون وأتباعهم من العلمانيين..
سواء من أبناء الغرب أو الشرق.. أو من أبناء المسلمين عليهما..

سؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار..

وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية الصحابة:

السؤال الأول - كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟

أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟

يقول المستشرقون... إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها..
فتسارعوا إليها..
ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألمَّ بهم..

السؤال الثاني - لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين..
وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟


الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين ..

نود أن نقدم تعريف للأنصار..
من هم الأنصار ؟

يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار..
فالأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة..
ومرت بمراحل تربوية معينة..
أنتجت في النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال ..
من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة..

الأنصار ظاهرة فريدة..
اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا..
ومرورًا بكل مواقفهم..

الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة..
ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة..
ثم مرت النسمة... ولم تأخذ شيئًا لنفسها..

سبحان الله...
الأنصار قَدّموا وقَدّموا ولم يأخذوا شيئًا...
وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر...
فيخرجون بلا شيء..
يخرجون راضين بلا سخط ولا ضجر..
وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر...
ولا يعجل لهم شيئًا في دنياهم..

الأنصار... وما أدراك ما الأنصار..

ففي الحديث ..

"الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ"

هذا حديث يلخص المسألة...
لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم..
القضية قضية إيمان ونفاق..
وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر...
فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.

وفي الحديث .. "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ"

وفي حديث آخر .."اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ".... قالها ثلاثًا..

وفي حديث آخر وعدهم (صلى الله عليه وسلم) .. "مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ"

وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم..
هذا الحب الجزيل من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للأنصار..
ومن الأنصار لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار..
ويقدرون قيمتهم..

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال..

خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني, وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس: لا تفعل. فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.

وأنس من الأنصار...
إذن يخدمه جرير ..
هذا التكريم والتبجيل من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ..
وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة..

ولو نظرت إلى حال الأنصار..
لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري..
تلك هي صفة الإيثار..

(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)

محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم..
هذا ليس وصف أصحابهم لهم..
ولا حتى وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم..
بل وصف الله الذي خلقهم..
ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور...

أثبت الله لهم الإيمان..
ومحبة المهاجرين..
وسلامة الصدر..
والإيثار على الذات..
والوقاية من شح النفس..
وفي النهاية أثبت لهم الفلاح..

أيّ فضل!

وأيّ قدر!

وأيّ درجة!

وأيّ مكانة!

لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة..
ولا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر...

اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية..
وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.

اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين..
نعود إلى السؤالين الذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار خليفة من بينهم..

السؤال الأول

كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟


يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.

وللرد على هذه الشبهة نقول:

(1) المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار..
أو لعلهم يدركونها..
ويتجاهلونها عن قصد وعمد..
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَزَّههم عن طلب الدنيا..
بل نزههم عن ذلك ربهم بقرآن باق إلى يوم القيامة..
فإذا تغير منهم رجل أو رجلان ...
فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا.. ويجتمعوا على حب الدنيا.

(2) المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً)
الصبر الذي لا شكوى فيه.. الصبر عند الصدمة الأولى..

(3) هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟
وهل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟
أبدًا..
المسلم الإيجابي مهما حزن..
فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب..
والحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه..
وإذا فكرنا في الموقف قليلاً..
وترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين.. أو أسبوعين.
حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون النتيجة؟

ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟

من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟

من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟

ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة...
وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة ؟!

ماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟

من يأخذ قرار الحرب ضدهم؟

ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟

أيحاربون أم يوادعون؟

أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟

ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟

ماذا يكون رد فعل الصحابة؟

أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟

أم يتركون منافقًا يترأسهم؟

ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة...
التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟

من يجمع ومن يوحد؟

بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي..
نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاته (صلى الله عليه وسلم)...
هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا..
لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.