أبو بكر الصديق ونعمة الثبات

لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في قلبه..
ويقينًا صادقًا في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه..
ولما رأى منه حبًا جارفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قاد إلى تصديق كامل، واتباع دقيق..

ولما اطلع على قلبه فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه حسنًا رفيعًا عاليًا..

ولما علم منه سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته..

ولما رأى منه عطاءً ثم عطاء .. لما رأى منه كل ذلك وغيره..

أنعم عليه بنعمة عظيمة وهِبة جليلة..
أنعم عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإيمان، وعلى الإسلام..
الثبات على الطاعة وحسن الخلق..
الثبات على العطاء، الثبات أمام الفتن..
كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم عظيمة، خفية كانت أم ظاهرة...
والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات..
لكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في أزمان..

قال (صلى الله عليه وسلم)..

"إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ"

ولكن العجيب في حياة الصديق ...
أن ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي كل المواقف منذ أسلم، وحتى مات..
مهما تغيرت الظروف والأحوال...

والثبات فعلًا شيء عسير..
الدنيا من طبيعتها التقلب، من النادر أن تجد فيها شيئًا ثابتًا..

يقول سبحانه..

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ)

وفي موضع آخر يقول..

(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)

ويقول في موضع ثالث..

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)

هكذا الإنسان دائمًا في تقلب، والأرض كذلك دائمًا في تقلب، والقلب أيضًا كذلك، كثير التقلب..
بل قيل: إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه سريع التقلب...

و عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ"
فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟
قال: نَعَمْ، "إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ"...


وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص..

قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول..
"إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"..
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ"...


ويزداد الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حوله..
فقلب قد يثبت على حاله من الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن..
وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا اغتنى الإنسان فتن..
قد يثبت في بلد، ويفتن في آخر..
قد يثبت في عمل، ويفتن في آخر..
قد يثبت في سن، ويفتن في سن آخر..
بل قد يثبت في نهار، ويفتن في ليل..
بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة تالية..

والإنسان في هذه الدنيا ليس متروكًا في حاله، كثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه..
والشيطان لا يهدأ ولا يستكين..

قال تعالى..

(ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)

فالدنيا مجموعة متراكمة من الفتن...

ولهذا قال تعالى..

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ)

ونفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه..

قال تعالى..

(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)

وشياطين الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن..

وبين كل هذه المتقلبات يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟
وهو القلب المشهور بالتقلب..

والقلب إن كان ضعيف الإيمان فتقلبه خطير..

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ)


والنجاة من التقلب عسيرة إلا إذا مَنّ الله بها على عبده..
والله لا يَمُنّ بالثبات على عبد خامل كسلان، بل لا بد أن يقدم شيئًا..

اسمع إلى قوله عز وجل..

(لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}


إذن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر الفتن..
أو قل: يجعل الإنسان أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات..
جميع الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم...

اقرأ إن شئت كلام الله سبحانه..
في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم..

(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)

واقرأ معي قوله تعالى..

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)

وأكثر المسلمين اتباعًا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه..

وأكثر المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا..

حياته عجيبة ..
كم من الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدّم ..

يقول (صلى الله عليه وسلم).. عن سعد بن أبي وقاص..

قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟
قال (صلى الله عليه وسلم) ... "الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"
ثبات أبي بكر أمام فتنة المال

قصدنا أن نبدأ بها... لأنها فتنة عظيمة..
وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى، فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها..
ويقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر...

حتى إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... يقول .. "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ"

وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء..
فهو أبو بكر الصديق ...

ولقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في الدنيا..
وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة..
لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا..
ليس مرة أو مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك..

ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه في الدعوة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
سواء في فترة مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك..
لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:

فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة..
ويضع يده على بيت المال..
وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم..
فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال..
ثم ها هي فارس تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة..

فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟

ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة..

ليس الصديق الذي يتبدل...
لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها..
وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها..

وهو الذي سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

"وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي تلي الإبهام"

ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس..
ومن أجل هذا لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا..
ومرشده ومرشدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
فوضعها نصب عينيه..

وفي حديث نبوي آخر ..

"إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ"

وأصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة..
وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) ..
فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة...!

فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله: أين تريد؟
قال: إلى السوق.
قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين.
قال: فمن أين أطعم عيالي؟


!!!!!!!

ولنتأمل..
يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال !

فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال..
ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له..

إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل الصديق..
ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله..
وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية..
ولم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم...

وانظروا إلى الصديق، وهو على فراش الموت، بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني..
انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة التي دكت حصون فارس والروم..

يقول مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم دينارًا، ولا درهمًا..
ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط) في بطوننا..
ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا..
وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب..
وهذه القطيفة (كساء في بيته رضي لله عنه)..
فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير الناضب، والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن
تقول السيدة عائشة: ففعلت.


فلما جاء الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر..
بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض..

ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده

وجاء في رواية أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته..

إذ قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها.

يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين..
ويرى الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف..
كما ثبت في روايات أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.

فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال: رحم الله أبا بكر، لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا.