أين حظ النفس عند الصديق؟

ابحث في حياة الصديق... ونَقّب...

أين حظ النفس عند الصديق؟

لا تجد..

أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر من حبٍّ للمال، وحبٍّ للجاه، والسلطان..
وحب للسعادة، وحب الظهور، بل حب الحـيـاة؟

أين ذلك عند الصديق؟

لن تجده أبدًا..

مثال عجيب من البشر، وآية من آيات الرحمن في خلقه..
ولعلنا نكتفي هنا بالمرور السريع على مثال من إنكار الصديق لذاته..

ولعلنا نتوقف عند المـال مثلاً.

أين حظ الصديق من ماله؟

جبل الصديق على حب العطاء، حتى لتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء ويبحث عنه..

وهذا شيء عجيب..

فالإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حبًّا شديدًا..

قال سبحانه ..

(وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا)

وقال أيضا ..

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا)

أي شديد البخل وشديد المنع..

والصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سَوّاه على هذه الصورة...
فالصديق كان يحب الإنفاق حتى في الجاهلية ..
قبل أن يسلم. عمله في ضمان الديات..

وكان إذا سأل قريشًا ضمانًا قبلوه... وإذا سألهم غيره خذلوه..
وهذا عمل خطير..
فقد يتحمل الصديق دية رجل، ثم لا يوفي أهله، فيكون على الصديق قضاؤها..
أي أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير من المال..
وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس، وتحمل مغارمهم..

إذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه، فما بالكم بعد أن أسلم؟

ما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
حديثًا قدسيًّا ينقله عن رب العزة يقول فيه الله تعالى..

"انْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"

بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟

والصديق لا يحتاج إلى قسم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليصدقه..

الصديق كان واضعًا نصب عينيه حقيقة ...
ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه..

تلك الحقيقة هي .. إن كان قال فقد صدق...

هكذا، مجرد القول يعني عنده التصديق الكامل الذي لا شك فيه..

فما بالكم إذا سمعه (صلى الله عليه وسلم) يُقسم؟
الصديق ينفق ماله كله في سبيل الله

هذه الطبيعة الفطرية...
وهذا اليقين في كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
يفسر لنا كثيرًا من مواقف الصديق ...

فالصديق شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة..
التعذيب الشديد والتنكيل الأليم بكل من آمن من العبيد..
والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون..
وليس لهم أدنى حق من الحقوق..

تألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية المفرطة من الكفار مكة..
وسارع بماله ينقذ هذا، ويفدي ذاك، يشتري العبد، ثم يعتقه لوجه الله..

هكذا..

(لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا)

مر الصديق ببلالٍ ..
وهو يعذب على صخور مكة الملتهبة، وعلى صدره الأحجار العظيمة..
فساوم عليه سيده أمية بن خلف عليه لعنة الله، وعرض عليه أن يشتريه..
أو يبادله بعبد آخر أجلد منه، وأقوى، وليس بمسلم..
وفي رواية أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب..
ودار حوار رائع بين الصديق ، وبين أمية بن خلف عليه لعنة الله..

قال أمية يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق: لو عرضت عليَّ أوقية واحدة من الذهب لبعته لك

قال الصديق العظيم في هدوء: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لأشتريه.

سبحان الله...

فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف..
أمية بن خلف المشرك لا يدرك قيمة بلال، بعد أن أسلم..
لكن الصديق يدرك ذلك..

فهذا العبد الأسود القليل في نظر المشركين، وأهل الدنيا..
هذا العبد ذاته ثقيل في ميزان الله ..
بما يحمل في قلبه من إيمان وتوحيد وإسلام..
هذه المعاني الرقيقة السامية لا يفهمها أهل المادة..
لكن يفهمها الصديق بعمق ويتعامل على أساسها.
واشترى الصديق أم عبيس رضي الله عنها وأعتقها...

واشترى زنيرة رضي الله عنها وأعتقها..

واشترى النهدية وابنتها رضي الله عنهما وأعتقهما..
ولهما قصة لطيفة رواها ابن إسحاق في سيرته..

كانت النهدية وابنتها ملكًا لامرأة من بني عبد الدار..
مر بهما الصديق ..
وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا..
قال أبو بكر الصديق : حلّ يا أم فلان. أي تحللي من يمينك..
فقالت: حل أنت، أفسدتها فأعتقهما...
قال: فبكم هما؟
قالت بكذا وكذا
قال الصديق : قد أخذتهما، وهما حرتان، ارجعا إليها طحينها...


!!!!

هنا نجد ردًّا لطيفًا عجيبًا من الجارتين المسلمتين اللتين تخلقتا بخلق الإسلام الرفيع..

فقالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟

سبحان الله، بعد النجاة من هذا الظلم الشديد..
والسخرة المهينة..
ما زالتا تحرصان على مال سيدتهما...

قال الصديق : ذلك إن شئتما..

ومر الصديق بجارية بني مؤمل (حي من بني عدي) وكانت مسلمة...
وكان عمر بن الخطاب رضي الله آنذاك مشركًا..
وكان شديد الغلظة على المسلمين، وكان يضربها ضربًا مؤلمًا لساعات طوال، ثم يتركها..
ويقول: إني لم أتركك إلا عن ملالة...
مر بها الصديق .. فابتاعها ثم أعتقها لوجه الله.

ودعا الصديق غلامه عامر بن فهيرة إلى الإسلام... فلما أسلم أعتقه أيضًا لوجه الله.

وكما رأينا فإن الصديق لم يكن يفرق بين عبد وأمة، أو قوي وضعيف..

هذا الأمر لفت نظر أبيه أبي قحافة فقال له: يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا..
فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا، يمنعونك، ويقومون دونك؟


ولا ننسى أن الصديق من بطن ضعيف من بطون قريش..

فقال الصديق في إيمان عميق: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله ..

فأنزل الله في حقه قرآن كريمًا

(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)

وتخيل معي أن الله ينزل قرآنًا يشهد فيه للصديق بالتقوى، بل بأنه الأتقى..
ويشهد له بإخلاص النية، فهو يريد أن يتزكى، ولا يريد جزاء من أحد، وإنما يريد وجه الله فقط..
ثم انظر الوعد الرباني الجليل العظيم، ولسوف يرضى...
ومهما تخيلت من ثواب وجزاء ونعيم..
فلا يمكن أن تتخيل ما أعده الله لمن وعد بإرضائه..

و روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة ..

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. "أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي"

الصديق كان يملك عند إسلامه 40 ألف درهم..
أنفقها جميعًا في سبيل الله ..
أنفق منها 35 ألف درهم في مكة..
حتى لم يبق إلا 5000 درهم..
أخذها معه في الهجرة أنفقها على رسول الله وعلى المؤمنين..
حتى فني ماله، أو قل: بقي ماله. وليس: فني ماله..

فالذي يبقى هو الذي يُنفق في سبيل الله..
والذي يفنى هو الذي يُمْسك في يد العبد..
لكن تخيل قدر هذا الإنفاق لا بد أن نعرف قيمة هذه الأربعين ألف درهم في زماننا..
ولا تنسى أننا نتحدث عن زمن مر عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام...

خاصة لو علمنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما في الأحاديث ..
قد اشترى يوما شاة بدرهم .. فلك أن تقدّر ما فعل الصديق بماله خدمة للإسلام ؟!!

هذا الإنفاق العجيب، والنفس المعطاءة ..
هو الذي دفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقول ..

"مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنَي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"
فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ.


وفي رواية الترمذي ...
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

"مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَأْنَاهُ، مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"