قضية إسلام (أبي بكر) بهذه السرعة قضية ..
تحتاج إلى وقفة... بل وقفات..

فهذا قرار غير عادي..
قرار مهول..
بل أكثر من مهول..
قرار يتبعه ترك الدين إلى دين غيره..
قرار يتبعه هلكة الأموال والأولاد والأشراف..
قرار يتبعه قتال الأبيض والأسود والأحمر من الناس..
قرار يتبعه تكفير الآباء والأجداد..
قرار يتبعه تعب ونصب ووصب... بل جهاد حتى الموت..

هذا قرار يغير المألوف الذي ألفه الناس سنوات وسنوات..
وتغيير المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص...
وقد كان الصديق ذلك الرجل...
لكن ..

لماذا اختار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصديق من بين كل الناس..
لكي يسر له بأمر الدعوة دون غيره؟

كان من المنطقي أن يدعو الرسول أحد أقاربه قبل الصديق...
وخاصة في هذه البيئة القبيلة..
فلماذا لم يذهب (صلى الله عليه وسلم) مثلا لأبي لهب..
أو العباس.. أو حمزة... أو غيرهم من عائلته وأهل بيته؟

ذلك ولا شك قد كان ..
لأن الصديق كان أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أقاربه...
كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرى في الصديق أمورا..
ولا شك.. جعلته يتيقن أنه سيوافقه...
بل يعينه على أمر هذه الدعوة..
ويكون له شـأن عظيم لا يغفل في هذا الدين..

فمــا الذي رآه (صلى الله عليه وسلم) في الصديق ؟

كيف أخذ الصديق هذا القرار الجريء المُغيّر؟

أو قل: لماذا لم يأخذ الآخرون القرار الذي أخذه الصديق ببساطة وسهولة؟

وما الذي يمنع الناس أن يؤمنوا فيتخلفوا عن ركب الصديق وأمثاله؟

وهنا نقف وقفة ونحلل..
ولأننا لا نسرد التاريخ لمجرد العلم به..
بل لكي نتحرك به خطوات إلى الأمام...
فلنلاحظ الصفات التي كانت في الصديق ...وجعلته يسبق إلى الإسلام..
فإن كانت موجودة عندنا... فالحمد لله.. وإلا فلنستكملها..

لأنه لا يمكن سبق بدونها..
كذلك تساعدنا هذه الصفات في الحركة في دعوة الناس إلى الله..
فمن كانت فيه مثل هذه الصفات الخيرة..
فلنكن بادئين به..

فإن للداعية أولويات لا بد أن تحترم..
وقواعد لا بد أن تتبع...

وقد حصرنا الصفات في 20 صفة ..
قد يكون بعضها موجود بعض الناس وبعضها الآخر في آخرين..
وقد تجتمع في رجل واحد مثل الصديق ..

فما هي هذه الصفات ؟!

أولا

قبل كل شيء ..
فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ..

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ)

إذ لما يختار الله للنبوة أفرادا بعينهم يصطفيهم على بقية البشر..
فإن الله بعد ذلك يصطفي عبادا من عباده يعينون رسل الله في قضاء مهمتهم..
وفي توصيل دعوتهم..
وقد كان الصديق ولا شك في ذلك من هؤلاء المصطفين..

بل إن الله يصطفي من البشر أناسا على فترات متعددة... بعيدا عن زمان الرسل...
يجددون لهذه الأمة أمر دينها...

إذا أول أمر ...هو اصطفاء الله للصديق لينال هذه المكانة الراقية ...
وذلك لحكمة يعلمها..
وكما صنع الأنبياء على عين الله..
فكذلك الصديق ...قد صُنع على عين الله..

وهنا قد يقول قائل: أن هذا الأمر ليس بيده.. أي اصطفاء الله له..
لكنه لا بد أن يعلم ...
أن هذا الاصطفاء ليس عشوائيا... حاشا لله..
لكن الله بسابق علمه ...
يعلم أن في هذا العبد صلاحا وإيمانا..
فيقربه.. ويهديه..
نـسـأل الله أن نكون كذلك..

ثانيا

قد يصد الناس عن سماع الحق ...كراهيتهم لقائله...
والحق أن أهل مكة جميعا ...ما كانوا يكرهون محمدا قبل بعثته..
بل كان جلهم أو كلهم يحبه (صلى الله عليه وسلم)..
فهو الصادق الأمين الشريف العفيف..

لكن أتراهم أحبوه (صلى الله عليه وسلم) مثلما أحبه الصديق ؟

أشك كثيرا في ذلك...

فإني لا أعتقد أن أحدا أحب أحدا ...مثلما أحب الصديق محمدا (صلى الله عليه وسلم)..

فـ (محمد) (صلى الله عليه وسلم) و (أبو بكر) كانا صديقين حميمين حتى قبل البعثة..
وكما ذكرنا من قبل.. في حديث مسلم ..

"الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"

فقد تعارفت روحا النبي (صلى الله عليه وسلم) والصديق..
وأول درجات الدعوة الصحيحة أن يحب المدعو الداعية.. وأن يحب الداعية المدعو..
هذا الحب المتبادل يفتح القلب.. وينور العقل..
ولا شك أنه درس لا يُنسى لكل الدعاة..

فإذا أردت أن يستجيب الناس لدعوتك فلا بد أولًا من حب متبادل..
أَحِبّ الناس وكن أهلًا لحبهم... وإلا .. فلن تكون كـ (أبي بكر)..

ثالثا

من الموانع الخطيرة لإجابة الدعوات الجديدة الصالحة... الكِبر..
آفة عظيمة تصيب قلوب بعض العباد ...فتصدهم عن كل خير..

الكبر أخرج إبليس من الجنة..
والكبر أخرج المتكبرين في كل العصور من جنة الإيمان إلى جحيم الكفر والضلال...

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ)

الكبر أخرج معظم عمالقة الكفر في مكة من دائرة الإيمان إلى دائرة الجحود..
بل قل معظم أفراد الكفر..
فالكافر لا يكون عملاقا..
مثلا الوليد بن المغيرة كان يستكبر أن يتبع محمدا (صلى الله عليه وسلم)

(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)

فلو نزل على عظيم في مكة كالوليد بن المغيرة...
أو على عظيم في الطائف كعروة بن مسعود الثقفي..
لو نزل على هؤلاء لاتبعوهم..
ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ليس عظيما فقط..
بل هو أعظم الخلق أجمعين..
لكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل..
فالعظمة عندهم لا تكون في خلق... ولا عقيدة..
بل في وفرة مال أو سعة أملاك أو بأس سلطان...
هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يطمس الله على قلوبهم..
فلا يعرفون معروفا ولا يُنكرون منكرا..

(سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)

وهكذا صرف الله قلوب المتكبرين عن الإيمان..
لكن الصديق ليس من هذا الصنف..

فقد كان متواضعا شديد التواضع..
هينا لينا سهلا محببا..
وتواضعه لم يكن مختلقا أو مصطنعا..
بل كان تواضعا فطريا أصيلا في شخصيته...

وهذه النفس المتواضعة للحق ...
كان من السهل عليها جدا أن ترى سبيل الرشد.. وأن تتخذه سبيلا..
وأن ترى سبيل الغي... ولا تتخذه سبيلا..
وهو درس لا يُنسى للدعاة..

فدعوة الإنسان الهين اللين المتواضع أبرك ألف مرة ..من دعوة المتكبر المتغطرس..
وإن كان زعيما ممكنا..

وسبحان الله..
فكما أن الحب المتبادل يسهل الدعوة...
ويسهل قبول الفكرة الجديدة..
فالتواضع المتبادل يسهل الدعوة أيضا..
ويسهل قبول الفكرة الجديدة أيضا..

فالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من أشد الناس تواضعا..
بل هو أشدهم على الإطلاق..
ولا شك أن قبول الفكرة من الداعية الذي لا يتكبر على الخلق ..
يكون سهلا سلسا طبيعيا..
بينما لا يقبل الناس عادة أفكار المتكبرين...

فإن كنتَ متكبرا .. فلن تكون كـ (أبي بكر)..

رابعا

يمنع طائفة من الناس أن يصدقوا غيرهم ...لأنهم شخصيا اعتادوا الكذب..
فالكذاب كثير الكذب.. وغالبا ما يصعب عليه تصديق الآخرين..
والخائن كثير الخيانة .. غالبا ما يصعب عليه أن يأتمن الآخرين..

ذلك لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل..
ويتصرفون كما يتصرف..

و (أبو بكر) لم يكن صادقا فقط... بل كان صديّقًا..
كان يستقبح الكذب...
وما أوثر عنه كذبة واحدة..

ورجل بهذه الصفات... لا يفترض الكذب في غيره...
بل هو يحسن الظن فيما يقال له..

فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق والأمانة ...
حتى لُقّب بالصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم) ..
ولم يشتهر بهذا عاما أو عامين بل أربعين سنة..
ولم يشتهر بذلك في معظم أموره...بل كل أموره...

فكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟

وكيف لهذا الذي ترك الكذب على الناس أن يكذب على الله رب العالمين؟

هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق...
بل إنه لم يغب عن ذهن رجل ما عاشر محمدا ..
ولا حتى رآه مثل هرقل ملك الروم..

فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) ..
قال أبو سفيان وكان ما زال كافرا قال أنه لا يكذب..
فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب عليكم ليكذب على الله...

وهكذا فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو ...
من أشد عوامل قبول الفكرة... وإن كانت جديدة تماما..

خامسا

كثيرا ما يمتنع كبراء القوم عن إجابة الدعوات...
بل يواظبون على حربها..
ومقاومتها بسبب الخوف على السيادة والحكم...

فالحاكم الذي يستمد قوته من شرعه الذي وضعه للناس...
يخشى إن جاء شرع جديد أن يستبدل بصاحب هذا الشرع..

والرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو أن يكون الحكم لله..

(إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

(أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ)


فأسياد البلد يرفضون السيادة الجديدة..
وهذا الأمر صد طائفة ضخمة من حكام مكة في ذلك الزمان..
وهذا الأمر هو الذي صد زعماء القوم من زمان نوح وإلى يوم القيامة..
الخوف على السلطان..

فعبد الله بن أُبَي بن سلول زعيم المنافقين في المدينة.. لماذا كان يكره محمدا (صلى الله عليه وسلم) ؟

لأن الأوس والخزرج كانوا ينسجون له الخرز حتى يتوجوه ملكا على المدينة..
ثم جاء (صلى الله عليه وسلم) فاستلم سدة الحكم بالمدينة..
وجعل الشرع لله والأمر لله والحكم لله..
فأبت نفس ابن أبي سلول ذلك..
فرفض الإيمان..
ثم ادعاه ظاهرا فأصبح منافقا..

أما أبو بكر الصديق فلم يكن زعيما من زعماء قريش..
وإن كان من أهل الشرف هناك..
فلم يكن يخاف على ملك ضائع.. أو سلطان مبدد..
ولم تكن السيادة والزعامة عائقا أمامه..
والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أيضا لم يكن زعيما في مكة..
ولم يكن يطلب زعامة بدعوته الجديدة..
بل عرضت عليه الزعامة مقابل ترك هذه الدعوة..
فرفض رفضًا حاسما باتا..

وهكذا التقى الحبيبان من جديد .. النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والصديق...
التقيا في رفض الزعامة..
ورفض طلبها..
فهان على محمد (صلى الله عليه وسلم) توصيل الدعوة..
وهان على الصديق قبولها..

لكنه هذا لا يعني عدم قبول الزعماء للدعوة بشكل مطلق...
فقد يهدي الله أحدهم..
كما حدث مع سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وهم من زعماء الأنصار..
لكن لا تبدأ بالزعمـاء...

سادسا

تعارض المصالح من أشد المعوقات لقبول الدعوات الجديدة...
وخاصة المصالح المالية...
قد تؤثر الدعوة الجديدة سلبا على مصلحة أحد الناس المادية..
فيقاوم الدعوة حفاظا على مصلحته..

وأبو بكر الصديق كان تاجرا...
ودين الإسلام لا يمنع التجارة... بل على العكس يحفز عليها..
وهو حتى إن لم يكن يعرف تفاصيل هذا الدين... وماذا يبيح أو يمنع التجارة...

إلا أنه يرى الداعية لهذا الدين يعمل تاجرا.. وهو محمد (صلى الله عليه وسلم)...
وذلك أكثر من 15 عاما متتالية منذ زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها..
بل قبل ذلك..
فقد كان يرعى تجارة عمه أبي طالب..
إذن الوظيفة محفوظة..

لكن ما بال تجار مكة غير الصديق يقاومون الدعوة بينما انخرط فيها الصديق؟

فمكة بلد آمن..
وبه المسجد الحرام وأهل الجزيرة العربية كانوا يذهبون بتجارتهم...
وأموالهم يتاجرون في هذا المكان الآمن..
وتجار مكة يستفيدون من هذا تماما..

فإذا انتشرت دعوة محمد (صلى الله عليه وسلم)..
فأهل مكة يتوقعون حربا لها من العرب..
وستتحول البلد الآمن إلى بلد قلاقل وفتن ولا يأمنوا على تجارتهم..
فلذلك سارعوا حماية لمصالحهم التجارية والاقتصادية.. بمقاومة الدعوة في مهدها..

بينما الصديق وإن كان تاجرا..
إلا أنه جُبِل على العطاء والكرم والزهد في المال حتى قبل إسلامه..
فلم يكن حب المال عائقا أمام الصديق يمنع من دخول الدين..

لكن المهم هنا أن نعلم أن تجار مكة الذين تغلغل حب المال في قلوبهم ..
فكانت أموالهم حجر عثرة في طريق إيمانهم..
بينما تميز الصِّديق عن أقرانه بعطائه وكرمه،..

فما بالكم إن كان يستمع إلى دعوة تأتي على لسان رجل ..
ما تعلق بالمال في حياته ولو مرة واحدة سواء قبل بعثته أو بعد بعثته..
وسواء قبل تمكينه أو بعد تمكينه..
لا شك أن لقاء الزاهدين في المال سيكون لقاءًا مثمرا إيجابيا..
فإن أردت أن تبدأ فابدأ بالكريم..
الذي لا يتعلق بمال..
ولا يبكي على ثروة...

سابعا

التحرر من قيود القبلية والتعصب..
والقبلية عند المتحمسين تكون حاجزا لا يُعبر..
وعائقا لا يُتخطى..
وخاصة في هذه البيئة العربية...

ويزداد الأمر خطورة ..
إذا كان هناك تنافس شديدا وحاميا بين قبيلتين من القبائل...
فهذا الأمر على سبيل المثال ..
هو الذي صد رجلا عاقلا حكيما كعمرو بن هشام (أبو جهل) ..
فإذا به بسبب قبيلته ينقلب إلى أبي جهل..

قال أبو جهل وهو من قبيلة مخزوم: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف.. أطعموا، فأطعمنا..وحملوا، فحملنا..
وأعطوا، فأعطينا..حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان.. قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه..!!


فهكذا منعت القَبَلية أبا جهل وأمثاله من دخول الإسلام...!

ورجل من بني حنيفة...
وهي فرع من ربيعة آمن بمسيلمة الكذاب..
وكفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)...

ولما سئل عن ذلك قال: والله أعلم أن محمدا صادق، وأن مسيلمة كذاب..
لكن كاذب بني ربيعة، أحب إليَّ من صادق مضر....!


وأبو بكر الصديق من قبيلة ضعيفة..
وهي فرع صغير من فروع قريش.. تلك هي قبيلة تيم..
ولم تكن القبيلة تنازع أحدا.. أو تنافس أحدا ..
فوقاه الله بذلك شر التعصب القبلي..

ثم هو يستمع الدعوة من رجل نجيب كالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أشرف قريش نسبا..
ومن قبيلة قوية ذات منعة..
ومع ذلك فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يعتمد على نسبه وقبيلته..
بل يدعو أبا بكر وهو من قبيلة أخرى..
وهي كما ذكرنا قبيلة ضعيفة نسبيا..

إذن هذان رجلان نزعا من قلبيْهما حمية الجاهلية..
ونزعا من قلبيْهما النعرة القبلية...
وبحثَا عن الحق أينما كان..
لا فرق بين هاشمي أو مخزومي..
ولا هاشمي وتيمي..
بل لا فرق بين قريش وغيرها..
بل لا فرق عربي وأعجمي..

فالدعوة لجميع الخلق..
والمفاضلة بينهم بالتقوى..
هذا مقياس عادل يعجب رجلا حصيفا كأبي بكر الصديق ..

والقبلية قديمًا هي في مقابل القومية حديثا..
فالقومية العربية، والقومية التركية، والقومية البربرية، والقومية الكردية...
كل هذه صور من القبلية القديمة ..
صدت ومازالت تصد كثيرا من الناس عن سماع كلمة الحق وإجابة داعي الإيمان..

وما تفرق المسلمون إلا بقومياتهم..
ووالله لا يجتمعون إلا على الإسلام..
وذلك مصداقًا لقول الفاروق

"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فأينما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"

ثامنا

بعض الناس يكون أسيرا للتقاليد... وإن كانت باطلة..
ويكون مفتونا بالآباء والأجداد..
ولا يتخيل أن ما عاش هو عليه فترات...
وعاش عليه الأقدمون فترات أطول ..
ما هو إلا ضلال في ضلال...

فالدين الجديد لا يُسَفّه أحلامهم فقط..
بل يسفه أحلام السابقين..
يسفه أحلام الآباء والأجداد..
يهدم التقاليد..
يزلزل التراث..

وهذا الذي صد رجلا مثل أبي لهب..
فأبو لهب من ذات قبيلة الرسول (صلى الله عليه وسلم)... بل هو عمه..
لكنه يرفض أن يسفه فكر الآباء والأجداد..
وأن يسفه فكره هو شخصيا..
لذلك فهو يرفض الدعوة..

بل أشد من ذلك وأعجب ...أبو طالب عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
ومن أكثر الناس رعاية له..
ومن أشد الناس حبا فيه..
ومع ذلك وقف حاجز التقاليد أمام إيمانه..
ووقف تقديسه لآبائه وأجداده أمام دخول الدين ..
مع أنه يصدق محمد في كل كلمة قالها..

لكن أيخالف الأجداد؟

هذا في عرفه مستحيل..

فإذا به على فراش الموت..
وخير الدعاة وأحب الخلق إلى أبي طالب يقف على رأسه..
يرجوه أن يقول كلمة واحدة..
ثم سيموت بعدها..

"أَيْ عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"

وماذا سيضره بعد الموت من كلام الناس والعرب..
لكن أبدا ..
التقاليد الموروثة والعقائد العقيمة المسمومة..
وأبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يقفان على رأسه يلعبان على هذا الوتر القبيح...
وتر التقاليد المخالفة للشرع..

يقولان: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب...

فلم يزالا يكلماه حتى كانت آخر كلماته: على ملة عبد المطلب...

لا حول ولا قوة إلا بالله ...
خسارة فادحة، وخطب عظيم..

أبو بكر الصديق لم يكن متمسكا بتقاليد آبائه وأجداده..
وكان من القليلين الذين يرتبطون بالحق لا بقائل الكلام..
فالرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال..
فهو يعلم أن الحق قد يأتي على لسان رجل شاب من قبيلة أخرى..
وقد لا يأتي على لسان مُعَمّر خبير ولو كان أبوه أو جده..

كما أن الله مَنّ عليه بأبيه وأمه أحياء عند ظهور الدعوة الإسلامية..
فما زالت هناك الفرحة عند دعوتهما إلى الحق..
وبذلك لا تسفه أحلامهما..
وقد تم له بفضل الله ما أراد وما استراح إلا وقد أدخل أبويه وأولاده وزوجاته في هذا الدين..

فاعرض أنت كل تقليد أو موروث من الآباء والأجداد على الحق..
فإن اتفق فبها ونعمت..
وإن خالف... فلا تعدل بشرع الله شيئا

تاسعا

بعض الناس يفتنون بالديانة القديمة..
ويعتقدون في صحتها..
وفي نبل القائمين عليها..

وهذا الذي صد بعض النصارى مثلا..
فهم قد غالوا في المسيح جدا حتى جعلوه إلها.. أو ابن الله.. تعالى عما يصفون..
ومن ثم فهم لا يتخيلون أن يأتي رجل..
أو تأتي دعوة ترد هذا الإله المعبود إلى عبوديته..
وترد هذا الرب إلى بشريته..
فكانت الحرب التي لا هوادة فيها...

أما أبو بكر الصديق ... فأي شيء يُعَظّم؟

أيُعَظّم اللات؟

أيعظم العزى؟

أيعظم هبل؟

ألهم تاريخ يشهد لهم بالاحترام والتقديس؟

أبو بكر الصديق ما سجد لصنم قط في حياته سواء قبل إيمانه أو بعد إيمانه..
بل كان دائم الازدراء لهذه الأحجار...
ويعلم علم يقين أنها ليست آلهة..
فكيف ينفع غيره من لا يستطيع نفع نفسه؟

فكانت دعوة الإسلام لأبي بكر خلاصا من دين ثقيل على النفس..
وراحة لقلب ...
شك طويلًا في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى...

عاشرا

من العوائق الهامة عند بعض الناس..
أو عند كثير من الناس..
انغلاق الفكر، وضيق الأفق، وغياب الفطنة والذكاء..

والحقيقة إنني اعتبر الكافر إنسانًا غبيًا ..
شديد الغباء بكل ما تحمله الكلمة من معان..
حتى وإن كان في ظاهره عالمًا أو حكيمًا أو فيلسوفًا ..
إذ كيف لا يهديه ذكاؤه إلى أن خالق هذا الكون بما فيه ...هو إله حكيم قدير ليس كمثله شيء..

ودائمًا ما تأتي آيات التدبر والبحث لأولي الألباب والعقول والنهي..

(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)


كيف يعقل أن الحجر الأصم خلق، وصور، وهدى، ورحم، وعاقب، ورزق، ونجّا؟

كيف يعقل أن بقرة تشرع أو أن شجرة تحكم وتدبر؟

الكافر شديد الغباء..

هذا الذي منع مثلاً رجلاً مثل حبيب بن عمرو الثقفي من زعماء ثقيف في الطائف..

قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. والله لا أكلمك أبدًا..
لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام..
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك...!


وكأنه لا يستطيع التفكير وما قاده عقله القاصر إلا إلى هذا الجهل المُطبق.

وأبو بكر الصديق ليس كذلك..
بل هو حاد الذكاء تمامًا ..
وكثيرًا ما كان يلتقط ببساطة ما يذهب عن ذهن الجميع..
اتسم بذكاء فطري..
وعبقرية فذة..
إذا كان يلتقط الصعب من الأمور..

أفلا يلتقط أن لهذا الكون خالقًا؟

وأن محمدًا رسول؟

حادي عشر

الجبن والخوف الشديد إلى درجة الهلع ..
يمنع كثيرًا من الناس من تغيير المألوف..
الجبن يمنع كثيرًا من البشر أن يظهروا آراءهم..
أو يعبروا عن أفكارهم..

وكم من قضية ماتت بسبب جبن أصحابها ؟

وكم من حق ضاع بسبب جبن طلابه.. ؟

أبو بكر أشجع الصحابة وأقواهم شكيمة...
ما نكص على عقبيه منذ أسلم..
ولم يؤثر عنه فرار ولا خضوع ولا فتور..

فلما عرض عليه الإسلام..
ورأى الحق فيه ما خاف من أحد..
ولا اعتبر بالجموع التي ستواجه الدعوة حتمًا...

والإسلام قرار جريء..
ويحتاج إلى رجل جريء وكان أبو بكر ذلك الرجل...

ثاني عشر

الانغماس في الشهوات أيضًا من الموانع المعروفة للدعوات الإصلاحية..
فصاحب الشهوات لا يريد أن ينقطع عنها..
ولا يريد أن يبتعد عنها ولو إلى فترة قليلة..

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)

هكذا الذي جعل من نفسه تابعًا للشهوات لا بد أن يضيع الصلاة..
ومن أضاع الصلاة كان على إضاعة غيرها أقدر..

بل إن الله يجعل طائفة من الناس وكأنهم يعبدون هواهم وشهواتهم..

اسمع إلى قوله..

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)


هذا الرجل الغارق في الشهوات ..
المنغمس في المعاصي ..
يكون بعيدًا تمامًا عن الدعوات الأخلاقية الفاضلة...

أبو بكر لم يكن من هذه الطائفة..
بل على العكس، إنه من خيار الناس أخلاقًا حتى قبل إسلامه..
ويعظم من شأن الفضائل والمكارم..
وما طعنه طاعن بشيء في أخلاقه..

حتى بعد إسلامه ومعاداته للكفر والكافرين..
ودعوة الإسلام هي دعوة الأخلاق العظمى في الأرض..
والداعي إليها (صلى الله عليه وسلم) أكمل البشر أخلاقًا.. قبل وبعد البعثة..
ولا يخفى ذلك على أحد..

وكان الجميع يعلم أن هذه الدعوة هي دعوة أخلاق..
حتى قبل التحريم الكامل للخمر، والزنا، والربا، وغيرها من الفواحش..

فها هو جعفر بن أبي طالب يخاطب النجاشي ملك الحبشة ..
في العام الخامس من البعثة يصف أخلاق الإسلام..

"أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله وحده؛ لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات".

إذن الدعوة الإسلامية أخلاقية منذ اللحظات الأولى لها..
ورجل له أخلاق الصديق لا بد أن يستجيب لهذه الدعوة...

ثالث عشر

من الموانع الخطيرة للدعوات الإصلاحية ...التعود على الذل..
يكون المرء ذليلاً لا يستطيع الحراك إلا بإذن الذي يسقيه الذل والهوان..

وأبو بكر الصديق كان عزيزًا في قومه..
صاحب رأي وشرف ومكانة..

فكان يأخذ رأيه بإرادته، لا يمليه عليه أحد..
والإنسان الذليل ...ليس بالتبعية أن يكون عبدًا..

فكم من العبيد كانت لهم نفوس حرة..
وكم ممن يظنون أنفسهم أحرارًا هم أذلاء لغيرهم..

هذا بلال العبد يأخذ قراره بنفسه وينخرط بسرعة في فريق المؤمنين..

وهذا على الجانب الآخر وفد بني شيبان..
وهو على درجة عالية من المكانة والعز والشرف بين العرب يرفض الإسلام لماذا؟

لأنهم أذلاء لفارس، يسكنون بجوار فارس..
ومع عزتهم الظاهرة إلا أنهم لا يأخذون قرارًا ولا يقطعون رأيًا يغضب الأسياد الفارسيين..

وقالوا: إن هذا الأمر-أي الإسلام- مما تكرهه الملوك...

ولذلك أجلوا إسلامهم سنوات وسنوات..

ولذلك نلاحظ رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثلاً إلى هرقل عظيم الروم..

كان مما قاله فيها (صلى الله عليه وسلم) ..

"أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ"

وفي رسالة كسرى فارس قال (صلى الله عليه وسلم)..

"فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ"

فشعوب الروم وفارس كانت ذليلة، لا تأخذ قرارًا إلا بعد رأي الأسياد..
حتى لو كان القرار قرار جنة أو نار...

رابع عشر

دعوة الإسلام دعوة رقيقة لطيفة حانية..
تمس القلب، وتربت على الكتف، وتسمو بالروح..
وقلوب العباد متفاوتة..
فمنهم من له قلب ألين من الحرير..
ومنهم من قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة..

ولا شك أن غليظ الطباع، قاسي القلب، جافي النفس..
سيكون بعيدًا عن هذا الدين..

ولا شك أيضًا أن أبا بكر الصديق لم يكن كذلك..
وتحدثنا كثيرًا عن رقته وعاطفته الجياشة ودموعه القريبة..
ورجل كهذا لا بد أن يدخل الإيمان في أعماق قلبه..
ولا بد أن يتأثر بكلمات الرحمن..
ولا بد أن يتأثر بكلام حبيب الرحمن (صلى الله عليه وسلم) ..

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)

فإذا بدأت فابدأ برقيق القلب..
ليّن الجانب..
واتل عليه كتاب الله..
وسترى عجبًا...

خامس عشر

بعض الناس يعاني مرضًا خطيرًا لا يرجى في وجوده تغيير ولا إصلاح..
بل يقعده هذا المرض حتى يرى كيف تسير الأمور؟
ثم يسير معها أينما سارت..
ذلك المرض هو السلبية..

السلبية تقعد بصاحبها عن كل خير..
فلا يفعله إلا إذا فعله الناس..
ويصبح بذلك رجل إمعة..

كهذا الذي صوره لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
في حديث له رواه الترمذي عن حذيفة..

"لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَظَلَمُوا ظَلَمْنَا
وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا"


فالرجل الإمعة هذا لا يصلح إلا أن يكون تابعًا..
وهي صفة من صفات المنافقين...

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)

هذه السلبية هي التي صدت رجلاً عاقلاً مثل عتبة بن ربيعة..
فإنه لما سمع كلام الله على لسان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)..
وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت..
عاد إلى قومه مسرعًا يتحدث عن القرآن..
وكأنه داعية من دعاة الإسلام..

قال: سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.

فماذا كان نتيجة هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم)..؟

وماذا فعل بعد العلم.. ؟

اقرأ إليه وهو يعرض رأيه..

يقول عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

فالرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية..
فهو على يقين من صدق محمد (صلى الله عليه وسلم)..
ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام بشر..
ومع ذلك فرأيه الذي يظنه حكيمًا... أن تخلي قريش بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين العرب..!

فإن انتصر العرب عليه فهم مع العرب..
وقد أراحوا أهل قريش من محمد (صلى الله عليه وسلم)..
ولم يصبهم أذى..

وإن انتصر محمد (صلى الله عليه وسلم) على العرب ..
سارعوا بالانضمام إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)..

سلبية مطلقة..

فلما اعترض القوم على كلامه ..

وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه...فماذا فعل؟

ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي أدرك صدق الرسالة؟
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

والقوم صنعوا السيئ والقبيح..
فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم..
بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي (صلى الله عليه وسلم) في بدر..

فإذا بعتبة بن ربيعة يحمل سيفه..
ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً تيقن أنه نبي..!

أي سلبية، وأي إمعية، هذا الطراز الفاشل لا يصلح للدعوات المصلحة...

أبو بكر الصديق على طرفي النقيض من عتبة بن ربيعة..
فليس في الإسلام رجلاً بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق..

وقد ظهرت إيجابيته في كل مواقفه ..
ظهرت في إسلامه، وفي إعتاقه للعبيد..
وفي دفاعه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في فترة مكة..
ثم المدينة، وفي إعداده للهجرة..
وفي ثباته في كل غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
وظهرت إيجابيته عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وظهرت في حروب الردة وفارس والروم، وفي جمعه للقرآن..
وظهرت إيجابيته في مساعدة الفقراء والمحتاجين وكبار السن من عامة المسلمين..

كان الصديق نبراسًا لكل مصلح..
ودليلًا لكل محسن..
وما معروفًا إلا وأمر به..
ولا رأى منكرًا إلا وحاول تغييره بكل طاقاته، بيده، ولسانه، وقلبه..

لذلك شق عليه كثيرًا أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر...
لأنهم فهموا آية من آيات الله على غير معناها الصحيح..

لقد سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ظنوا أن الله يقول لهم: عليكم أنفسكم..أو اهتموا بأنفسكم فقط لا يضركم ضلال الآخرين فلا تهتموا بهم...

والأمر على خلاف ذلك تمامًا..
وقف أبو بكر ليصحح لهم الفهم، وليصلح فهم الطريق..

قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}...وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ"...

وهكذا فإن الرجل الإيجابي العظيم كان ولا بد أن يسعى للتغيير..
إذا وجد المنهج القويم المعين على ذلك..
وقد وجد ضالته في الإسلام فما تردد ولا تأخر

سادس عشر

كثيرًا ما يقتنع الرجل بفكرة، أو قضية، أو موضوع..
ثم إذا به يُصَد عنها بصحبته السيئة..

فكما روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..قال

"الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ"

كثيرًا ما رأينا في فترة مكة مجموعات من الأصدقاء تؤمن..
أو مجموعات من الأصدقاء تكفر..
فالرجل يتأثر بأحبابه وأصحابه..

رأينا مثلاً رجلاً عاقلاً ذكيًّا لبيبًا مثل خالد بن الوليد يتأخر الإسلام عشرين سنة كاملة..
فمَنْ أصحابه المقربون؟
عمرو بن العاص ..، ظل أيضًا عشرين سنة كافرًا..
وعثمان بن أبي طلحة ظل أيضًا كافرًا عشرين سنة...
والثلاثة من أصحاب الذكاء والفطنة والمروءة والنجدة..
لكن اجتمعوا على باطل..
فأضل كل واحد منهم صاحبيه..
وتعاهدوا على ذلك..

ثم سبحان الله بعد السنوات الطوال..
يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلب أحدهم فيسري بسهولة إلى الآخر، ثم إلى الثالث..
ثم إذا بهم يذهبون للإسلام على يد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في يوم واحد ..
وذلك ليثبتوا قيمة الصحبة..
وقيمة الأخلاء فلما كانوا على الكفر تعاهدوا عليه..
ولما أشرف الإيمان في قلوبهم أيضًا تعاهدوا عليه.

مثال آخر..
هو أبو البَختري بن هشام..
وكان من المشركين، لكنه لم يكن يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
بل على العكس كان من الذين قاموا لنقض صحيفة المقاطعة المشهورة..
ولكونه كف الأذى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن قتله يوم بدر..

فقابله أحد الصحابة المجذر بن زياد البلوي..
فوجده يقاتل بجوار صديق له..

فقال: يا أبا البختري، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد نهانا عن قتلك.

فقال: وزميلي؟

فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك.

فقال: والله لأموتن أنا وهو جميعًا.

ثم اقتتلا فاضطر، المجذر إلى قتله، فهذه صداقة كافرة قادتهما إلى موت على كفر..
ولو لم تكن الصداقة لنجا أبو البختري..
ولكن اختياره لأصدقائه كان سببًا في هلاكه...