أبو بكر الصديق ونعمة السبق

السبق سمة واضحة جدا في حياة الصديق...
والشيطان كثيرا ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف...
وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى..

يقول له افعل الخير لكن بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين..
ولا يقول له لا تفعل الخير...

فالشيطان أذكى من ذلك..
وعندما يؤجل الإنسان العمل... ولو للحظات قليلة ...
يكون معرضا بشدة لترك العمل..
إما أن ينساه ..
وإما أن تَجِدّ له ظروف تمنع من العمل من شغل أو مرض...
أو تتغير الحماسة في القلب..
بل إن الإنسان قد يموت.

(أبو بكر الصديق) .... الرجل العاقل الحكيم ...
كان يفهم لعبة الشيطان فهما جيدا..
كان يفهم لعبة التسويف...
فما سمح للشيطان أبدا أن يلعبها معه..

كان (أبو بكر) أستاذا في السبق ونبراسا في الحسم..
تشعر أنه يتحرك في حياته ...وقد وضع الآية الكريمة نصب عينيه..

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ)

فتجده في سباق دائم مع الزمن...
وكأن اللحظة القادمة هي لحظة الموت..
أو هي لحظة الفتنة...
فلا بد أن يكون ثابتا..

ومن المؤكد أنه سمع حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما عند مسلم ..

"بادروا بالأعمال الصالحة.. فستكون فتنا كقطع الليل المظلم..
يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا.. يبيع دينه بعرض من الدنيا"


فمن يرى حياة الصديق ...يعلم أنه كان دائما يبادر بالأعمال الصالحة...
اتقاء الفتن التي تظهر فجأة على غير موعد سابق...
أول ما يلفت الأنظار إلى أبي بكر الصديق سبقه إلى الإسلام...
فمن المعروف أنه أول الرجال إسلاما...
ما تردد..
وما نظر..
وما قال آخذ يوما أو يومين للتفكير...
بل أسرع إليه إسراعا..
وهو أمر لافت للنظر جدا..

فهو لن يغير شكله..
أو بيئته...
أو بلده..
بل سيغير إيمانه..
وعقيدته التي عاش عليها طيلة 38 سنة..

وأحيانا بعض الرجال يعتقدون أنه من الحكمة التروي جدا في الأمر..
وعدم التسرع..
وأخذ وقت طويل في التفكير قبل الإقدام على خطوة من خطوات الحياة..
وبالذات لو كانت خطوة مصيرية..

وهذا قد يكون صوابا في بعض الأحيان..
لكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحا جليا مضيئا ..
كالشمس في كبد السماء ساعة الظهر..
يصبح التروي حماقة..
وتصبح الأناة كسلًا..
وتصبح كثرة التفكير مذمة..

هذا مثلا ما حدث مع قوم نوح (عليه السلام) ..
فقومه كانوا يعيبون على الذين آمنوا مع النبي .. بأنهم تسرعوا في الأمر ولم يتفكروا..

فقالوا

(فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)


فبادي الرأي معناها أولئك يبدون آرائهم لأول وهلة دون تفكير وتمحيص..
وسبحان الله ...
إنه لمن البلاهة أن ترى الشمس ساطعة..
فتسأل عنها فتقول دعوني أفكر أولًا وأتروى: هل هي ساطعة أم لا؟

أو ترى نبعا صافيا سلسبيلا في الصحراء...
وأنت على مشارف الهلكة من العطش ...
فتأخذ يوما أو يومين تفكر هل أشرب أم لا؟!

ولقد كان الصديق يرى الحق بهذه الصورة..
فلماذا التردد والانتظار؟!

عُرض عليه الإسلام غضا طريا واضحا..
فأنار الله قلبه بنور الهداية... وأدرك الحق من أول وهلة ...فلماذا الانتظار؟

روى البخاري عن أبي الدرداء ...

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

"هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي؟"

ثم أكمل (صلى الله عليه وسلم) مسوغات أن يتركوا له صاحبه..

فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "إني قلتُ: أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا..
فقلتم : كذبتَ .. وقال أبو بكر: صدقت.."


إذن هي فضيلة ولا شك ...أن أسرع إلى الإسلام هذا الإسراع..

وسبحان الله ...مرت الأيام..
وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... أولئك الذين كذبوه من قبل..
لكن كان (أبو بكر) هو الفائز بأجر السبق..

فمن الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة..
ومنهم من آمن بعد سنوات..
ومنهم من انتظر حتى تم الفتح ثم آمن..
نعم الجميع آمن..
والجميع صدق..

لكن الصديق فاز بها..

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

والأيام التي تمر لا تعود أبدا إلى يوم القيامة..
ولا شك أن أولئك الذين تأخر إسلامهم أياما وشهورا وسنوات..
كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام ضاعت في ظلمات الكفر..
لكن الحسرة ما أعادت الأيام..

ولا شك أن الذي سارع إلى الخيرات ..
استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان..
وفي النهاية الأيام مرت على هذا وذاك..

وأنا لا أذكر هذا الكلام للتاريخ..
فنحن في واقع حياتنا كثيرا ما نتردد في أعمال الخير ..
فنؤجلها يوما... وشهرا أو شهرين..
ثم نفعل الخير... أو لا نفعله..

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

فالأعمال لها أجران...
أجر العمل نفسه...
وأجر المبادرة إليه..
والسبق في تنفيذه..
وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل نفسه...
لأنها تكون بمثابة السُّنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدونك...
فيكون لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ...
لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا...
كما في الحديث عند مسلم ..

"مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا...
وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا..
وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا"