‏(مقالة "الإسلام" فى الموسوعة اليهودية)‏
د. إبراهيم عوض


تبدأ مقالة "الإسلام" فى "الموسوعة اليهودية" بتفسير هذا ‏المصطلح بأنه "الخضوع لله"، وليس فى هذا ما يحتاج إلى تعقيب، فالمسلم ‏يعمل فعلا على أن يخضع لأوامر الله ويبتعد عن نواهيه. بَيْدَ أن قول ‏الكاتب بعد ذلك إن لفظ "إسلام" هو مصدرُ فعلٍ ينصب مفعولين ‏‏(‏factitive‏) هو قول يحتاج إلى تعقيب. فهذا المصدر بالمعنى الذى بين ‏أيدينا الآن مصدرُ فعلٍ لازمٍ. ذلك أن هذا الفعل فى قولنا مثلا: ‏‏"أسلمتُ"، أى دخلت فى الإسلام، أو "أسلمتُ لله رب العالمين"، أى ‏خضعت له سبحانه، لا يأخذ مفعولا به، فضلا عن أن يأخذ مفعولين ‏اثنين. ولقد استخدم الكاتب الكلمة على النحو التالى: "‏submission ‎to God‏"، بما يفيد أن الفعل لازم. صحيح أن الفعل فى قولنا: "أسلمتُ ‏الطفلَ إلى أمه" يتعدى إلى مفعول، وأننا إذا أسقطنا حرف الجر فقلنا: ‏‏"أسلمتُ الطفلَ أمَّه" تعدَّى إلى مفعولين، إلا أن معناه هنا يختلف عن معناه ‏الذى نحن بصدده كما هو بَيِّن. ‏
ثم يتحدث الكاتب عن بداية الدعوة الإسلامية قائلا إن الرسول ‏بدأ بدعوة أهل مكة، ثم انتقل من ذلك إلى دعوة بلاد العرب كلهم، ثم بعد ‏وفاته انتشر الإسلام على نطاق واسع خارج حدود الجزيرة. وهذا أيضا لا ‏تعليق لنا عليه، اللهم إلا قوله فى خلال ذلك إن الإسلام قد حقق هذا ‏الانتصار بفضل السيف. ذلك أنه كانت هناك فتوح، لا نكران لذلك، ‏وهذه الفتوح قد وسّعت الأرض الخاضعة للدولة الجديدة، بيد أن هذا ‏القول شىء، والقفز منه إلى أن الإسلام قد انتشر بالسيف شىء مختلف ‏تماما. لكن الكاتب لا يبالى بهذه التفرقة التى من المؤكد أنه على وعى تام ‏بها. ولو كان الأمر كما زعم لرأينا الشعوب التى فتح العرب بلادها تُكْرَه ‏إكراها على اعتناق دين محمد عليه الصلاة والسلام كما حدث للمسلمين ‏على يد النصارى فى بلاد الأندلس غِبَّ انتصارهم عليهم وقضائهم على ‏دولتهم التى كانت موئلا للحرية الدينية، وكما حدث فى الأمريكتين حيث لم ‏يعد هناك إلا النصرانية الوافدة بعد أن كان للهنود الحمر دينهم المختلف. ‏
لكننا ننظر فنجد أن دخول تلك الشعوب فى الإسلام لم يكن ‏فوريا، كما لم يتم تحت تهديد السيف، بل تم بمطلق حريتها، وأَخَذَ وقتا. ‏فالإسلام لا يعرف الإكراه فى الدين، وقد نصت آياته على ذلك وأعلنتها ‏صريحة مدوية: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (آل عمران/ ‏‏256)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ‏حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس/ 99)، "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ ‏رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا ‏عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ" (يونس/ 108)، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا ‏يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود/ 118)، ‏‏"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، ‏‏"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)... ‏
ولو كان هذا الذى يقوله الكاتب صحيحا لما قبل النبى من اليهود ‏والنصارى الذين كانوا يساكنونه بلاد العرب إلا اعتناق دينه أو إعمال ‏السيف فى رقابهم. بالعكس لقد كتب صلى الله عليه وسلم غداة ‏وصوله إلى يثرب ما يسمى بـ"الصحيفة" بينه وبين يهود معطيا إياهم ذات ‏الحقوق التى أعطيت لأتباعه، وموجبا عليهم نفس الواجبات التى حُمِّلها ‏هؤلاء الأتباع. كما أنه لم يجبر على اعتناق الإسلام نصارى نجران حين أَتَوْا ‏إلى المدينة ودخلوا معه فى مفاوضات وجدالات انتهت بتركه إياهم على ‏ما هم عليه من دين وشعائر، وعادوا إلى بلادهم على هذا الوضع دون أن ‏يتعرضوا منه لما يمس دينهم فى جليل أو حقير. وكان كل ما فعله معهم أنْ ‏دعاهم إلى المباهلة، فلم يستجيبوا وخافوا أن ينزل الله عليهم عقابا من ‏لدنه، مع إيثارهم فى ذات الوقت البقاء فى مناصبهم والمزايا التى تستتبعها ‏هذه المناصب، فأقرهم النبى عليه السلام على ما أرادوا. ‏
بل إن المسلمين مأمورون بحكم دينهم ونصوص كتابهم أن يكون ‏جدالهم مع أهل الكتاب بالتى هى أحسن ما داموا لا يتعرضون لهم بظلم: ‏‏"اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ ‏أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" ‏‏(النحل/ 125)، "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ‏ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت/ 46). ويوصى الرسول أتباعه قائلا: "ألا ‏من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير ‏طِيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة"، "من آذى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه". على ‏أن الأمر لا يقف هنا، بل يعلن القرآن أنه لا ينهى المسلمين عن بر الكفار ‏والإقساط والإحسان إليهم ما داموا لا يقاتلوننا فى الدين ولم يخرجونا من ‏ديارنا: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ ‏دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ‏اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى ‏إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة).‏
بل إن الكافر ذاته إذا استجار بالمسلمين فعليهم أن يجيروه حتى ‏يسمع كلام الله ثم يبلغوه مأمنه معزَّزا مكرَّما: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا ‏يَعْلَمُونَ" (التوبة/ 6). صحيح أننا نقرأ فى القرآن المجيد مثل قوله تعالى: ‏‏"فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ‏وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ ‏فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة/ 5)، لكننا ينبغى أن نعلم أن ‏هذه الآية وأمثالها إنما تتعلق بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين ‏عهود ثم غدروا بها، فهى إذن حالة حرب، وليس فى الحرب إلا غالب أو ‏مغلوب، أو قاتل أو مقتول. ورغم هذا كان الإسلام أكثر من كريم معهم، إذ ‏أعطاهم مهلة أربعة أشهر يسيحون خلالها فى الأرض براحتهم التامة قبل ‏أن يعاملهم المسلمون بما يستحقونه بغدرهم وخيانتهم وتقتيلهم الأبرياء ‏منهم. ورغم هذا أيضا كان الإسلام معهم أكثر جدا جدا من كريم لأنه لم ‏ينفذ تهديداته هذه، بل كان قصده من ورائها التخويف أكثر منه التطبيق. ‏وكانت النتيجة أنْ غزا الإسلام القلوب الجاسية وليَّن من قساوتها وكسبها ‏لقضيته مكسبا عبقريا. أما الذين لم يخونوا العهود والمواثيق فعلى المسلمين ‏أن يُوَفُّوهم عهودهم إلى مدتها: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ ‏يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 4)، "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ‏وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ‏فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (التوبة/ 7).‏