التواصل الإيماني هو الأصل والأساس: إن الأصل في عمارة الكون الذي لا يعبأ بنو إسرائيل به كثيراً - لا سلفاً ولا خلفاً- هو التواصل الإيماني، وما التواصل النسلي إلا تبعاً لهذا الأصل، وفرعاً عن ذاك الأساس، وما كان تبرأ إبراهيم من قومه بل ومن أبيه آزر عندما تبين له أنه عدو لله، إلا دليلاً على تأكيد وترسيخ هذا الأصل وإعماله- فيما بعد- في بنيه وعقبه.
وهذه المقدمة تجعلنا نؤكد أن لا صحة لما فهمه كتبة العهد القديم من نصوص تشير إلى أن وعد إبراهيم بأرض فلسطين، إنما كان قاصراً على أولاده وأحفاده من نسل إسحاق، هكذا دون قيد بزمن أو شرط بالتزام، كما تجعلنا نؤكد أن لا حجة فيما استدلوا به من نحو ما جاء في سفر الخروج6: 2-4 ".. ثم كلم الله موسى وقال أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء.. وأيضا أقمت معهم عهدي أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها"، ونظيره ما جاء في سفر التكوين35: 5.. لأن هذا- على ما سبق أن ذكرنا بالدليل- ليس لهم الآن، وإنما كان لهم إبان المدة المقررة والمقدرة لهم أزلاً.
ويدل على ذلك من غير ما ذكرنا ما أفادته النصوص من أن ما وعدوا به في سفري الخروج والتكوين وغيرهما قد تحقق لآبائهم وأسلافهم على يد يوشع وداود وسليمان عليهم السلام، وقل مثل هذا فيما وعدوا به قبل خروجهم من مصر مع موسى على ما أفادته نصوص كتبهم، ففي سفر الخروج6: 6وما بعدها في خطاب الله لموسى: "قل لبنى إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة. وأتخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً .. وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي في أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثاً، أنا الرب. فكلم موسى هكذا بني إسرائيل ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية"، ونصه في السامرية: "قل لبني إسرائيل أنا الله سأخرجكم من أوقار المصريين وأخلصكم من خدمتهم وأفككم بقدرة بسيطة وبأحكام كبار. واتخذكم لي شعباً وأكون لكم ولياً.. وأحضركم إلى الأرض التي أقسمت بقدرتي لإعطائها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وأعطيها لكم وراثة أنا الله. وخاطب موسى كذلك بني إسرائيل، فلم يسمعوا من موسى من ضيق الصدر ومن الخدمة الشاقة وقالوا لموسى انقطع الآن عنا لنخدم المصريين إذ خير لنا خدمة المصريين من موتنا في البرية".
كما يدل عليه أن ذلك كائن لنسل إسماعيل الأطهار، كما هو كائن لنسل إسرائيل قبل مبعث نبي المسلمين محمد عليه السلام، ففي سفر التكوين17: 20 لما قال الله لإبراهيم "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه هاأنذا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جداً اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أمةً كبيرة" كان مراده من هذا التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه الذي عظمه الله جداً جداً وصيره إلى أمة كثيرة حتى أربت في كثرتها على نسل إسحاق، ولا ينكر ذلك إلا جاحد مكابر، سيما بعد قول الله في سفر إشعياء 54: 1-3 "لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل.. ويرث نسلك أمماً ويعمّر مدناً خربة".. وحين قالت سارة لإبراهيم: "اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق"، قال الله لإبراهيم: "بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك" سفر التكوين21: 10، 12، 13وبنحوه في رسالة بولس لأهل غلاطية 4: 30-31.. ولما رأت هاجر أن تسكن بعيداً عن سارة ظناً منها أن الله قد خص درتها وابنها إسحاق بالبركة، ناداها ملاك الله بقوله: "مالك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة" سفر التكوين21: 17-18.
فهذه النصوص وما جاء على شاكلتها تعني ألا تعارض بين ما أفادته نصوص كتبهم من جعل الوعد في أولاد إسرائيل من نسل إسحاق بن إبراهيم، وجعله- بعد أن تنتهي مدة البركة الممنوحة من الله لبنى إسحاق- في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم، سيما وأن ليس في العهد القديم ولا الجديد- رغم ما اعتورهما من تحريف- ما ينفى هذا الانتقال ولا ما يفيد أن هذا الوعد سيظل إلى الأبد حكراً على بنى إسرائيل، بل إن العكس- على ما رأينا في النصوص السابقة- هو الصحيح.
يؤيد هذا ويؤكده أنه لم يأت من نسل إسماعيل بن إبراهيم نبي ولن يأت سوى محمد عليه وعليهما الصلاة والسلام، كما يؤيده ويؤكده أن كلمة (الأبد) ما جاءت في التوراة والإنجيل إلا في حقه وفى حق هذه الأمة المنتسبة إليه، ومما ورد من ذلك ما جاء في سفر أشعيا 26 :2-4 "افتحوا الأبواب لتَدخلَ الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن .. توكلوا على الرب إلى الأبد"، وقد ثبت عدم وجود هذه الصفات في أمة يعقوب .. وبنحوه في تأكيد ما سبق ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان يسوع14: 16 "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر(أي معلماً) ليمكث معكم إلى الأبد"، ولم يبعث بعد عيسى عليه السلام نبي عدا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي المزمور 45: 2، 6، 16، 17، "باركك الله إلى الأبد.. كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض. اذكر اسمك في كل دور فدور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد" ناهيك عما جاء في العهدين القديم والجديد من صفته وصفة أمته.
ومما يدل على المثلية في منح الوعد من الله لأبناء إسماعيل وأن ذلك كائن على أساس من الإيمان وتوحيد الله على غرار ما كان منه مع أبناء إسرائيل، أن إسرائيل حين وصى بنيه بعبادة الله وحده، لم يطمئنه إلا إعلامهم إياه أنهم سيستمرون على العهد في عبادة إلهه وإله آبائه من الأنبياء، وفي ذلك يقول سبحانه: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون.. البقرة/132، 133)، فالآيتان تقرران أن يعقوب (إسرائيل)، وصى بنيه بما وصي به إبراهيم، وصاهم بأن يعبدوا إلها واحداً هو إله إبراهيم (جده) وإله إسحاق (أبيه) وإله إسماعيل (عمه)، فهي إذن دعوة مشتركة وملة واحدة تعاهد عليها الأبناء وجمعت بين جميع آبائهم من الأنبياء من ذرية إبراهيم وعلى رأسهم إسرائيل بن إسحاق وإسماعيل الذي هو كإسحاق تماماً لكونهما من ظهر إبراهيم وصلبه، وهو في معنى ما جاء في قول الرب لإبراهيم عقب ولادة هاجر لإسماعيل تكوين 17: 5، 7 "أجعلك أباً لجمهور الأمم.. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك"، وقوله بعد عن سارة تكوين 17: 16 "وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون"، ويلاحظ هنا كلمة (أيضاً) الواردة في الأخير من هذين النصين، وما تفيده من المثلية في منح البركة- المبشر بها إبراهيم- لإسماعيل أولاً يعني من قبل أن تكون في إسحاق على الرغم من أسبقيته الزمنية.
وإذا كان الأمر كذلك فلا غرو ولا عجب عند إخلال بني إسرائيل بوصية أبيهم يعقوب وجدهم إبراهيم- المخاطب بجعل الأمر في نسله دون تحديد ولا تمييز- أن ينتقل الأمر إلى إخوتهم وبني عمومتهم من نسل إسماعيل ليتم التواصل الإيماني في هذه الشجرة المباركة، وإلا عُد عدم انتقاله وتحوله عن بنيهم مع إصرارهم على مغايظة الرب ومواصلتهم فعل المعصية والاعتداء على الذين يأمرون بالقسط من الناس، محاباة يتنزه عنها الرب الذي أمر الجميع دون ما مفاصلة بألا يعبدوا سواه وبأن يمثلوا أوامره وينتهوا عن مناهيه.
كما يدل على هذه المثلية في تحقيق موعوده سبحانه لنبي إسماعيل على غرار ما كان من قبل لبني إسرائيل ما ورد في سفر التثنية18: 18-19 في مخاطبة الرب لموسى: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" أي أقتص منه، ونصه في التوراة السامرية: "نبياً أقمت لهم من جملة إخوتهم مثلك ، وجعلت خطابي بفيه فيخاطبهم بكل ما أوصيه. ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه الذي يخاطب باسمي أنا أطالبه"، والنص الأخير عينه تكرر في السامرية دون العبرية، وجاء تحديداً في سفر الخروج 20: 21، وشبيه به ما ورد في العهد الجديد في أعمال الرسل3: 22-23وفيه: "فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب" .
وقد فسر عيسي عليه السلام عبارة (أنا اطالبه) الواردة في النصوص السابقة، بالعذاب الشديد لمن لم يطع ويسمع ويؤمن بهذا النبي المنتظر المبشر به وهو أحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا لمن لا يقر ويؤمن بتحول موعود الله في الملك والنبوة له ولأمته من بعده، يشهد لهذا ما أورده لوقا12: 16-21على لسان المسيح عليه السلام ونصه": "وضرب لهم مثلا قائلأ: إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلاً ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري؟"، فقال لنفسه: "استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون. هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله".
وهذا يعنى أن ذاك الغبي المعرض عن الله المغتر بدنياه، الذي ما عمل لأخراه ولا آمن برسل الله، وشح بماله الذي صيره من أحرص الناس على حياة، هالك لا محالة ومعذب في النار ، لأنه ما تصدق ولا صلى ولكن كذب وتولى، وعليه فهو ليس أهلا للاستخلاف ولا لوراثة الأرض والنبوة، كما يعنى التهديد الواضح والوعيد الصريح بأنه عقب الانتقام الدنيوي لهذا الذي لا يسمع لذلك النبي الآتي إلى العالم - بله الأخروي- يباد، ليتأسس على أنقاض ملكه، ملك جديد يقوم على أساس من الإيمان، ويكون إلى الأبد.
وهذا ما يحدث بالفعل، فما أن رُفع عيسى عليه السلام بعد أن تآمر اليهود على قتله، حتى سلط الله عليهم- بعد أن كانوا في نعمة ومنعه - من يضطهدهم ويسومهم سوء العذاب، بل وحتى بعد أن هاجر فريق منهم إلى بلاد العرب وصارت لهم فيها ديار عظيمة وحصون منيعة وزروع وثمار، ذلك أنه ما أن ظهر الإسلام ونقضوا العهد مع رسول الله غير مبالين بتحول موعود الله عنهم لسوء صنيعهم ولجرائمهم المتلاحقة، حتى دمرها الله عليهم وحاربهم صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم وأجلاهم من المدينة، ثم مهد- بغزو الروم في مؤتة وتبوك وبعزمه على إرسال سريته التي مات عنها وجعل على رأسها أسامة بن زيد- للاستيلاء على الأرض المقدسة المحببة إلى نفوسهم، تلك التي كتبها لهم إبان مدتهم ، فكتب أصحابه عليهم الرضوان كتاب صلح لبطريرك النصارى واتفقوا جميعا على ألا يدخلها يهودي أبداً ، وقضى بذلك على ملكهم وأزيلت دولتهم وانمحت بركة إسرائيل في الأمم إلى الأبد لتحل محلها بركة إسماعيل ممثلة في محمد صلى الله عليه وسلم وفى أمته "إلى الدهر وإلى دهر الدهرين" على حد ما جاء في المزمور44: 18 ، وإلى "مجئ يوم الرب. اليوم العظيم والمخوف" على حد ما جاء في سفر ملاخي4: 5.
ومما يعضد من شأن هذا التحول، ويقوي من أمر استحقاقهم لما حل بهم ما جاء في سفر التثنية32: 26من قول الرب لأولئك الذين أغاظوه بأباطيلهم وأغاروه باتخاذ العجل والأصنام وكثير ذلك مما ليس إلهاً: "أبددهم إلى الزوايا وأبطل من الناس ذكرهم"، ونظيره في النسخة السامرية من نفسي السفر والإصحاح والعدد: "أزويهم أعطل من الملأ ذكرهم"، وفى سفر التثنية 28: 63-64من النسخة العبرانية: "كما فرح الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها. ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها.." إلخ .
وفيما سبق من قول موسى- عليه السلام - مما ورد ذكره في سفر التثنية18: 18 "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك"، مع ما أوضحناه في الحقيقة الثالثة بشأن الأبدية الحاصلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمبشر بها هو وأمته، ما يكشف زيف ما تزعم من يهود من أن تلك الأبدية إنما هي أمر خاص بهم وبنسل نبيهم إسرائيل على ما تُفهمه عبارة سفر التكوين17: 19وفيها: "بل سارة امرأتك تلد لك - والخطاب هنا بداهة لإبراهيم عليه السلام - ابناً وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي أبديا لنسله من بعده"، إذ لا يتأتى بحال من الأحوال أن يكون الأمر كذلك مع وعد الله لموسى أن يقيم لهم نبياً من وسط أخوة يعقوب، كما لا يصح أبداً ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن يقال إن بنى إسرائيل إخوة لبني إسرائيل وبني تميم أخوة لبني تميم، بخلاف قولك: بنو إسماعيل إخوة لبني إسرائيل وزيد أخو بني تميم، وهود أخو عاد وصالح أخو ثمود أي واحد منهم، فهو أخوهم في النسب والأصل يعني من ناحية الجد، ولو قيل عاد أخو عاد، وثمود أخو ثمود، ومدين أخو مدين لكان نقصاً وخطأً صريحاً .
كما يكشف ذلك الزيف ما جاء عقيب النص السابق مباشرة ـ التكوين 17: 20وفيه عن إسماعيل: "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، هاأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدأ، اثني عشر رئيسا بلد وأجعله أمة كبيرة"، وذلك صريح في انتقال موعود الله في الملك والنبوة إلى بنى إسماعيل على ما سبق ذكره، لأن عبارة (كثيرة جداً) تعني في اللغة العبرانية (بماد ماد) كما تعني عبارة (شعبا عظيماً)، (لجوي جدول) على ما أجمع عليه علماء اليهود السامريين والعبرانيين، وهما تدلان بحساب الجمل على اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الآتي من نسل إسماعيل، إذ مجموع كل منهما اثنان وتسعون وهو بعينه مجموع حساب الحروف في (محمد) تماماً .
ولا غرو أن يكون مسماه صلوات الله وسلامه عليه في الإنجيل والكتب السالفة (أحمد)، لأنه كان كذلك "قبل أن يكون (محمداً) كما وقع في الوجود .. وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس"، كذا ذكره ابن حجر في الفتح 6/641 عن القاضي عياض، وتفسيره أنه عليه السلام أحمد الناس لربه فهو من ثم أحق الناس وأولاهم بأن يحمد لما له من كثير الخصال التي يستحق أن يحمد عليها في الدنيا والآخرة فصار من أجل هذا محمداً، فالاسمان واقعان على المفعول ويفيدان المبالغة بيد أنها في محمد للكثرة والكمية، وفي أحمد في الصفة والكيفية وكل في موضعه أبلغ في مدحه عليه السلام وأكمل في المعنى.
يضاف لما سبق من إيماءات نصوص التوراة، أن دلالة نص أشعياء9: 7-9 "لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابناً، وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسيً داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد، غيرة رب الجنود تصنع هذا".. على محمد بن عبد الله أظهر وألزم من دلالته على غيره فانه الذي رئاسته على عاتقه وبين منكبيه من جهتين: من جهة أن خاتم النبوة على نغض كتفيه وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء وشهده لفيف من كبراء الأحبار والرهبان ممن عاصروه، ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه بين يدي الساعة، وهذا يشير إليه قوله: "أبا أبديا رئيس السلام. لنمو رياسته"، يعنى لكونه المؤيد المنصور، رئيس السلامة ، فان دينه الإسلام ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه، ثم إنه - على ما تقرر- الذي سلطانه هو السلطان الكامل الذي ليس له فناء إلى آخر الدهور .
ولا يقدح في ذلك كون إسماعيل ابناً لهاجر المقصاة ،لأن الكل في النهاية أولاد لإبراهيم الذي هو أب لجميعهم بنص كتبهم، ففي خطابه لإبراهيم في سفر التكوين17: 5 يقول الرب: "أجعلك أباً لجمهور من الأمم".
كما لا مجال للتعجب الذي ورد في عديد من نصوص كتبهم كالمزمور118: 22، 23وإنجيل متى ومرقس ولوقا وأعمال الرسل بالإصحاحات 21- 12- 20- 4على الترتيب، من أن الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأساً للزاوية من قِبل الرب.. لأن ذلك أمر معلوم من قبل، فإبراهيم الذي تبرأ من أبيه وقومه لما تبين له أنهم أعداء لله- كما جاء في القرآن- أطلعه ربه بأمر أولئك البناءين الفجرة من بنيه اللذين رغبوا عن ملته وارتدوا، وأخبره "أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة" ، فقال سبحانه له: (لا ينال عهدي الظالمين.. البقرة/124)، فكان من الطبيعي لشيخ الأنبياء عليه السلام أن يمهد بوحي من ربه للبديل ولذلك الحجر الذي سيصير يوماً ما رأساً للزاوية، وأن يتبرأ من أولئك الرافضين للحجر لكونهم الذين فعلوا في أنفسهم- بظلمهم وبتخليهم عن ملته- ما استوجب ذلك الاستبدال من قِبَل الرب.
وهذا يعنى أن الأبوة المقصودة في خطاب الله لإبراهيم: "أجعلك أباً لجمهور من الأمم"، تكوين 17: 5 وكذا البنوة المرادة من قول إبراهيم عليه السلام: (ومن ذريتي.. البقرة/124)، ليست هي مجرد أبوة أو بنوة نسب بل هي مع ذلك وقبله أبوة وبنوة إيمانية، الأمر الذي يعني أن أبناء إبراهيم حقاً هم الذين يتبعون ملته، وفي ذلك يقول عز من قائل: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين.. آل عمران/68)، ولقد تجسد الولاء والتوادد الإيماني مع الولاء والتوادد النسلي في محمد الذي ينتهي نسبه كإسرائيل تماماً إلى إبراهيم عليهما وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. فما وجه الغرابة إذاً؟