سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
اختلاف القراءات ، أسبابه ، وأنواعه ، وفوائده ، ودرء الشبهات عنه(الجزء الرابع)
ما يؤثر على التفسير من القراءات
أنا هنا أجدنى مضطرا إلى الاستعانة بما ذكرته فى دراستى حول أسباب الخلاف بين المفسرين – وهو أحد البحوث المنشورة بالموقع - لأن اختلاف القراءات هو واحد من تلك الأسباب ، ولعلاقة ما ذكر هنالك بدراستنا هنا أستميح القارئ عذرا فى هذا النقل
ينبغى أن يعلم أنه ليس كل اختلاف بين هذه القراءات يسبب الاختلاف فى أوجه التفسير ، بل إن القراءات من هذه الناحية تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: قراءات لا يؤثر اختلافها فى التفسير بحال.
وذلك كاختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والحركات ، كمقادير المد والإمالات ، والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس ، والغنة والإخفاء.
ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء اللغة العربية ما لم يحفظه غيرها ، وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف فى مخرجها وصفاتها ، وبيان اختلاف العرب فى لهجات النطق ، وهذا غرض مهم جداً لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره فى اختلاف معانى الآى.
ثانيهما: قراءات يؤثر اختلافها فى التفسير:
وذلك مثل اختلاف القراء فى حروف الكلمات مثل ((مالك يوم الدين)) و ((ملك يوم الدين)) وكذلك اختلاف الحركات ، الذى يختلف معه معنى الفعل كقوله سبحانه: ((ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)) حيث قرأ نافع "يصُدون" بضم الصاد ، وقرأ حمزة "يصـِـدون" بكسر الصاد.
والأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان ، والثانية بمعنى صدودهم فى أنفسهم ، وكلا المعنيين حاصل منهم. ([30]) مثل ذلك مؤثر فى التفسير ، لأن ثبوت أحد اللفظين فى قراءة قد يبين المراد عن نظيره فى القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره ، ولأن اختلاف القراءات فى ألفاظ القرآن يكثر المعانى في الآية الواحدة.
وقال المحقق ابن الجزرى في ذلك : قد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدهما: اختلاف اللفظ لا المعنى كالاختلاف فى ألفاظ (الصراط ([31]) , يؤوده ([32]) , القدس([33])) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط .
الثانى :اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما فى شئ واحد مثل (مالك , ملك) ([34]) قراءتان المراد بهما الله تعالى فهو مالك يوم الدين وملكه , ومنه قراءة (ننشزها , وننشرها ) ([35]) لأن المراد فى القراءتين العظام فالله أنشرها بمعنى أحياها , وأنشزها أى رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت , فضمن الله المعنيين فى القراءتين .
الثالث : اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما فى شئ واحد , لكن يتفقان من وجه آخر لا يقتضى التضاد.
ومثاله قوله تعالى: ((وظنوا أنهم قد كذبوا )) ([36]) حيث قرئ بالتشديد والتخفيف فى لفظ (كذبوا ) هكذا " كُذِّبوا ", و" كذِبوا" فاما وجه التشديد فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذّبوهم , وأما وجه التخفيف فالمعنى : وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذَبوهم - أى كذبوا عليهم - فيما أخبروهم به , فالظن في الاولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل , والظن فى القراءة الثانية شك , والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم . ومنه أيضاً قوله تعالى : (( وإن كان مكرهم لَتَزول منه الجبال)) ([37]) بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى فى كلمة "لتزول" وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضاً , فأما وجه القراءة الأولى فعلى كون " إنْ" مخففة من الثقيلة أى وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها , وفى القراءة الثانية " إن " نافية أى: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام .
ففى الأولى تكون الجبال حقيقة , وفى الثانية تكون مجازاً. ([38])
وبعد ففى هذين النقلين عن صاحب تفسير التحرير والتنوير عن الشيخ المحقق ابن الجزرى ما يوضح بجلاء أن القراءات منها ما يكون له تأثير على التفسير , ومنها ما يتعلق باللفظ فقط وهيئة أدائه وهو لا يؤثر على التفسير , وبحثنا الذى نحن بصدده يتعلق بالقسم الأول .
([30]) راجع فى ذلك تفسير التحرير والتنوير - 1/46 وما بعدها بتصرف.
([31]) سورة الفاتحة:5
([32]) سورة البقرة:255
([33]) سورة النحل:102
([34]) سورة الفاتحة :4
([35]) سورة البقرة : 259
([36]) سورة يوسف : 110
([37]) سورة إبراهيم : 46
([38]) نقلاً عن مناهل العرفان - 1/85, 86 باختصار وتصرف
جزاكم الله خيرا
خادمة القرآن
المفضلات