يتسم الدين بالعالمية، حين يختار العقل أداة لفهمه وحين يجعل من التفكير وأداته العقل فريضة.. يعول عليها فى أمر العقيدة وفى أمر التبعة والتكليف.. ولأن إرادة الله تعالى قد شاءت للإسلام أن يكون دينا للعالمين به تختتم الرسالات، ويعم خطابه إلى الدنيا بغير حد فى المكان أو الزمان.

كان القرآن هو المعجزة التى حملها رسول القرآن إلى الناس.. والمعجزة كالخلق والاصطفاء للنبوة شأن من شئون الله، يختار منها سبحانه وتعالى ما يوافق المصلحة.. وقد أخبر تعالت حكمته فى سورة الإسراء أن المعجزة المادية لم تكن سبيلا إلى تصديق السابقين.. فقال: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} (الإسراء 59).

وحين أعطى الله لنبيه محمد القرآن، فإنه أعطاه وأعطى للدنيا بذلك نبوة هداية، ترشد العقل بالبينة والفهم والموعظة الحسنة ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة، فالقرآن لم يكن محض استبدال معجزة بمعجزة.

فإنما هو سبيل لجعل النبوة نبوة هداية تخاطب الوجدان والعقل والضمير، وليست نبوة استطلاع للغيب وكشف للأسرار وإفحام للعقول بالخوارق والمعجزات.. أراد الله تعالى لنبوة الإسلام أن تخاطب العقل والبصيرة وتعلم الناس أن النبى ما هو إلا بشر رسول اصطفاه المولى للرسالة.. {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا}؟؟(الإسراء 93).

نبوة القرآن نبوة فهم وهداية بالنظر والتأمل والتفكير، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال.. وقد جاءت سمعة المعجزة (المادية) ميسرة لرسول القرآن يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس والناس أنها كسفت لموته، فأبى عليه مذلك، وأعلمهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته.

فى مقال للعقاد، عن آراء كتاب الغرب فى نبى الإسلام بين الأنبياء أشار لكتاب (القادة الدينيين) RELIGIOUS LEADARS لمؤلفيه هنرى توماس ودانالى توماس، وفيه تراجم ثلاثة من الأنبياء الكبار: موسى، وعيسى، ومحمد.. وثلاثة من أئمة الديانات الكبرى فى الهند والصين والشرق :زرادشت، وبوذا، وكونفوشيوس..

فضلا عن تراجم لبعض المصلحين: بولس، ولوثر، وليولا، زعيم الطائفة اليسوعية.. يبدأ المؤلفان ترجمتهما لنبى الإسلام قائلين: فى القرن السابع، حين بدا على الدنيا أنها أصيبت بالجفاف، وحين فقدت اليهودية مولدها وإختلطت المسيحية بموروثات الأمم الرومانية البربرية، نبع فى المشرق فجأة ينبوع صاف من الإيمان إرتوى منه نصف العالم.

وإن حكمة الله لعجيبة ذات قوة فى قضائها العجيب، فإن هذا الينبوع الصافى قد إن بثق من أجدب بقعة بين بقاع الأرض قاطبة: صحراء الجزيرة العربية.. وتروى الأخبار المأثورة كثيرا من المعجزات والخوارق التى صحبت مولد محمد وطفولته.

ولكن محمدا لم يذكر هذه المعجزات ولم يذكر قط معجزة متصلة بشخصه أو برسالته، لأنه لم يأت كما قال بغير معجزة واحدة هى معجزة القرآن الذى تلقاه من وحى الله.. وقد جاء بالدين ليدعو إلى ملة إبراهيم وموسى والمسيح على هدى جديد وفى ختام السيرة.

قالا: الإسلام لا يخاصم الديانات الأخرى، بل هو دين يجمع ويؤلف، ولا يطرد أو يستثنى، ومن أدب المسلم أن يحترم عقائد غيره، وأن يؤمن بأن العالم أمة واحدة تدين لإله واحد، هو رب العالمين.

الإنسان فى عقيدة الإسلام مخلوق مكلف مسئول، قيمته بتقواه وبعمله، لا يسأل إلا عن عمله، ولا يسأل عن فعل غيره.. {كل امرئ بما كسب رهين} (الطور 21)، {وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} (الإسراء 13).

يثاب وينجو بعمله لا بالوساطة ولا بشفاعة كهان أو أحبار أو رهبان.. يحمل وزره لا وزر غيره من ميراث الآباء الأولين..ولا تزر وازرة وزر أخرى (الأنعام 164، الإسراء 15). والتكليف قوامه ما تسعه الطاقة.. {ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون} (المؤمنون 62).

وكل مفاضلة بين عقيدة وعقيدة عند المسلم فمردها إلى سبب، وسببها قائم على فضيلة يفهمها العقل من مزايا القرآن الكثيرة فيما يقول العقاد فى كتابه: التفكير فريضة إسلامية.. مزية واضحة، هى التنويه بالعقل والتعويل عليه فى أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف.. فى كتب الأديان الأخرى إشارات صريحة أو ضمنية إلى العقل أو إلى التمييز.

ولكنها تأتى عرضا غير مقصودة وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه، ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا فى مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتى الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة فى سياق الآية.

بل هى تأتى فى كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة العقل فى مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الخلاقى أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن خصائصه أيضا ملكة الإدراك التى يناط بها الفهم والتصور.

وملكة الحكم التى تتصل بها ملكة الحكم التى تتصل بها ملكة الحكم النابعة مما يتأمله العقل ويدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبنى عليها نتائجه وأحكامه ومن أعلى خصائص العقل الإنسانى الراشد وهو مقابل التكوين فى العاقل الرشيد.

ووظيفة الرشد فوق العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكم لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضح والتمام والتمييز بميزة الرشاد فريضة التفكير فى القرآن الكريم فيما يقول العقاد فى رائعته التفكير فريضة إسلامية تشمل العقل الإنسانى بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها.

فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضا مقتضبا بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا.نظير له فى كتاب الأديان ليس فى نيتى، ولا مقدورى، ولا يتسع المقام، أن أعرض لما فى هذا الكتاب للعقاد من كنوز.

وكنت قد قدمت عرضا له لإذاعة صوت العرب من خمس وثلاثين سنة فى برنامج قرأت لك..وتعجبت وتعجب غيرى من قعود وزارة التربية والتعليم عن تقريره فى القرآن الحكيم لا تخطئ العين تكرار الاشارات فيه إلى العقل بكل و، سواء فى مسائل العقيدة، أم فى بدائع الخلق، أم فى أمور التبعة والتكليف.. فآيات الخلق البديعة المروية.. {لآيات لقوم يعقلون} والخطاب فى القرآن يتكرر فيه.. {أفلا تعقلون}.. {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}.. {وما يعقلها إلا العالمون}.. {لعلكم تعقلون}.

وفى خطاب القرآن لذوى الألباب.. {وما يذكر إلا أولوا الألباب}.. {فاتقوا الله يا أولى الألباب}.. وفى وصف الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه {وأولئك أولوا الألباب}.. {لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب}.. {واتقون يا أولى الألباب}.

وفى العقل الذى يفكر ويستخلص، وفى الفكر والنظر.. والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات .. تتكرر الإشارات.. {لعلكم تتفكرون}.