قال الله تعالى واصفا حال يوسف عليه السلام :


رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {12/101}




لم يكن يوسف عليه السلام ملكا لمصر ولكن كان له سلطة نافذة في مجال (التحكم في خزائن مصر) أعطاه إياها ملك مصر حينذاك مع استقلالية في اتخاذ القرار حتى لو كان خارج نظام او شريعة الملك ودليل ذلك :


اولا :
أعطاه الملك سلطة مطلقة يفعل ما يشاء :
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ {12/54}
قال القرطبي :
إِنَّك الْيَوْم لَدَيْنَا مَكِين أَمِين " أَيْ مُتَمَكِّن نَافِذ الْقَوْل


ثانيا :
قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} [يوسف: من الآية 56]


قال ابن كثير :
أَيْ أَرْض مِصْر " يَتَبَوَّأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء " قَالَ السُّدِّيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ : يَتَصَرَّف فِيهَا كَيْف يَشَاء


قال القرطبي :
مكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض ; أَيْ أَقَدَرْنَاهُ عَلَى مَا يُرِيد .


إذاً ، كان صاحب سلطة مطلقة في مجاله


ثالثا :
كان له حرية التصرف في البيع، يبيع لمن يشاء ويمتنع عمن يشاء بدليل قوله تعالى :
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ {12/59} فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ {12/60}


وهذا يدل على حرية اتخاذ القرار

رابعا :
قوله تعالى : كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ {12/76}
وهنا بعدما اخذ يوسف عليه السلام أخاه في معيته بحيلة (صواع الملك) ، نجد أنه طبق عليه شريعة يعقوب عليه السلام وليس شريعة ملك مصر ، قَالَ قَتَادَة : كَانَ حُكْم الْمَلِك الضَّرْب وَالْغُرْم ضِعْفَيْنِ .
قال الطبري :
وَقَوْله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِين الْمَلِك إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه } يَقُول : مَا كَانَ يُوسُف لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي حُكْم مَلِك مِصْر وَقَضَائِهِ وَطَاعَته مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُكْم ذَلِكَ الْمَلِك وَقَضَائِهِ أَنْ يُسْتَرَقّ أَحَد بِالسَّرَقِ , فَلَمْ يَكُنْ لِيُوسُف أَخْذ أَخِيهِ فِي حُكْم مَلِك أَرْضه إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه بِكَيْدِهِ الَّذِي كَادَهُ لَهُ , حَتَّى أَسْلَمَ مَنْ وُجِدَ فِي وِعَائِهِ الصُّوَاع إِخْوَتُهُ وَرُفَقَاؤُهُ بِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالتَّسْلِيمِ .


يقول ابن كثير رحمه الله: (أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره وإنما قيض الله له أن التزم له أخوته بما التزموه وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ولهذا مدحه الله تعالى فقال {نرفع درجات من نشاء} [الأنعام: من الآية 83]) [ج2/ ص485].


وقد أقر كتاب اليهود والنصارى المقدس ان يوسف لم يكن هو الملك ولكنه كان نافذ القول كما في سفر التكوين :


38 فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: «هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلاً فِيهِ رُوحُ اللهِ؟»
39 ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «بَعْدَ مَا أَعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هذَا، لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ.
40 أَنْتَ تَكُونُ عَلَى بَيْتِي، وَعَلَى فَمِكَ يُقَبِّلُ جَمِيعُ شَعْبِي إِلاَّ إِنَّ الْكُرْسِيَّ أَكُونُ فِيهِ أَعْظَمَ مِنْكَ».
41 ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ».
42 وَخَلَعَ فِرْعَوْنُ خَاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ بُوصٍ، وَوَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ،
43 وَأَرْكَبَهُ فِي مَرْكَبَتِهِ الْثَّانِيَةِ، وَنَادَوْا أَمَامَهُ «ارْكَعُوا». وَجَعَلَهُ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ.
44 وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «أَنَا فِرْعَوْنُ. فَبِدُونِكَ لاَ يَرْفَعُ إِنْسَانٌ يَدَهُ وَلاَ رِجْلَهُ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ».


وجه الاعجاز في الآية :
وجه الاعجاز هنا هو الدقة الشديدة في لفظها حيث وصف يوسف عليه السلام وضعه بإن الله تعالى قد آتاه (من) الملك وهو إدارة خزائن مصر (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ)
و(من) هنا للتبعيض وهنا يفرق القرآن ببعض الملك الذي آتاه الله ليوسف و غيره ممن آتاهم الملك كاملا مثل :
داود عليه السلام :
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {2/251}
النمرود :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {2/258}
آل فرعون :
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {40/ 29}


أما في حال يوسف فقد قال (آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) ، كما قال في شأن آخرين :
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {4/53}


ومن دقة ألفاظ القرآن عموما نزداد يقينا في كونه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا