رؤية شهر رمضان
( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرءانُ هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَريضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على ما هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]
هذا الشهر الكريم موسم عظيم للعبادات، وفي مقدمتها القرآن؛ ولذلك سمي شهر القرآن؛ فيه أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي بدأ إنزاله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يكون فرحًا بالقرآن في هذا الشهر؛ لأنه كان يلتقي بجبريل فيعرض عليه القرآن مرة، وفي السنة التي توفي فيها عرضه مرتين، ولنا بهذه المناسبة أن نتكلم على مسألتين:
أولهما: في طريقة إثبات الشهر، فقد رأيتُ في تراجم بعض المحدثين في "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، وفي غيره؛ أنه كان من عاداتهم الجميلة الحسنة أن يتسابق العلماء والقضاة والأعيان للخروج لرؤية هلال رمضان في المكان المحدد لذلك من بغداد يرون أن ذلك كان عملًا شرعيًا وقربة يؤجرون عليها؛ فلو أحيينا هذه السنة الحسنة من سنن المسلمين؛ فخرج بعض القضاة والمفتين مع المتخصصين من الفلكيين إلى أحد المراصد المهيأة لهذا الغرض لرؤية هلال شهر رمضان؛ فيشترك الجميع في هذا المقصد الشرعي النبيل؛ يحتسبون الأجر والثواب؛ وبذلك يسهمون في حل هذا المشكل الشرعي؛ فإن الناس الآن ما عادت أمانتهم على عهدها الأول حتى نثق برؤيتهم، وإن تحققت الثقة بأمانتهم فأين الثقة بسلامة أبصارهم من الآفات، وإذا كان بصره ضعيفًا أو به نقص فقد يرى شعرة من حاجبه فيظنها الهلال، كما روي عن أنس رضي الله عنه أنه حضر مع جماعة لرؤية الهلال فيهم إياس بن معاوية؛ فأخبر أنس رضي الله عنه أنه رآه، ولم يره أحد من الجماعة؛ فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس فوجد عليها شعرة بيضاء قد نزلت من حاجبه فرفعها إياس بيده وقال له: أرني الهلال. قال: لا أراه(1)
فتطبيق مثل هذه السنة الحسنة من سنن المسلمين تجعل الرؤية خبرًا متواترًا تطمئن به النفوس ونأمن بذلك من الخطأ والاضطراب، وإن كان التواتر ليس شرطًا في هذا المجال، لكنه إذا حصل فهو أحسن.
المسألة الثانية: تتعلق بصلاة التراويح التي هي أعظم مناقب هذا الشهر الكريم؛ أنظر كيف يتهافت المسلمون على المسجدين الشريفين: المسجد الحرام والمسجد النبوي لحضور التراويح، ويستمتعون بذلك متعة روحية لا نظير لها؛ فلأجل التخفيف على المصلين والتيسير عليهم وفي الآية قوله ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] أَلْفتُ النظر إلى أمرين:
أولهما: يتعلق بالتلاوة؛ إذ الملاحظ أن أئمة الحرمين الشريفين يعتمدون في صلاة التراويح القراءةَ بالتَّوسُّط وربما قرأ بعضهم بالتحقيق، بينما المناسب للتراويح الحَدْرُ؛ أي الإسراع في القراءة مع إتقانها وعدم الإخلال بأحكام التجويد، والمعروف عند القراء أن درجات القراءة من حيث السرعة ثلاثة هي: التحقيق وهو المناسب للتعليم، والتَّوسُّط: أسرع قليلًا من التحقيق، والحَدْرُ: وهو الأسرع، وهو المناسب للتراويح، وكان الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله إمامُ المسجد النبوي يتبع الحَدْرَ في قراءته في التراويح، وهذا هو الأرفق بالناس؛ فإنَّ طولَ القيام صعبٌ ومُرْهِقٌ للمصلِّين خاصةً منهم كبار السن والمرضى.
ومسألة أخرى تتعلق بكمية الآيات المقروءة في التراويح، إنهم الآن يعتمدون قراءة جزءٍ أو أكثر كلَّ ليلة حتى يختم ليلة تسع وعشرين، والعجيب أنهم من ليلة العشرين يبدأون ختمةً أخرى للتهجد، وفي الغالب لا يكملونها؛ فلماذا لا تُقَسَّم الختمةُ على ثمانٍ وثلاثين بدلًا من تسع وعشرين، ففي العشر الأواخر عندما يعود الإمام للتهجد لا يستأنف ختمةً جديدةً ولكنه يواصل ختمةَ التراويحٍ، وهذا يجعل لكلِّ ليلةٍ أقلَّ من جزءٍ، وهذا أخفُّ على المصلِّين وأرفق بهم، وأظن أن التابعين بمكة والمدينة كانوا يفعلون ذلك؛ لأنهم كما ذكر محمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل"(2) كانوا يسمون صلاةَ التهجد "صلاةَ التَّعْقِيب"؛ أي يعتبرونها امتدادًا للتراويح ولا يسمونها تهجدًا؛ لأن التهجد هو الصلاة التي تكون بالبيت، وهي التي أشار إليها الفاروق رضي الله عنه بقوله: "والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" أي صلاة التهجد منفردًا في البيت حيث الناس نائمون أفضل من هذه التي يقومون بها في المسجد وهي التراويح، وإن كانت هذه شُرعت جماعةً في المسجد، وفيها من الفضائل اجتماعُ المسلمين على سماع القرآن وعلى الصلاة، وورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلته".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا في هذا الشهر الكريم لصيامه وقيامه وأن يتقبله منا، وأن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، آمين.
كتبه: عبد العزيز القارئ
في 1/9/1429هـ




(1) السبكي على بن عبد الكافي في "العَلَم المنشور في إثبات الشهور" طبع بمصر سنة
1329هـ/ ص 23.

(2) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي، والمختصر للمقريزي / طبع بلاهور سنة
1320هـ/ ص 106.