قد يبدو هذا السؤال في الوهلة الأولى قاسياً أو فيه تجاوز على الله تعالى، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى ليس لأحد من خلقه أن يعترض عليه، لأنه وحده صاحب الحكم والملك، يقضي كيف يشاء، ولا راد لقضائه وحكمه الكوني القدري.

ويكون هذا السؤال تعدياً على الله -جل وتقدس- إذا قصد به المعارضة والجحود، إذ أن هذا الباب -أقصد باب الاعتراض على حكمة الله الكونية- من أخطر الأبواب التي ضل فيها الناس، فما تزندق من تزندق، وما انتكس من انتكس؛ إلا بسبب هذه الموضوع، الذي هو مزلق أقدام البرية.. نسأل الله الثبات.

وهذا المقال ليس إلا إقرار وإذعان بحكم الله وإرادته المطلقة، ثم هو –أيضاً- تحقيق وإظهار –حسب الطاقة- لحكمة الله البالغة في حكمه الغالب.. سبحانه وبحمده.

ولذلك .. ولبيان بعض جوانب الحكمة الإلهية العظيمة في ذلك لا بد من بيان أسس ومبادئ لا غنى عنها لفهم هذا الباب الخطير.

* أسس ومبادئ مهمة في هذا الباب:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى عدل.

فهولا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه، وفي كل ما وضعه في محله، وهيأه له، وهو سبحانه له الخلق والأمر، فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما، وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده، وإذا كانت هذه سنته في أمره وشرعه؛ فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره فما أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيراً من أن لا يخلقه ولا يفعله، وبالعكس، وما كان عدمه خيراً من وجوده فوجوده شر وهو لا يفعله، بل هو منزه عنه والشر ليس إليه.

وبذلك ُيعلم أن الله تعالى لم يخلق هذه المؤذيات والآلام ظلماً، بل أوجدها بمقتضى عدله سبحانه، ووضعها في موضعها اللائق بها، ومن تمام عدله سبحانه أنه لم يخلق من المؤذيات والآلام ما عدمه خيراً من وجوده وإلا كان شراً، بل لم يخلق من ذلك من شيء إلا وهو عدل وخير.

ثانياً : أن الخير هو الغالب في الوجود.

فمن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر، ولو لم يوجد هذا الوجود الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر لفات الخير الغالب، وفوات الغالب شر غالب.

مثال على ذلك : النار فإن في وجودها منافع كثيرة وفيها مفاسد لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها وكذلك المطر، والرياح، والحر، والبرد، فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها ولكن خيرها غالب.

ثالثاً : أن الله رحيم لا يفعل إلا الخير.

فرحمته سبحانه غلبت الغضب، والعفو سبق العقوبة، والنعمة تقدمت المحنة، والخير في صفاته وأفعاله، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات، فإن آلم الإنسان أو الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم، أو إعداده لقوة وصحة وكمال أعظم، أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما.

رابعاً : أن الآلام ليست شراً محضاً .

فالآلام والأمراض وإن كانت شروراً من وجه، فهي خيرات من وجوه عديدة، فالخير والشر من جنس اللذة والألم، والنفع والضرر، وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به، فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل خير وحكمة ومصلحة، فهذه الآلام والمؤذيات قد تكون شراً بالنسبة إلى محلها، لكنها تكون خيراً إلى ما سواه، بل قد تكون خيراً على نفس المحل، فهي شر من وجه وخير من الوجه الآخر، فقطع يد السارق إن كان فيه ألم للسارق وضرر وشر، فهو خير للمجتمع كله والذي سينتفع بذلك، بل السارق نفسه له في ذلك الألم خير وهو كفارة له وعبرة .

خامساً : اللذات تنشأ من الآلام، والآلام من اللذات.

فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها، فسنة الله هي ترتيب الجزاء على العمل، واللذة بعد الألم، وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل، ومرارتها تعقب الحلاوة، فحلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام، والآلام تثمر اللذات، والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظاماً لا يخرج عنه شئ ألبتة، والشر مرجعه إلى اللذات وأسبابها، والخير المطلوب هو اللذات الدائمة والشر المرهوب هو الآلام الدائمة، فأسباب هذه الشرور وإن اشتملت على لذة ما، وأسباب تلك خيرات وإن اشتملت على ألم ما، فألم تعقبه اللذة الدائمة أولى بالإيثار والتحمل، من لذة يعقبها الألم الدائم.

سادساً : الآلام والمؤذيات خلقت للحكمة، ولم توجد عبثاً.

فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الآلام واللذات بدون حكمة، ولم يقدرهما عبثاً، ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما تثمر الأخرى، هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيراً محتاجا ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيواناً، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها داراً ممتزجاً ألمها بلذتها، وسرورها بأحزانها، وغمومها وصحتها بسقمها، حكمة منه بالغة سبحانه وتعالى.

وخلاصة هذه الأسس هي : القضاء الإلهي لا شر فيه بوجهٍ من الوجود ، لأنه علم الله وقدرته وكتابته ومشيئته ، وذلك خيرٌ محض وكمالٌ من كل وجه ، فالشر ليس إلى الرب تعالى بوجهٍ من الوجوه ، لا في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر ، ويكون شراً بالنسبة إلى محل ، وخيراً بالنسبة إلى محل آخر ، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجهٍ ، كما هو شر له من وجهٍ ، وهذا هو الغالب في هذا العالم ، فلله فيما خلقه الحكمة والعدل .

وعلى ضوء ذلك نفهم مدى ضعف أكثر الاعتراضات العقلية على الحكمة الإلهية، مثل قول البعض : أي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان ؟ وأي حكمة في خلق الشرور والمؤذيات والآلام ؟ وأي حكمة في خلق المضار والسموم ؟ وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإبقائهم إلى آخر الدهر ؟ أي حكمة في كل ذلك ؟ وغيرها من الاعتراضات.

وللجواب عن هذه الأسئلة .. نقول :

إن لله في كل ما خلقه وأمر به حكمة بالغة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وكما لا يحيط بعلمه أحد، كذلك لا يحيط بحكمته أحد سواه، ولكن يمكننا تلمس تلك الحكم بمقدار ما أنعم الله علينا من عقول ومدارك، ولعل من أهم الحكم فيما خلقه الله من آلام ومؤذيات وكفر وفسوق .. ما يلي:

(1)للتمحيص والابتلاء والامتحان:

إن أفضل العطاء وأجله على الإطلاق الإيمان وجزاؤه، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار كما قال تعالى : ) ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( .

فذكر سبحانه أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم، ليتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره والله يبيّن سر هذه الفتنة والمحنة، وهو تبيين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه، ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم، بل بمعلومه إذا وجد وتحقق، والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه.

فمن قال: "آمنت" امتحنه الله وابتلاه لتتحقق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه، وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلاء، فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداءً ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة، وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداءً ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها، والذين يصبرون عنها يتألمون بفقدها ابتداءً ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنها وتركوه منها .

إن الله سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض العالم العلوي والسفلي ليبلونا أينا أحسن عملاً ، وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء ، وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء ، فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر ، فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء جسراً يعبر عليه إليها ، ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها ، وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله ، فأمر ونهى على ألسنة رسله ، ووعد بالثواب والعقاب ، ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يتركهم هملا ، لا يثيبهم ولا يعاقبهم ، بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ، ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك .

(2) الآلام من طبيعة حياة الإنسان:

إن هذه الآلام والمؤذيات هي من طبيعة الحياة التي يحياها الإنسان ، وهي من طبيعة تركيب هذا العالم ن ولا يكون هذا العالم كما هو إلا بتلك الشرور الإضافية.

فالألمواللذة أمر ضروري لكل إنسان ، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون ، ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات ، فمن ظن أنه يتخلص من الآلام بحيث لا يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث ، فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم .

(3) الآلام فيها منافع للإنسان والحيوان وليس لله فيها منفعة:

إن هذه المؤذيات والآلام مثل : المجاهدة ، والصبر ، والاحتمال ، والمشاق ، ونحوها ، لا يعود منها منفعة على الله سبحانه فإنه غني عن العالمين ، لأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم ، بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم ، ونهاهم عما يعود مضرته وفساده عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصة بهم .

ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالاً للحيوان ، خصوصاً لنوع الإنسان ، فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه ، وإنما ابتلاه ليعافيه ، وإنما أماته لحييه، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب الكمال طوراً بعد طور إلى آخر كماله، بأسباب لا بد منها ، وكماله موقوف على تلك الأسباب ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ، ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم .

والآلام والمشاق إما أن تكون إحسان ورحمة ، وإما عدل وحكمة ، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها ، وإما لدفع ألم هو أصعب منها ، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات ، وإما أن يكون من لوازم العدل ، أو لوازم الفضل والإحسان ، فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ؛ عطلت ملزوماتها ، وفات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام .

(4) الآلام والمشاق جسر للكمالات وأعظم اللذات:

لأن الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق ، كالعلم ، والشجاعة ، والزهد ، والعفة ، والحلم ، والمروءة ، والصبر ، والإنسان ، وإذا كانت الآلام أسباباً للذات أعظم منها وأدوم منها ، كان العقل يقضي باحتمالها ، وكثيراً ما تكون الآلام أسباباً لصحة لولا تلك الآلام لفاتت.

ولذلك حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره ، وجعلها جسراً موصلاً إليها ، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات ، وجعلها جسراً موصلاً إليها ، ولهذا قال العقلاء : إن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن الراحة لا تنال بالراحة ، وأن من آثر اللذات فاتته اللذات .

(5) تحقيق العبودية لله:

فالله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع العبودية ، ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعادة فيه ، والحب فيه والبغض فيه ، والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه ، وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية ، وأعلى مراتبها ، وهو أحب أنواعها إليه ، وهو موقوف على ما لا يحصل بدونه ، من خلق الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به ، والأرواح التي تعاديه وتكفر به ، ويسلط بعضها على بعض ، لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه ، وتقرب أولياءه إليه بجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه ، وإذلالهم وكبتهم ومخالفة سبيلهم، فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ، ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها ، ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلى أي شئ كانت كلمته ودعوته تعلو ؟

فإن العلو أمرٌ لشيء يستلزم غالباً ما يعلى عليه ، وعلو الشيء على نفسه محال ، والوقوف على الشيء لا يحصل بدونه .

ولو لا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ، ولما نال أهله درجة الشهادة ، ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ، ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه ، فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لو لا وجود الكفار ؟

وتلك العبودية تقتضي درجة لا تنال إلا بها ، والرب تعالى يحب أن يبلغها رسله وأتباعهم ويشهدهم نعمته عليهم ، وفضله وحكمته ، ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه .

وذلك أن من عبوديته العتق ، والصدقة ، والإيثار ، والمواساة ، والعفو ، والصفح ، والصبر، وكظم الغيظ ، واحتمال المكاره ، ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه ، فلو لا الرق لم تحصل عبودية العتق ، فالرق من أثر الكفر ، ولو لا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ، ولو لا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة ، فلو سوَّى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شئ إليه ، ولأجلها خلق الجن والإنس ولأجلها شرع الشرائع ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل، وخلق الدنيا .

وذلك لأنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد ، وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه ، وما يتوقف عليه الشئ لا يوجد بدونه ، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه ، فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه ، فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يفغر ، وعلى من يتوب ، وعمن يعفو ، ويسقط حقه ، ويظهر فضله ، وجوده ، وحلمه ، وكرمه ، وهو واسع المغفرة ، فكيف يعطل هذه الصفة ، أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن يغفر له ، ومن يتوب وما يتاب عنه ؟ فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة ، فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال ، ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه .

(6) ظهور الآيات الدالة على عظمة الله .

فإنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك ، فلو لا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ، ولو لا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ، ولو لا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ، ولو لا كفر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة ، واهتدى من شاء الله ، فهلك بها من هلك عن بينة ، وحي بها من حي عن بينة ، وظهر بها فضل الله وعدله وحمته ، وآيات رسله وصدقهم ، ولو تعطلت تلك الأسباب لتعطلت هذه الحكم والمصالح والآيات وحمته وكماله المقدس يأبى ذلك وحصول الشئ بدون لازمه ممتنع ، وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية وبين ما رتب الله عليها من حم ومصالح لا تحصى ، وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر ، والبرد ، والمطر ، والثلج ، بالنسبة إلى مصالحها بكثير .

(7) التمحيص بالفتن .

وذلك أن الله سبحانه بمقتضى حكمته وحمده ، وأمره ونهيه ، وقضائه وقدره ، قد جعل بعض عباده فتنة لبعض ، فهو سبحانه جعل أوليائه فتنة لأعدائه ، وأعداءه فتنة لأوليائه ، والملوك فتنة للرعية ، والرعية فتنة لهم ، والرجال فتنة للنساء ، وهن فتنة لهم ، والأغنياء فتنة للفقراء، والفقراء فتنة لهم ، وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلاً ، وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار ، وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ، ونعمة سابغة ، وحكم نافذ ، وأمر ونهي ، وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده ، دال على كمال حكمته ومقتضى حمده التام . فلو لا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر، والرضى ، والتوكل ، والجهاد ، والعفة ، والشجاعة ، والحلم ، والعفو ، والصفح ، والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالات ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته ، وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور ، وإن كانت مرة المبادئ فلا أحلى من عواقبها ، ووجود الملزم بدون لازمه ممتنع ، ولذا كان أفضل العطاء وأجله على الإطلاق الإيمان وجزاءه وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار .

قال تعالى : ) آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه أن الله لغني عن العالمين( .

فذكر سبحانه أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب ، والمؤمن من الكافر، ومن يشكره ويعبده ، ممن يكفره ويعرض عنه ، ويعبد غيره… سبحانه وبحمده له الحكمة البالغة.