بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين




أولا : القرآن الكريم :
القرآن الكريم هو كلية الشريعة ، وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور البصائر والأبصار ، فلا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه . وهذا كله معلوم من الدين علمًا ضروريًّا ، لا يحتاج إلى استدلال عليه وقد أوفى القرآن الكريم على الغاية في بيان العقيدة وتصحيحها في النفوس ، على أتم وجه وأكمله ، وبخاصة في السور المكية ، إجمالا وتفصيلا . وكان أول ما أنزل وحيًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هو سورة العلق : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ )



وهي تتضمن أصول الدين والعقيدة من الأدلة العقلية والفطرية والشرعية على وجود الله تعالى وتوحيده ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإثبات البعث .وفي سائر سور القرآن الكريم ، نجد السورة الواحدة تجمع أركان العقيدة بأصول عامة تبين أركان الإيمان - وأعظمها الإيمان بالله تعالى- وما يتفرع عن هذه الأركان وينضم إليها ، أو يكون من مقتضياتها ومستلزماتها ، وتضع - كذلك - الإجابة الصحيحة الحاسمة على الأسئلة التي تفسر للإنسان أصل وجوده ونشأته ، وغايته التي يسعى إليها ، والمصير الذي ينتهي إليه بعد رحلته في هذه الحياة ، وتحدد علاقته بالله تعالى وبالكون وبالحياة والأحياء من حوله .يقول الإمام الشاطبي ، - رحمه الله - :( وغالب السور المكية تقرر ثلاثة معان ، أصلها معنى واحد ، وهو الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده :أحدها : تقرير الوحدانية لله الواحد الحق . غير أنه يأتي على وجوه ، كنفي الشريك بإطلاق ، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة ، من كونه مقربًا إلى الله زلفى ، أو كونه ولدًا ، أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة .والثاني : تقرير النبوة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه رسول الله إليهم جميعًا ، صادق فيما جاء به من عند الله . وهذا المعنى وارد على وجوه أيضًا كإثبات كونه رسولا حقًّا ، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو يعلمه بشر ، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم .والثالث : إثبات أمر البعث والدار الآخرة ، وأنه حق لا ريب فيه ، بالأدلة الواضحة ، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به ، فرد بكل وجه يلزم الحجة ، ويبكت الخصم ويوضح الأمر .فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر ، وما ظهر- ببادئ الرأي- خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر .ويتبع ذلك : الترغيب والترهيب ، والأمثال والقصص ، وذكر الجنة والنار ، ووصف يوم القيامة ، وأشباه ذلك ) . وإذا كانت العقيدة هي الموضوع الأساسي الرئيس في السور المكية ، فإنها كذلك موضوع رئيس في السور المدنية التي نزلت لتعالج قضايا تشريعية تعرض من خلال هذه العقيدة ومقتضى الإيمان بالله تعالى ، كـما ألمحنا إليه فيما سبق . ومن هنا ، فإن الحديث عن العقيدة ( لم ينقطع في المدينة ، لأنه ليس حديثًا يذكر في مبدأ الطريق ثم ينتقل منه إلى موضوع آخر ، إنما يذكر في مبدأ الطريق ثم ينتقل معه إلى كل موضوع آخر) .


ثانيًا : السنة النبوية :
وإذا كان القرآن الكريم هو مصدر الدين ، عقيدة وشريعة ، فإن السنة النبوية مثل القرآن في ذلك ؛ لأنها وحي من الله تعالى ، فقد وصف الله سبحانه ما يصدر عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه وحي ، فقال : (
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ).
وعن حسان بن عطية ، قال : كان جبريل - عليه السلام - ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة فيعلمه إياها كـما يعلمه القرآن .
وأخرج البيهقي في (المدخل) عن طاوس : أن عنده كتابًا من العقول (الديات) ، وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدقة وعقول فإنما نزل به الوحي)

فجعل ما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما نزل به الوحي ، مع أنه لم ينزل بلفظه في القرآن الكريم الذي هو وحي متلو .
وذلك أن الوحي نوعان :
أحدها : وحي متلو ، وهو القرآن المنزل على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه ، وهو المتعبد بتلاوته .
والثاني : وحي غير متلو ، وهو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله - عز وجل- .
فقد قلد الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمانة التبليغ والبيان فقال : (

وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
( ، وقال تعالى : ( وَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .
ومما يدل على أن السنة بمثابة القرآن في هذا : أن الله تعالى امتن على المؤمنين ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ليعلم الناس الكتاب والحكمة فقال : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ).
وقال تعالى مخاطبا أمهات المؤمنين : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) .
فقال غير واحد من السلف : الحكمة هي السنة ؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواج النبي ، - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهن ، سوى القرآن هو السنة ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه )
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله- بعد أن ساق الآيات الكريمة التي يأمر الله تعالى فيها باتباع الكتاب والحكمة ، ويمتن بهما علينا ، قال : ( ذكر الله تعالى الكتاب ، وهو القرآن ، وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكـمة سنة رسول الله . وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ، لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة ، فلم يجز- والله أعلم- أن يقال : الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله ، وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقولي : فرض ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله ، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به ، وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد .

وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصول الدين والعقيدة أحسن بيان ،
ودل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمـون المطـالـب الإلهية ، وبهـا يعلمـون إثبـات ربوبية الله ، ووحدانيته وصفاته ، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية . بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية- وإن كان لا يحتاج إليها ، فإن كثيرا من الأمور يعرف بالخبر الصادق- ومع هذا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الأدلة العقلية الدالة عليها ، فجمع بين الطريقين : السمعي ( الشرعي ) و ( ا لعقلي ) .
وبذلك يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نص على كل ما يعصم الأمة من المهالك نصا قاطعا للعذر ، ولا يمكن أن يبين للناس أمور حياتهم وما يحتاجونه في الشريعة ثم يترك الجانب الرئيسي وهو العقيدة .
قال أبو ذر - رضي الله عنه - : ( لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما )
وقيل لسلمان الفارسي - رضي الله عنه - : ( قد علمكـم نبيكـم - صلى الله عليه وسلم - كل شي حتى الخراءة ؟ فقال : أجل . . . ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) في أحاديث كثيرة وآثار- غير هذه - تبين أن مسائل العقيدة من أول ما يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته . وفي سنته ما يقطع الحجة ، ويوضح المحجة ، ويوفي على الغاية ، هداية وشفاء للصدور ، وبيانا للحق . هذا ، وقد سبقت الإشارة إلى أن السنة هي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويندرج فيها الأحاديث الحسنة التي لـم تبلغ رتبة الصحيح ، ولذلك ينبغي التوثق والتثبت من صحة الحديث وقبوله عند الاستشهاد به والاحتجاج وبخاصة في قضايا الاعتقاد ، فإن العقيدة لا تبـنى على الأحاديث الضعيفة .
وقد يكون هذا الحديث الصحيح متواترا قطعي الثبوت ، وقد يكون حديثا مشهورا مستفيضا يأخذ حكم المتواتر ، وقد يكون حديث آحاد . وكلها في أصل الاحتجاج بها سواء عند صحتها ، ينبغي الخضوع لها وقبولها على الرأس والعين ، دون تمحل ولا تكلف ، ودون التماس الأعذار لردها وعدم العمل بها ، فإن (جميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرع والبيان كله حق) ، وإنما ينبغي- بعد ذلك - النظر في المنهج الصحيح للفهم والاستدلال وإعمال قواعد الاستنباط وضوابط الترجيح عند التعارض مثلا .
وأما الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يجوز الاحتجاج بها ، بل ولا تجوز روايتها أصلا إلا لبيان حالها ، وإنما ينبغي الإعراض عنها ، لأن العقيدة لا تثبت بالأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة . وإن من أعظـم أسبـاب الضـلال والانحـراف عـن السنـة والعقيـدة الصحيحة : الاحتجاج بالأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة وبناء الاعتقاد عليها ، وبخاصة فيما يتعلق بمباحث الألوهية والصفات ونحوها


يُتبع