قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته " وقال صلى الله عليه وسلم:

" ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه "

فالكبر والعجب داءان مهلكان ، والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان ، وهما عند الله ممقوتان بغيضان ، فإنهما من قبائح المرديات.

أولا: الكبر.

لقد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تعالى:

" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق "

وقال عز وجل:

" كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار"

وقال تعالى:

" واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد"

وقال تعالى:

" إنه لا يحب المستكبرين "

وقال تعالى:

" لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً "

وقال تعالى:

" إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "

وذم الكبر في القرآن كثير.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان "

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي "

وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوماً - للطير والإنس والجن والبهائم- : اخرجوا ، فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن ، فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات ، ثم خفض حتى مست أقدامه البحر، فسمع صوتاً: لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته.

وقال صلى الله عليه وسلم:

" تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها "

وقال صلى الله عليه وسلم:

" بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى ، بئس العبد عبد تجبر واختال ونسى الكبير المتعال ، بئس العبد عبد غفل وسها ونسى المقابر والبلى بئس العبد عبد عتا وبغى ونسى المبدأ والمنتهى "

وقال عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال: إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين ، أنهاكما عن الشرك والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله ، فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح منهما ، ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليها لقصمتها ، وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء "

وقال صلى الله عليه وسلم:

" إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ المتكبرون "

حقيقة الكبر:

ينقسم الكبر إلى باطن وظاهر.
فالباطن هو: خلق في النفس.
والظاهر هو: أعمال تصدر عن الجوارح.

واسم الكبر بالخلق الباطن أحق ، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال الكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به ، ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال ، فعند ذلك يكون متكبراً ، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر، بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر، لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر، بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه ، فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك ، فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" أعوذ بك من نفخة الكبرياء "

فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين - وهو الاستعظام - كبر وانتفخ وتعزز. فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات ، وتسمى أيضاً عزة وتعظماً.
ثم هذه العزة تقتضي أعمالاً في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبراً وهي:
1- مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته ، ورأى أن حقه أن يقوم ماثلاً بين يديه.
2- وإن اشتد كبره فإن كان أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلاً للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته.
3- فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه ، وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول، وإن وعظ عنف في النصح ، وإن رد عليه شيء من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم ، وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً لهم واستحقاراً.
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة.
فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة ، وفيه يهلك الخواص من الخلق ، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوام الخلق ، وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم:

" لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر" ؟

وإنما صار حجاباً دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة ، والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها ، لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز، ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز، ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز، ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز، ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز، ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز، ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز: ولا معنى للتطويل فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه ، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفاً من أن يفوته عزه ، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه. والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة. وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى:

" والملائكة باسطو أيديهم ".... إلى قوله " وكنتم عن آياته تستكبرون "

ثم قال تعالى:

" ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين "

ثم أخبر أن أشد أهل النار عذاباً أشدهم عتياً على الله تعالى فقال:

" ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً "

وقال تعالى: " فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون "

وقال عز وجل:

" يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين "

وقال تعالى:

" إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "

وقال تعالى:

" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق "

قيل في التفسير: سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم ، وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت. وقال ابن جريج: سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها.

المتكبر عليه:

أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه ، وقد خلق الإنسان ظلوماً جهولاً ، فتارة يتكبر على الخلق ، وتارة يتكبر على الخالق.

فإذن التكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:

القسم الأول: التكبر على الله.

وذلك هو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان مثل ما كان من نمرود فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى عن جماعة من الجهلة. بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره ، فإنه لتكبره قال: أنا ربكم الأعلى ، إذ استنكف أن يكون عبداً لله ، ولذلك قال تعالى:

" إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "

وقال تعالى:

" لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون "

وقال تعالى:

" وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ".

القسم الثاني: التكبر على الرسل.

من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس ، وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه ، وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للإنقياد للحق والتواضع للرسل ، كما حكى الله قولهم:

" أنؤمن لبشرين مثلنا "

وقولهم:

" إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون"

وقال فرعون فيما أخبر الله عنه:

" أو جاء معه الملائكة مقترنين "

وقال الله تعالى:

" واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق "

فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعاً. قال وهب: قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك، قال: حتى أشاور هامان ، فشاور هامان فقال هامان:بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاستنكف عن عبودية الله وعن اتباع موسى عليه السلام. وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم:

" لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم "

قال قتاده: عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي ، طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا؟

فقال تعالى:

" أهم يقسمون رحمة ربك "

وقال الله تعالى:

" ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا "

أي استحقاراً لهم واستبعاداً لتقدمهم. وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نجلس إليك وعند هؤلاء؟ وأشاروا إلى فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم ، وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى:

" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ....إلى قوله ..ما عليك من حسابهم "

وقال تعالى:

" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا "

ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذ لم يروا الذين ازدروهم فقالوا:

" ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار"

قيل يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً والمقداد رضي الله عنهم ، ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقاً ، ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبراً عنهم:

" فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به "

وقال تعالى:

" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا "

وهذا الكبر قريب من التكبر على الله عز وجل وإن كان دونه ، ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله.

القسم الثالث: التكبر على العباد.

وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره ، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم ، وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضاً عظيم من وجهين:

أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟ فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله ، ومثاله: أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على سريره ، فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال! وما أشد استجراءه على مولاه وما أقبح ما تعاطاه! وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى:

" العظمة إزراري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته "

أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي ، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي ، وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جني عليه ، إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره ، وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه ، فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة والكبرياء عليهم ، فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه. نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمرود وفرعون ، هو الفرق بين منازعة الملك في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك.
كما أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه ، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال. وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي:
فالديني هو: العلم والعمل.
والدنيوي هو: النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار.

فهذه سبعة أسباب:

الأول: العلم:

وما أسرع الكبر إلى العلماء! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

" آفة العلم الخيلاء "

فلا يلبث العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام ، فإن بدأه واحد منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويداً عليه يلزمه شكرها ، واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله ، وأنه ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكراً له على صنيعه ، بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه ، فإن قصر فيه استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه ، وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروف لديهم واستحقاق حق عليهم ، هذا فيما يتعلق بالدنيا.
أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم ، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ، وهذا بأن يسمى جاهلاً أولى من أن يسمى عالماً ، بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وهذا العلم يزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً ، ويقتضي أن يرى كل الناس خيراً منه لعظم حجة الله عليه بالعلم ، وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم. ولهذا قال أبو الدرداء: من ازداد علماً ازداد وجعاً وهو كما قال ، وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه ، وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه ، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن.

قال الله تعالى:

" إنما يخشى الله من عباده العلماء "

الثاني: العمل ( والعبادة ).

وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا.
أما في الدنيا: فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ، ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ - إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء - وكأنهم يرون عبادتهم منة على الحق.
وأما في الدين: فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجياً وهو الهالك تحقيقاً - مهما رأى ذلك - قال صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق بالله مغتر بالله آمن من مكره غير خائف على سطوته، وكيف لا يخاف؟ ويكفيه شراً احتقاره لغيره.
قال صلى الله عليه وسلم:

" كفى بالمرء شراً أن يحقر أخاه المسلم "

وكم من الفرق بينه وبين من يحبه الله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجوا له ما لا يرجوه لنفسه ، فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله ، فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم ، كأنه مترفع عن مجالستهم ، فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل! وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال! كما روي أن رجلاً في بني إسرائيل كان يقال له: خليع بني إسرائيل -لكثرة فساده- مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل ، وكان على رأس العابد غمامة تظله فلما مر الخليع به فقال الخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل ، فلو جلست إليه لعل الله يرحمه! فجلس إليه فقال العابد: أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلي؟ فأنف منه وقال له: قم عني! فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد.
وفي رواية أخرى: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع.
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم ، فالجاهل العاصي إذا تواضع هيبة لله وذل خوفاً منه فقد أطاع الله بقلبه ، فهو أطوع لله من العالم المتكبر والعابد المعجب ، وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من قتلهم ومنهم من ضربهم ، ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا ، بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ، ثم الجاهل المغرور يظن أنه أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به. ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين. وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع عاصفة: ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخصلوا.
ومن اعتقد جزماً أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جمع عمله ، فإن الجهل أفحش المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله ، وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلاً ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا: يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك ، فقال: " إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان ، فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك " قال: اللهم نعم فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه. وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله.
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلبه يرى نفسه خيراً من غيره ، إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل فعل من يرى غيره خيراً من نفسه ، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها بالكلية.

الدرجة الثانية: أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه ، وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم ، وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم ولم يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس ولا في الخد حتى يصعر ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم ، إنما الورع في القلوب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" التقوى ههنا "

وأشار إلى صدره فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقاً وأكثرهم بشراً وتبسماً وانبساطاً. ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى لك ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:

" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين "

وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم.

الدرجة الثالثة: وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل.

أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد ، من هو وما عمله ومن أين زهده؟ فيطول اللسان فيهم بالتنقص ، ثم يثني على نفسه ويقول: إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل ، وأختم القرآن في كل يوم ، وفلان ينام سحراً ولا يكثر القراءة ، وما يجري مجراه ، وقد يزكي نفسه ضمناً فيقول: قصدني فلان بسوء فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض ، أو ما يجره مجراه ، يدعي الكرامة لنفسه. وأما مباهاته: فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي ، وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم ، وكذلك يشتد في العبادة خوفاً من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله.
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول: أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من الشيوخ فلاناً وفلاناً ، ومن أنت وما فضلك ومن لقيت؟ وما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه. وأما مباهاته: فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ ، وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ، ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ، ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه.

فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل ، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه؟ فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"

كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار؟ وإنما العظيم من خلا عن هذا ، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظم وتكبر، والعالم هو الذي فهم أن الله تعالى قال له: إن لك عندنا قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لها قدراً فلا قدر لك عندنا. ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم علي كذب ، ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدراً. فهذا هو التكبر بالعلم والعمل.

الثالث: التكبر بالحسب والنسب.

فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً ، وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم ، وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره: يا نبطي ويا هندي ويا أرمني من أنت ومن أبوك؟ فأنا فلان ابن فلان ، وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي؟ ومع مثلي تتكلم؟ وما يجري مجراه. وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحاً وعاقلاً ، إلا أنه قد لا يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال ، فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما روي عن أبي ذر أنه قال: قاولت رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

" يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل"

فقال أبو ذر رحمه الله: فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي.

فانظر كيف نبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى لنفسه فضلاً بكونه ابن بيضاء وأن ذلك خطأ وجهل؟ وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل؟
ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر: أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

" افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة من أهل النار وأنت عاشرهم "

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر"

الرابع: التفاخر بالجمال.

وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

" قد اغتبتها "

وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر، فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت.

الخامس: الكبر بالمال.

وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم ، فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه ويقول له: أنت مد ومسكين وأنا لو أرد لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك ، ومن أنت؟ وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك؟ وأنا أنفق في اليوم ما لا تأكله في سنة؟ وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر، وكل ذلك جهل منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى:

" فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً "

حتى أجابه فقال:

" إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً "

وكان ذلك منه تكبراً بالمال والولد ، ثم بين الله عاقبة أمره بقوله:

" يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "

ومن ذلك تكبر قارون إذ قال تعالى إخباراً عن تكبره:

" فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم "

السادس: الكبر بالقوة.

وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف.

السابع: التكبر بكثرة الأنصار.

والأتباع والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ، ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود ، وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين.
وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن في نفسه كمالاً أمكن أن يتكبر به ، حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفته وقدرته في صنعة المخنثين ، لأنه يرى ذلك كمالاً فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالاً، وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالاً وإن كان مخطئاً فيه.
فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض ، فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به ، أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده. وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى ، كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه.

نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير.

( إقتباس مع تصرف )