من الصالحين من يتوب من نسبة الطاعات إلى نفسه ، لأنه لو رأى نفسه أنه عبد أو فعل ولم ينظر إلى توفيق الله ومعونة الله وحول الله وطول الله ، فهذا ذنب يحاسب عليه الله لأنه أمرنا أن نقول في كل ركعة من ركعات الصلاة مقرين ومعترفين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة5
نستعين على العبادة بقوة الله وحول الله وطول الله فلو تخلى الله بعنايته ومعونته عنا طرفة عين هل يستطيع واحد منا أن يقول سبحان الله؟ من يستطيع بدون معونة من مولاه ، هل يستطيع أن يكيف جهازه ونفسه ويقف بين يدي الله ويتجه إلى القبلة ويستحضر ألفاظ الصلاة وكلمات الحمد لله رب العالمين ويناجي بها مولاه؟ كيف بغير معونة من الله وحول من الله وقوة من الله؟ ولو تُرك الإنسان ومهارته وشطارته وتخلت عنه القوة الإلهية والمعونة الربانية ، ماذا يفعل؟
لن يستطيع أن يفعل قليلاً ولا كثيراً بل إنه لن يستطيع أن يحرك قدماً أو يرفع إصبعاً أو يطرف طرفة أو ينطق اللسان منه بكلمة لأن كل ذلك لا يتحرك إلا بأمر من يقول للشيء كن فيكون ، ولذلك فإن هؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله بأنفسهم وأنهم هم الذين يعبدون ويطيعون ربما يختبرون يوم الدين في قول الله {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} القلم42
لأنه لا معونة هناك فكيف يسجد؟ وكيف يعبد الله؟ ويلزم للإنسان الذي وصل لأعلى درجات العبادة ، أن يتوب من نسبة العبادة إلى ذاته ومن المباهاة بها ومن الفخر بفعلها لأنه يرى أن الفاعل هو الله ويكفيه شرفاً وفخراً أن الله أجرى عليه حركات العبادات وجعله محلاً للوقوف بين يدي الله فيكفيني فخراً أن يوقفني بين يديه ويوجهني لمناجاته بكلامه أو يأخذني إلى بيته ويهيئ لي الأسباب لأطوف حول حضرته وأنا أطوف حول بيته المبارك ، ماذا لي في ذلك كله إلا معونة الله وتوفيقه ،كل ما ذكرناه هي مقامات في التوبة يتوب منها الصالحون
ومنهم كذلك من يتوب من وجوده بالكلية ، لأن الإنسان إذا رأى لنفسه وجود مستمد من ذاته فقد وقع في شرَك في التوحيد لله ، فنحن نستمد منه القوة ونستمد منه الحياة ونستمد منه القدرة ونستمد منه الإرادة ونستمد منه العلم ، ولولا ذلك ما استطاع واحد منا أن يصنع بنفسه أو بجسمه شيئاً قليلاً أو كثيراً
ولذلك يروى أن رجلاً من العارفين دخل ساحة فضله فوجد إخوانه السابقين في العبادة والطاعة يرون أنفسهم على غيرهم فوقف بينهم عند إقامة الصلاة وقال بصوت ليسمعهم الحقيقة : "بك... لك.... أصلي" ، وبك يعني بقوتك ومعونتك وتوفيقك ، لك أصلي :
علمت نفسي أني كنت لا شيء فصرت لا شيء في نفسي وفي كلي
به تنزه صرت الآن موجـوداً به وجودي وإمدادي به حـولي
ومن أنــا عدم الله جملنيى فصرت صورته العليا بلا نيل

فهناك من يتوب من طاعاته ، وهناك من يتوب عن وجوده ، وهناك من يتوب من شهوده.
وهناك حتى من يتوب من التوبة إذا رأى نفسه هو الذي تاب ومثل هذا يحتاج أن يراجع نفسه بين يدي الكريم الوهاب – ويقول في ذلك رجل للسيدة رابعة العدوية : إني إرتكبت ذنوباً كثيرة فهل لو تبت يتوب الله عليَّ ، قالت: لا بل لو تاب الله عليك لتبت ، قال : وما الدليل؟ قالت: قول العزيز الحكيم { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} التوبة118
كيف يتوب عليهم ليتوبوا؟ وما الذي يجعل الإنسان يتوب إلى الله؟ إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، فالخواطر التي تتوارد على القلب من الذي يرسلها ويمررها عليه؟ هو الله فإذا مرر على قلبي خواطر طيبة شعرت بها أنني قصرت أو أنني أخطأت أو أنني غفلت هنا تتحرك نفسي ويتحرك جسمي للرجوع إلى الله والتوبة إلى الله ، إذاً الفضل في هذه التوبة لمن؟ لمن أورد عليَّ الخواطر الإلهية التي أشعرتني وجعلتني أجزم أنني غير طبيعي وأنه يجب عليَّ أن أرجع إلى الله
إذاً البداية من الله ، لكن هل أنا الذي آتي بالخواطر إلى قلبي وأمررها عليه ، إن الخاطر من الله وكم في الوجود من يرتكب الذنوب ويفتخر بها بين أقرانه ويرى أنها ليست عيوب بل أحياناً يتباهى بها ويتفاخر بها بين الأنام وهذا لشدة غضب الله وسخطه عليه، ولذلك قال حبيبي وقرة عيني صلى الله عليه وسلم {يَا أَبَا ذَرَ إِنَّ المُؤْمِنَ يَرٰى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ تَحْتَ صَخْرَةٍ، يَخَافُ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْكَافِرُ يَرى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ ذُبَابٌ يَمُرُّ عَلى أَنْفِهِ}[1]
فالثاني لم يتوب؟ فإنه لا يرى ذنبه أما الأول قد لا ينام ولا يذوق طعام ولا يشعر بأي حلاوة على مدى الأيام ، إذا قال كلمة أحزنت شخصا حتى يعلم أن هذا الشخص قد رضي عنه ، أو أخذ حقاً من عبد من عباد الله ولم يرده إليه ، ما الذي يشعر القلب بالوجل والخوف؟ الله عز وجل هو الذي يقول {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} الشمس8
هو الذي يورد هذه الموارد على النفس


{1} جامع الأحاديث و المراسيل والديلمى عن أَبي ذَرَ رضى الله عنه ، وتمامه ((يَا أَبَا ذَرَ كُنْ لِلْعَمَلِ بِالتَّقْوٰى أَشَدَّ اهْتِمَاماً مِنْكَ بِالْعِلْمِ، يَا أَبَا ذَرَ إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً جَعَلَ الذُّنُوبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُمَثَّلَةً ._ الحديث أعلاه._ ، يَا أَبَا ذَرَ لاَ تَنْظُرْ إِلٰى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَلٰكِن انْظُرْ إِلٰى عِظَمِ مَنْ عَصَيْتَ، يَا أَبَا ذَرَ لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ أَشَدَّ مِنْ مُحَاسَبَةِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، فَيَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ، وَمِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ، وَمِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ؟ أَمِنْ حِلَ ذٰلِكَ، أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟».