حبهم له صلى الله عليه وسلم
أصل الحب موافقة الحبيب لمن يحبه ، إذ تجد دواعيه رضا في نفسه وراحة في قلبه ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توافرت عنده دواعي المحبة وأسبابها ، فقد أحبه أصحابه حبا ضرب به المثل في التاريخ ، حتى عد ذلك من معجزاته ، بل قيل لو لم تكن له معجزة صلى الله عليه وسلم سوى حب أصحابه له لكفى ، وعلى الرغم من ذلك " أي على الرغم من توافر هذه الدواعي وقيام الدلائل عليها " فقد جعل الله تعالى حبه فرضا على المسلمين وجعله درجة سامقة من درجات العبودية لا يكمل إيمان العابد إلا به ، فقال صلى الله عليه وسلم " لن يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه ". فقال عمر بن الخطاب لأنت أحب إلى من مالي وولدي يا رسول الله إلا نفسي فقال " لا يا عمر إلا أن أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر " أنت أحب إلي من مالي وولدي ونفسي التي بين جنبي يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم " الآن يا عمر " ( البخاري 6257 )
وهنا لابد أن يعتمل في العقل سؤال هو :- إذا كانت أسباب الحب ومبرراته متوافرة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمر الله به ؟ والجواب هو أن ذلك لسببين :
الأول : لاتباعه صلى الله عليه وسلم وعبودية الله سبحانه وتعالى على منهجه وطريقته دون أن يكون للهوى دخل في ذلك الإتباع وتلك العبودية . فذلك قوله تعالى " ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران 31 ، وما ذاك إلا لأن رسول الله هو الصورة المجسدة النابضة لأوامر الله تعالى ونواهيه وعبوديته سبحانه كما يحب وكما يريد أن يعبد به . فكان لابد أن تكون عبودية المسلمين لله تعالى على نمط هذه الصورة ومثلها بغير زيادة ولا نقصان ، وعلى قدر إتقان المسلم لهذه الصورة تكون درجة العبودية ، وما كان ذلك ليتحقق إلا بالحب الذي هو منشأه القلب ، وهذا الوجه يشترك فيه المسلمون جميعا الأولون منهم والمتأخرون ، ولكن يمتاز الأولون برؤية هذه الصورة ، فأدوا مثلها فوصلوا إلى الدرجة الأعلى للعبودية . وامتاز الذين بعدهم بقرب عهدهم بعهده صلى الله عليه وسلم ورأوا من رأوه ، فأدوا مثلما أدوا فوصلوا إلى الدرجة العالية من العبودية دون الأعلى ، وهكذا قلت الدرجات كلما بعد العهد وكلما تطاولت القرون وبعدت الصورة ،
إلا أن رحمـــة الله ورسوله تركتا للمسلمين ميراثا من العلم بالله سبحانه وتعالى ، وبه صلى الله عليه وسلم يتوارثونه جيلا بعد جيل وقرونا تعقبها قرون ، وبهذا العلم تبقى صورته صلى الله عليه وسلم مجسدة في عقول البشر وأذهانهم مهما بعد بهم الزمن ومهما اختلفت الألسن والألوان . وكل ذلك منشأه الحب . بل يتفاوت الثواب والعقاب بهذا القدر من البعد والاختلاف ، حيث يزيد الثواب لمن اتبعوه حق الإتباع ولم يروه عمن رأوه واتبعوه ، حتى أنه صلى الله عليه وسلم وصف قوما لم يروه بأنهم أحبابه ، وعمل الواحد منهم يعدل عمل خمسين من الصحابة ، فقال " إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله وزاد بعضهم أجر خمسين منكم (بن حبان 385 )
الثاني : حبه لذاته صلى الله عليه وسلم ولشخصه ، وذلك بغرض حمايته والذود عنه وفداءه بالأب والأم والروح والمال وبكل عزيز وغال وتفضيله وإيثاره على ما سواه ، وهذا النوع من الحب هو أحد الأسباب التي اتخذها الله سبحانه وتعالى حماية لنبيه وعصمته حتى يتمكن من أداء رسالته ووصول دينه إلى العالمين ، لما تتصف به هذه الرسالة من الكمال والشمول والعموم والخلود ، وهذا هو الوجه الإعجازي الذي اندهش له الناس قديما وحديثا ، وهو وجه اختص به الصحابة الأوائل فقط ممن رأوا رسول الله وعاشوا معه ، وحاربوا وخاضوا معه سنوات الكفاح والجهاد والسراء والضراء حتى مكن الله لهم دينهم الذي ارتضى ، وبقي هذا الحب مستقرا ومستودعا في قلوبهم وأفئدتهم يعلمونه لخلفهم وعقبهم ، حتى انتشر دين الله وبلغ ما بلغ ،
أما المتأخرون من بعدهم فإنهم وإن كان حبهم لرسول الله قاصر على التبعية ، والتبعية هي الدليل على حبهم ، بما في ذلك من أمنيات تخالج قلوبهم ، ووجل تخشع له جوارحهم كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، فترق له الأفئدة وتهفو إليه الأرواح وتشتاق إليه النفوس إلا أن ذلك لا يمنع الفداء والإيثار والتضحية إذا وجب الأمر حتى وإن زالت العلة الموجبة لذلك وهي موته صلى الله عليه وسلم ، لذا يقول القاضي عياض في الشفاء " فالقيام بحق النبي واجب ذبا عن مقام النبوة وعظيم منزلتها وحماية عرضه الشريف صلى الله عليه وسلم لا يتهاون في ذلك مسلم , لأن حمايته ونصرته عما يؤديه حيا أو ميتا واجب على كل مؤمن , ولكن إذا قام بهذا المطلوب من الحماية والذب عنه من ظهر به الحق بقدرته على إجراء حكمه وفصلت به القضية وبان به الأمر وأقيم عليه ما يستوجبه سقط عن بقية الناس الفرض الذي وجب عليهم لأنه فرض كفاية لا فرض عين , وبقي الاستحباب في تكثير الشهادة على من صدر منه مثل ما صدر والتحذير منه . واستدل القائلون بذلك ببيان حال المتهم بالكذب في الحديث النبوي ، فالاعتناء بذاته الشريفة أوجب منه بحديثه صلى الله عليه وسلم .. " وذلك إلى الحد الذي قال به أبو عبيد القاسم بن سلام نقلا عن بن حجر : من حفظ شطر بيت ممن هجى به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر إن رضي بذلك أو استحسنه , بل وحرم كتابة ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وقراءته وحده أو مع غيره وحرم تركه دون محو أو إزالة بحرق أو نحوه ، لذا فقد أسقط السلف الأوائل من أحاديث المغازي والسير من هذا سبيله وتركوا روايته صونا لألسنتهم من النطق بمثله وكتابته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة .




حبه صلى الله عليه وسلم لهم

ولكن : إن يكن حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجز ومبهر في ذاته رغم كونه فرض وواجب عليهم وعلى كل مسلم ومسلمة ، فأن الأمر الأعظم إعجازا هو حبه صلى الله عليه وسلم لهم . لأن اجتماع الناس مهما قلوا أو كثروا على حب شخص واحد أمر مقبول ومتصور ، خاصة إذا كان هذا الشخص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما أن يحب شخص واحد كل هذه الجموع على كثرتها حتى يظن الواحد منهم أنه المفضل والأثير لديه . فهذا هو العجيب وهذا هو المبهر حقا . ولقد أحب رسول الله صحابته حبا عادلا يصعب معه تحديد المفضل عنده دون الأخر ، حتى روي عن عمرو بن العاص ‏أنه سأل ‏
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه – طمعا أن يكون هو أحبهم إليه – فقال له صلى الله عليه وسلم ‏عائشة . وكأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ما يدور في خلجات عمرو – بل كان يعلم ذلك يقينا – فلم يشأ أن يفاجئه فيسبب له حرجا فاختار حبيبته عائشة – وهي فعلا الأحب إلى قلبه صلى الله عليه وسلم -و لأن ذلك لن يكون محل توقف عند عمرو بن العاص . إلا أن عمرو بن العاص حدد مقصده من السؤال ف‏قال من الرجال ؟ فلم يكن أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يجيب فقال أبوها (الترمزي 3821) . فطمع عمرو أن يكون هو التالي فساله ثم من ؟ قال صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب . عندئذ أحجم عمرو استحياءا وخجلا ورهبة من أن يكون هو آخر من يحبهم صلى الله عليه وسلم . والذي لا شك فيه أن سؤال عمرو إنما نبع من تصور استقر في فؤاده وهو أنه هو المحبب والمفضل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وماذاك إلا لأن النبي لم يكن يفرق بين صحابته في مجلسه وكان يعدل بينهم حتى في النظر إليهم . ‏
ولأن الدليل على صحة ما نقول لا ينتهي القول فيه فحسبنا الإشارة إلى بعض أقواله التي قالها صلى الله عليه وسلم لبعض صحابته وعنهم ، بما يمكن معه الاستدلال على مدى اتساع قلبه وحبه لهم




بعض قوله عنهم جميعا

- عن ‏ ‏أنس قال أن ‏ ‏رأى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم الصبيان والنساء مقبلين ‏- من ‏ ‏عرس – ( شك الراوي )‏ ‏فقام النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ممثلا فقال ‏ ‏اللهم أنتم من أحب الناس إلي ‏ ‏( يعني ‏ ‏الأنصار‏ )
- عن عبد الله بن مغفل المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل ومن آذى الله يوشك أن يأخذه
- قال صلى الله عليه وسلم " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب ولكل نبي حواري وحواري طلحة والزبير وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسول الله ولكل نبي صاحب سر وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان فيمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك
- وفي حجة الوداع صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك ، يا أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين فاعرفوا لهم ذلك



بعض أقواله عن بعضهم فرادى

- عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك
- عثمان بن عفان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عثمان رجل حيي
- علي بن أبي طالب : عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي" أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي "
- الزبير بن العوام : قال صلى الله عليه وسلم لكل نبي حواري وإن حورايي الزبير وابن عمتي
- أبو عبيدة الجراح : عن حذيفة قال جاء العاقب والسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا أرسل معنا رجلا أمينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأرسل معكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين قال فجثا لها أصحاب النبي على الركب قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح
- سعد بن أبي وقاص:عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعدا يقول جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد
- سعد بن معاذ : عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لقد اهتز عرش الله عز وجل لموت سعد بن معاذ
- أسامة بن زيد : عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يصبها علي أعرف أنه يدعو لي
- عبد الله بن مسعود : عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة بن أم عبد
- عبد الله بن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم له اللهم فقهه الدين وعلمه التأويل
- عمار بن ياسر : عن هانئ بن هانئ عن علي قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عمار فاستأذن فقال ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب
- بلال بن رباح : قال صلى الله عليه وسلم يا بلال أني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي فبم سبقتني إليها قال ما أحدثت إلا توضأت فصليت ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم بهذا
- عمرو بن العاص : قال طلحة بن عبيد الله لا أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أني سمعته يقول إن عمرو بن العاص من صالح قريش
- معاوية بن أبي سفيان : عن العرباض بن سارية السلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب "
- جعفر بن أبي طالب " دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفرا يطير مع الملائكة "
- عكاشة بن محصن " منا خير فارس في العرب "
- حارثة بن سراقة " عبد نور الله الإيمان في قلبه "
- أبو طلحة الأنصاري " لا يصيبك السوء يا أبو أيوب "
- سلمان الفارسي " سلمان منا آل البيت "
- عثمان بن مظعون " إن ابن مظعون لحيي ستير "
- معاذ بن جبل " يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا مليء بساتين "
- البراء بن عازب " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره "
- عكرمة بن أبي جهل " اللهم اغفر له كل عداوة عدانيها وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد به إطفاء نورك . واغفر له ما نال مني في وجهي وأنا غائب "
- أبو سلمة " اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين.
- أبو موسى الأشعري " اللهم أغفر لعبد الله وأجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك
- عروة بن مسعود " إن مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه "
- أبو سفيان بن حرب " من دخل دار أبو سفيان فهو آمن "
- جلبيبا " كان رسول الله في إحدى غزواته فسأل صحابته هل تفقدون أحد ؟ قالوا نعم فلان وفلان وفلان . وأعاد عليهم السؤال ثلاثا فأجابوا بذات الجواب فقال ولكني أفقد جلبيبا . فلما وجدوه في القتلى قال " لقد قتل سبعة ثم قتلوه إنه مني وأنا منه "

ومن هذا المنطلق أقول ليس حبهم له صلى الله عليه وسلم هو المعجزة ، لأنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدير بكل هذا الحب ، ولكن حبه هو صلى الله عليه وسلم لهم جميعا هو ذاك المعجزة