الحرية في الإسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحرية شعار برّاق، وكلمة رنّانة، تعشقها النفوس، وترتاح لها القلوب، وتستلذّها الأسماع..
ولقد كثر في هذا الزمن الحديث عن الحرية:
حريّة الرأي وحرية التعبير وحرية الاختيار وحرية المعتقد، وذ م الاستعباد...الخ،
وربط ذلك بما يسمّى بحقوق الإنسان.
فقد جاء الإسلام ليرفع من كرامة الإنسان من حيث هو إنسان فكرمه بالعقل وكفل له الرزق والطيبات، وحقق له أفضلية على كثير من المخلوقات، يقول الله تعالى:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)سورة الاسراء 70
ووضع الإسلام الأسس التي تكفل التخلص من نظام الرق، وأبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان،
فلا عبودية إلا لله الفرد الصمد (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )سورة المؤمنون 52
وأعلن أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى، قال تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)سورة الحجرات13
و قال تعالى أيضاً:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)سورة النساء1 .
وفي كل أولئك تقرير لوحدة الأصل مما يقتضي عدم التمايز بالجنس أو الطبقة.
الناس يولدون في الأصل أحراراً، فلا يجوز استعبادهم ولا استرقاقهم بأي وجه من الوجوه وهذا ما قرّره الخليفة الراشد ي فاروق الأمّة عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه لمّا اشتكى إليه قبطي ضربه ابن والي مصر، فقال قولته المشهورة:
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً ".
إن فوضى الحرية، سواءً الشخصية أو العامة، فضلاً عن تقييدها، يُعد منافياً للإنسانية عامة.
فتكريم الإنسان مرتبط بوضع ضوابط على تصرفاته، وبالتزامه بتلك الضوابط، حيث "لا ضرر ولا ضرار".
فحرية الإنسان تتأكد حين يُدرك تكريم الله:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…}،
حيث الضوابط لا القيود ولا الفوضى، وإلتزامه بذلك خشية العاقبة، قال تعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}سورة المؤمنون115،
و قوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}سورة القيامة36.
فحرية التدين والعبادة مرتبطة بضوابطها، فلا يعبد إلا الله وفق ما شرع.
والالتزام بضوابط الحرية يعني أداء الأمانة وتحقيق المسؤولية، فالفوضى في التصرفات تتنافى مع أداء الأمانة؛ فحين يشعر الإنسان أنه حر في نفسه، في ماله، في تصرفاته، يفعل ما يشاء بما يشاء، فلا حسيب ولا رقيب، فأين الأمانة والمسؤولية؟!وقد بينَ عليه الصلاة والسلام الحرية بقوله:
إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى :
إذا لم تستح فاصنع ما شئت .صحيح البخاري . وقوله: "إِذا لَم تَستَحْيِ" يحتمل معنيين: المعنى الأول:
إذا لم تكن ذا حياء صنعت ما تشاء، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل، فهنا المعنى عائد على الفاعل.
المعنى الثاني:
إذا كان الفعل لا يُستَحَيى منه فاصنعه ولا تبالِ.
والمعنى: لا تترك شيئاً إذا كان لا يُستَحيى منه.
وهنا المعنى عائد على الفعل.
وقوله: "فاصنَع مَا شِئت" أي افعل، والأمر هنا للإباحة على المعنى الثاني، أي إذا كان الفعل مما لا يستحيى منه فلا حرج ،وهي للذم على المعنى الأول، أي أنك إذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت.
فالله يجازيك عليه كقوله: [ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ] فصلت 40. فمن علامة الإيمان الحياء .
والإسلام حرم الرق على مراحل فقد جعل التدرج أهم صفاته التشريعية والذين ينظرون في آيات القرآن الكريم لابد أن يلفت بصيرتهم أن المصطلح القرآني الذي تناول الرقيق هو مصطلح الرقبة وليس العبد وأن هذا المصطلح مقترن دائمًا في القرآن بالتحرير قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)سورة النساء92
وقال:(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)سورة المائدة89
وقال:(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا)سورة التحريم 3
وقال:(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ*)سورة البلد11-12-13.
كل هذه الآيات تجعل الحرية هي الأصل .
و شرع الإسلام للأرقاء حقوقًا، ورفع عن كاهلهم التكليف بما لا يطيقون حتى لقد أوشك أن يساويهم بسادتهم كل المساواة ،الأمر الذي جعل تحرير رقبة إسلامية لا يمثل خسارة مادية ذات بال،
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
للمملوكِ طعامُهُ وكِسْوَتُهُ . ولا يُكَلَّفُ من العملِ إلا ما يطيقُ .
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1662خلاصة حكم المحدث: صحيح.
بل لقد ذهب إلى حد التشريع لإلغاء كلمة "عبد" و "أمة"من مصطلحات الحياة الاجتماعية، فقال عليه الصلاة والسلام:
"لا يقل أحدكم عبدي وأَمَـتِي، وليقل فتاي وفتاتي". الراوي: - المحدث: الشوكاني - المصدر: فتح القدير - الصفحة أو الرقم: 1/673خلاصة حكم المحدث: صحيح.
ولا قيمة لحرية الفكر وحرية الاعتقاد والتدين ما لم يكن هناك حرية التعبير، فالفكر والاعتقاد من الأمور الخفية، والتعبير عنهما هو المظهر العملي التطبيقي للحرية في لونيها السابقين، وقد رفع الإسلام "الكلمة البانية"مقامًا عليًا، وسماها "الكلمة الطيبة، وهي تلك الكلمة الفاعلة الهادية التي تحمل العلم والحق والفضيلة والخير للناس قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[سورة إبراهيم:24 ـ 25].
كما ذ م القرآن "الكلمة الخبيثة"التي تكُب الناس في النار على وجوههم، قال تعالى:
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[سورة إبراهيم:26].
والكلمة الحرة لا يقيدها إلا ضوابط الخلق والنظام، وهي في الواقع ليست "قيودًا أو موانع، بل هي "معايير وضوابط" والمسلم مطالب على سبيل الإلزام أن يواجه الباطل والمنكر باللسان إن عجز عن المواجهة والتغيير باليد، فإذا ما قادته هذه المجابهة إلى الموت فهي الشهادة، بل أعلى مراتب الشهادة وأكرمها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله.الراوي: جابر بن عبد الله المحدث: الألباني .
قال عمر رضي الله عنه أحب من الدنيا ثلاث:
"أمر بالمعروف ولو كان سرا ونهي عن المنكر ولو كان جهرا وقول الحق ولو كان مرا".
اللهم ارزقنا حبك وحب من أحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك ،اللهم آمين .