فالقرأن العظيم هو كلام الله تعالى المعجز المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام
وقد عارض فى ذلك من طمس الله بصيرتهم وأعماهم عن نور الوحي والهداية
فكان منهم الصد والصدود والكفر والفسوق والعصيان لا الهدى والإيمان
ثم افتروا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
فقالوا شاعر .. وقالوا كاهن ... وقالوا مجنون
وقالوا إنما يعلمه بشر ... ولسان الذى يلحدون إليه أعجمى
والقرأن نزل بلسان عربيا مبين

و من الواضح الجلي المعروف لدى المطلعين على التاريخ الإسلامي، أن أهل مكة وقريش بالذات قاومت الدعوة الإسلامية الاولى ولم تعترف أول الأمر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
وأنكرت أنه رسول الله أو أن القرآن كتاب الله، فكان من جملة ما حصل بين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبين قريش وسائر المخافين له والمعاندين والمنكرين أن تحداهم بالقرآن بأن قال لهم كما اوحى الله إليه:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) [الاسراء: 88] فسكت المخالفون عن هذا التحدي وعجزوا عن كسره أو الاجابة عليه،
ثم تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى الله إليه: (ام يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود: 13] فسكتوا وعجزوا.
ثم تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى الله به إليه: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [يونس: 37، 38] (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) [البقرة: 23، 24].

وكانت نتيجة هذا التحدي المتكرر من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش وسائر المخالفين، أن عجز المخالفون عن كسر هذا التحدي أو عن محاولة كسره بل صمتوا صمت الجدار وراحوا يسلكون سبلاً أخرى تقوم على الكذب والافتراء واستعمال الصد عن سبيل الله بالقوة والارهاب

تحدي القرآن للمخالفين

ان التحدي إذا ما نجح بعجز من وجه اليهم عن الاجابة عليه، فانه يدل دلالة واضحة على صدق المتحدي وصدق ما يدعيه لنفسه كما يدل على بطلان دعوى من وجه اليهم هذا التحدي. ولكن هذه الدلالة لا تتم إلا إذا كان التحدي مستجمعاً الشروط اللازمة له التي تؤدي إلى هذه الدلالة أو هذه النتيجة.

فهل توفرت شروط تحدي القرآن لقريش الذي جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وقبل الاجابة على هذا السؤال نتساءل ما هي شروط التحدي؟

ان هذه الشروط هي:

أولاً: أن يكون موضوع التحدي داخلا في قدرة من وجه اليهم بل ويكون داخلا في اختصاصهم ومما هم بارعون فيه ومتفوقون فيه ومشهورون فيه،

كما لو وجه مصارع تحديه إلى المصارعين بأنه هو البطل الوحيد في المصارعة ومن يشك في ذلك فليتقدم إلى مصارعته، فموضوع التحدي هنا "مصارعة" والمصارعة داخلة في اختصاص من وجه اليهم هذا التحدي وهم المصارعون.


ثانياً: أن يكون من وجه اليهم راغبين كل الرغبة، حريصين كل الحرص على إبطال دعوى المتحدي والإجابة على تحديه.

فلا يكفي توفر الشرط الأول لقيام التحدي السليم الموصل إلى نتيجة، فقد يكون من وجه اليهم غير راغبين ولا حريصين على إبطال دعوى المتحدي وبالتالي يسكتون ولا يجيبون. فلا يدل سكوتهم على عجزهم وبالتالي لا يدل على صدق دعوى المتحدي. كما لو كان بين المتصارعين من هو قادر على كسر تحدي المصارع المتحدي ولكنه لا يرغب في ذلك لانه ابن للمتحدي أو أخوه أو صديقه أو أن المتحدي يعتبر تافهاً في نظر من تحداهم لا يستحق حتى الإجابة على تحديه.


ثالثاً: والشرط الثالث للمتحدي أن لا يوجد مانع من وجه إليهم التحدي من الإجابة عليه. وأقصد هنا مانع الخوف من المتحدي، الخوف من بطشه وقوته وقدرته على إلحاق الأذى بهم،

فلا يكفي إذن توفر الشرطين السابقين لقيام التحدي الصحيح إذا لم يتوفر هذا الشرط الثالث، فلو تحدى شخص منازعيه ومخالفيه بأنه هو الوحيد الذي يحوز ثقة الشعب، وأن الشعب لا يختار غيره ولا يرضى بغيره بديلا برئاسة الدولة، وهو يتحدى كل من لا يؤمن بهذا القول أن يرشح نفسه في الانتخابات الجارية لانتخاب الرئيس، فإذا سكت الآخرون عن تحديه ولم يرشح أحد نفسه خوفاً من بطشه وسلطانه وقوته لأن بيده الأمر والنهي والحكم، فإن هذا السكون لا يدل على صحة ما ادعاه المتحدي لنفسه.

هذه هي الشروط الضرورية لاعتبار التحدي قائماً فعلاً ومؤدياً الى نتيجته، فهل هذه الشروط متوفرة في تحدي القرآن العلني للمشركين المعلن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟


تحقق شروط تحدي القرآن للمخالفين

- ان شروط التحدي التي ذكرناها كلها موجودة في تحدي القرآن للمخالفين. وبيان ذلك ما يأتي:

أولاً: فيما يخص الشرط الأول، وهو أن يكون موضوع التحدي داخلاً في اختصاص من وجه إليهم التحدي، فمن المعروف أن قريشاً وسائر العرب اشتهروا بالبلاغة والفصاحة والمعرفة باللسان العربي، وبرزوا في ذلك خطابة ونثراً وشعراً وتذوقاً، حتى إنهم كانوا يعقدون المواسم الأدبية لتخير أحسن الشعر. ومن المعلوم أيضاً أن القرآن الكريم أنزله الله بلغة العرب وبلسانهم، فاذا تحداهم به وقال لهم: إن كنتم في شك من أن هذا القرآن هو كلام الله المنزل على رسول محمد صلى الله عليه وسلم، فأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، فإنما يتحداهم بشيء داخل في اختصاصهم وداخل فيما هم فيه بارعون، فيكون هذا الشرط متحققاً في تحدي القرآن للمخالفين.

ثانياً: فيما يخص الشرط الثاني، وهو وجود الرغبة والحرص عند المخالفين من قريش وغيرهم على ابطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واثبات ادعائهم بأنه ليس رسولاً لله، فهذا الشرط موجود، ويعرفه صغار المطلعين على التاريخ الإسلامي، فمن الواضح أن قريشاً لم ترض بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولت محاولات شتى لإبطال هذه الدعوة، سلكت سبيل الترغيب بأن عرضت على أبي طالب أن يمنع ابن أخيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الاستمرار في دعوته، وهم مقابل ذلك يعطونه من الأموال ما يجعله أغناهم، ويجعلونه رئيساً عليهم فيكون هو صاحب السلطان، أو يعرضونه على أهل المعرفة بالأمراض النفسية إن كان ما جاء به شيئاً اعتراه يحتاج الى تطبيب وعلاج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه بعد أن أبلغه رغبة قريش " والله يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه..." أو كما قال رسول الله صلى الهل عليه وسلم."والحديث فيه كلام لأهل العلم"

ثم سلكوا سبيل التهديد والإيذاء والمقاطعة الاقتصادية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه وسبيل الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم ورميه بما هو براء منه كقولهم: إنه مجنون أو ساحر أو مفتر، وقد بلغ الأذى به وبالمسلمين أن عذبت قريش بعض المسلمين تعذيباً بدنياً ماتوا فيه، كما هاجر بعض المسلمين الى الحبشة مرتين فراراً من هذا العذاب والأذى الشديد. وهذا كله يدل دلالة واضحة على الرغبة الكاملة والحرص الأكيد لدى قريش على ابطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.


الشرط الثالث: وهو عدم وجود مانع من الإجابة وكسر التحدي. وهذا الشرط موجود في تحدي القرآن، فمن المعلوم عند صغار المتعلمين لاخبار التاريخ الإسلامي، أن السلطان والقوة والنفوذ كل ذلك كان بيد المشركين في مكة، أما المسلمون ورسولهم صلى الله عليه وسلم فما كان لهم من ذلك شيء. فقد كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا سلطان، حتى إن بعضهم هاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم كما قلنا، وحتى إن المسلمين هاجروا الى المدينة في آخر الأمر كما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم. كل ذلك يدل على أنه لم يكن هناك مانع يمنع قريشاً من الاجابة على التحدي وكسره واثبات ما يزعمونه من أن القرآن ليس كلام الله وان محمداً ليس برسول الله لو كانوا يستطيعون ذلك.


نتيجة التحدي ودلالته


- وكانت نتيجة تحدي القرآن للمشركين عجزهم وسكوتهم كما أشرنا الى هذا من قبل، فاذا ثبت عجزهم، وتوفرت شروط التحدي، ثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه رسول الله وأن القرآن كتاب الله، وإذا ثبت ذلك وجب على الخلق الإيمان بنبوته واتباعه والانقياد إلى الشرع الذي جاء به من ربه والإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهذا هو المطلوب.

استمرار التحدي ودلالته

وتحدي القرآن للمخالفين ظل قائماً وموجهاً الى كل مرتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، ولا يزال هذا التحدي قائماً حتى الآن والى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
فما دلالة ذلك؟
دلالة ذلك واضحة وهي ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل القاطع والبرهان الساطع والحجة القائمة الموجودة بين أيدينا الآن التي لا يستطيع أي مكابر أن ينكرها أو يغالط فيها. وإذا عرفنا ان هذا الدليل ظل قائماً عبر القرون الطويلة منذ عهد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حتى الآن وأن الإسلام واجه مختلف الخصوم والمعاندين والكفار من أصحاب الأفكار الباطلة وأنهم بذلوا كل جهد مستطاع لديهم لطعن الإسلام والتشكيك فيه، والدس عليه وتلويث أفكاره وعقائده، ومع هذا لم يجرؤوا على إجابة تحديه وكسره، نقول: إذا عرفنا ذلك عرفنا قوة هذا الدليل دليل اعجاز القرآن على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته... إن دليلا ثبت صدقه مدة أربعة عشر قرناً لهو أعظم دليل يقام لاثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.


(أصول الدعوة )
للدكتور / عبد الكريم زيدان