تفسيرنا في هذه الليلة تفسير لقوله تعالى :
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{29} ))
من الفوائد :
أن الله ذكر لهؤلاء الآيات والعبر
فمما ذكر من العبر ما تقدم في الآية التي قبلها :
وهو أنه عز وجل بين أنه هو الذي أوجدهم من العدم وانه يتوفاهم وأنه يحييهم ثم مردهم إلى الله عز وجل
ولذلك قال عز وجل :
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21
ثم ثنى هنا بذكر علامة أخرى تدل على وجوده وأحقيته بأن يعبد جل وعلا
وهو خلقه للسموات والأرض
وهو جل وعلا إذا ذكر في كتابه علامة ذكر هذه العلامة تدل على قدرته جل وعلا وعلى وحدانيته
ولذلك قال عز وجل في آيات كثيرة :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }آل عمران190
(( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ))
(( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ))
(( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27}))
والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة
ولذا من وجد في قلبه قسوة وبعدا وانصرافا فعليه أن يتأمل في هذا الكون فلينظر إلى بديع صنع الله في هذه الصحارى وما اشتملت عليه من أودية وصخور ، وإلى السماء من عظيم صنعه من النجوم والسعة والأشكال والألوان
فهذا مما يزيد من محبته لله
وإذا أحب العبد ربه حرص على أن يطيعه وخاف غضبه وسخطه
ومن الفوائد :
أن هذه الآية المذكورة هنا ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )) تلتقي من حيث المعنى التام مع قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
إذاً :
خلقنا لعبادته وهوهنا ذكر انه خلق الأرض لنا
خلق الأرض لنا من أجل :
أن نلهو أن نلعب أن نعبث ؟
لا
خلق الأرض لنا وخلقنا لحكمة
هو جل وعلا خلق لنا ما في الأرض ليكون هذا المخلوق معينا لنا على عبادته عز وجل
ولذلك قال :
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ))
ومن الفوائد :
أن الأصل في الأشياء :
الإباحة
والدليل هنا :
إذاً :
هو ما خلق لنا هذه الأرض ، وما عليها يدل على أنه أباحه لنا إلا إذا دل الدليل على أنه محرم
وهذا يدل على رحمة الله عز وجل بالخلق
ولذلك :
في المعاملات :
ماذا قال تعالى ؟
((وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ))
فلم يرد عز وجل لنا عنتا ولامشقة ولا تعبا
لكن المشكل عند الناس :
أنهم ضيقوا على أنفسهم بأنفسهم :
لما تأتي مثلا إلى المعاملات :
المعاملات من حيث الأصل : حلال
لكن لماذا يحرم كثير منها مع أن الأصل في المعاملات الحل ؟
تصرفات الناس
لو أنهم أخذوا هذه المعاملة على الوجه الشرعي ما حرمت
فكونه عز وجل يخلق لنا ما في الأرض ويبيح لنا المعاملات إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمها
هذا يدل على أنه عز وجل أراد بنا اليسر
ولذلك في هذه السورة :
ماذا قال عز وجل ؟
((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ))
ومن هذا اليسر :
ما ذكر في هذه الآية
ومن الفوائد :
أن هناك آية تؤيد هذه الآية من حيث المعنى الذي ذكرته آنفا في الفائدة السابقة
وهي قوله تعالى :
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ }الجاثية13
(( منه )) :
تفضلا وكرما وامتنانا
فإذا كان هو المتفضل أفيجدر بعبد تفضل الله عليه أن يعبد غيره ؟
أو أن يقدم هوى نفسه عل طاعة ربه ؟
لا يجدر به
ومن الفوائد :
أنه في هذه الاية كما أن الأصل في الأشياء الإباحة
الأصل في الأشياء : الطهارة
مثال :
لو أتيت إلى سجاد متسخ به وسخ عظيم وشككت هل هو نجس أو طاهر
ماذا عساك أن تفعل ؟
نقول : صل
الأصل في الأشياء الطهارة
لو أنك أتيت إلى بقعة من البقع واستربت في أمرها وأردت أن تصلي
نقول : صل
فالأصل في الأشياء : الطهارة
كما أن الأصل في الأشياء :
الإباحة إلا إذا دل الدليل
لو أن الإنسان وجد على هذه الأرض دابة لم يأت الدليل الشرعي على تحريمها
أفيجوز له أن يأكلها ؟
نعم
ما رأيكم في الزرافة أيجوز أكلها أم لا ؟
لم يأت دليل من الشرع على أن الزرافة محرمة
وبالتالي فإن الأصل في الأشياء : الإباحة
السلحفاة :
جائز أكلها
إذاً :
هذه قاعدة :
" الأصل في الأشياء :
" الإباحة والطهارة إلا ما دل الدليل على تحريمه "
لو قال قائل :
وهي الفائدة التي تليها :
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ))
إذاً :
ما فائدة العقارب والحيات والصراصير والمؤذيات
ما فائدتها لنا ؟
هي محرمة
لم
لأن الله قال :
((يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ))
وقال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم :
((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ))
لكن هو خلق لنا كل ما على الأرض
ما على الأرض :
عقارب حيات صراصير أشياء مؤذية مقززة
مزعجة
إذاً :
هو خلق لنا كل ما في الأرض :
إما للانتفاع به
أو للاعتبار
فنحن ننتفع مثلا ببعض النباتات ببعض الدواب
لكن العقارب والحيات للاعتبار
نعتبر
فإن مثل هذه الأشياء المؤذية التي تراها قد تجد مثيلا لها ونظيرا لها في النار أعظم وأشد
وهذا يدعونا إلى ماذا ؟
يدعونا إلى أن الله عز وجل خلق لنا ما في الأرض جميعا فننتفع به فنستعين به على طاعة الله
ثم في المقابل ما ليس بمحمود لنا ولا بمرغوب عندنا كالعقارب والحيات أيضا هي عندنا محل اعتبار وتذكرة وعظة لك بحيث لا تحيد عن هذا الطريق
ما هوالطريق
عبادة الله عز وجل
ومن الفوائد :
أن هذه الآية دليل على أنه عز وجل خلق الأرض والسموات
لكن في كم يوم ؟
في ستة أيام
(( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))
في ستة أيام
ابتداؤها :
يوم الأحد
ما الدليل ؟
ما الدليل على أن ابتداء الله لخلق السموات والأرض أنه يوم الأحد ؟
الدليل :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن آدم أتم الله الخلق به يوم الجمعة
فلما نحسب ستة أيام تكون البداية من يوم الأحد
لو قال قائل :
هو عز وجل قادر على أن يقول لهما كونا فتكونا
فلماذا في ستة أيام ؟
قال القرطبي :
" من أجل أن يعلم عباده التأني والترفق والتثبت "
هو قادر على أن يخلقهما بكلمة " كن " لكن أراد بذلك جل وعلا أن يعلم عباده أن يتثبتوا وأن يتأنوا وأن يترفقوا
فالرفق لا يكون في شيء إلا زانه و لا ينزع من شيء إلا شانه "
ومن الفوائد :
أنه ورد عند مسلم :
أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((خلق الله التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس
وخلق آدم يوم الجمعة ))
كم يوم ؟
سبعة
والله جل وعلا يقول (( في ستة أيام ))
فكيف الجواب ؟
الجواب :
أن كثيرا من أهل العلم يرون أن هذا الحديث خطأ ، وإنما رواه أبو هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويرى الألباني صحة الحديث ويقول :
هذه الأيام تختلف عن الأيام الستة المذكورة في كلام الله
بدليل :
أن هذه الأيام تتعلق بالأرض :
((خلق الله التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء وبث الدواب يوم الخميس
وخلق آدم يوم الجمعة ))
ومن الفوائد :
أن هذه الآية دليل على أن الله خلق الأرض قبل السماء ؟
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ))
دل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء
كم المدة ؟
في ستة أيام
كم جلس في خلق الأرض من يوم وكم جلس جلا وعلا في خلق السموات من يوم ؟
اقرأ سورة فصلت :
((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ{9} ))
هذا الآن خلق الأرض
كم يوم ؟
في يومين
ثم ماذا قال عز وجل ؟
((وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ{10} ))
يعني :
أربعة أيام باليومين السابقين
يعني : هو خلق عز وجل الأرض في يومين
ثم ما عليها وما فيها من الأٌقوات في يومين
((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ))
إذاً :
هو خلق عز وجل الأرض في يومين وما فيها من الأقوات في يومين
وخلق السموات في يومين
لكن بعض الناس قد يقرأ ما قاله الله في آخر سورة النازعات
(( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27} ))
أول ما ذكر السماء وقلنا أول ما خلق الله : الأرض

((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا{28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30}))
كأن الأرض خلقت بعد السماء
و لا تعارض :
أول ما خلق الله الأرض في يومين فتركها على حالها
ثم خلق بعد ذلك السماء في يومين
ثم بعد ذلك في يومين دحا الأرض بأقواتها وبما فيها
ولذلك قال :
((وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30}))
ما معنى دحاها ؟
اقرأ ما بعدها :
((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا{31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا{32} مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ{33} ))