ولا تيئسوا من روح الله

محمد إقبال النائطي الندوي

إنَّ اليأس داءٌ عضال، ومرَض عقام، إذا حلَّ بالفرد أو المجتمع أقعدَه عن الجِدِّ والعمل، ورماه بالخَرس
والطرش، والصَّمم والشلل، وهوى به في هوة الذلِّ والهوان، وذهب به مذهب الخمول والصَّغار، وهو
أدوَأُ الأدواء، لا ينجع مع وجودِه دواء، وناهيك أنَّ القرآن جمعه مع الكفر في قرَن، وجعلَه مع الضَّلال
في كفَن:

﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]،

﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]؟


وحبَّب الله إلى عباده المؤمنين الرَّجاء، وكرَّهَ إليهم اليأسَ والقنوط:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218].


لقد أتى على الأنبياءِ والمرسلين من المِحَن والبلايا ما لو نزلَتْ بالجبال لهدَّها هدًّا، ولكن لم يتسلَّل إليهم
اليأس، ولم يتطرَّقْ إليهم القُنوط، بل ثبَتوا ثبوت الجبال الرَّاسيات، وأتَوْا بالعجائب والمعجزات، وكان
رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتفاءل ولا يتطيَّر، وكان يحبُّ الاسم الحسَن، ويقول - صلَّى الله عليه
وسلَّم -:

((إنَّما الأمل رحمة من الله على أمَّتِي، ولولا الأمل ما أرضعَتْ أمُّ ولَدٍ ولدًا، ولا غرس غارِسٌ شجرًا)).


إن جاثوم اليأس إذا جثمَ على صدر الفرد، ضيَّق عليه نفْسَه، وشوَّش ذِهنَه، وأفسد أمره، ولا يهدأ له
بالٌ ولا يقَرُّ له قرار؛ يقول الصحابيُّ الجليل عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أكبَرُ الكبائر
الإشراكُ بالله، والأَمْن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله"، ويقول علماء
النفس: إنَّ المجتمعات إذا ساد أفرادها روحُ التَّفاؤل والرجاء، فإنَّها تكون أقوى بُنيانًا، وأكثرَ إنتاجًا،
وأقدرَ على مواجهة الأحداث والنَّوازل.

الرَّجاء من صفات المؤمنين، وهي تبعث صاحِبَها على الجِدِّ والعمل، وتأبى عليه الجمودَ والكسَل.

يقول العلاَّمة السيد قطب - رحمه الله - في تفسير قول الله - عزَّ وجلَّ -:

﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]:

فأمَّا المؤمنون الموصولة قلوبُهم بالله النديَّة أرواحهم بروحه، الشَّاعرون بنفحاته المحيية الرخيَّة، فإنَّهم
لا يَيْئسون من روح الله، ولو أحاط بهم الكَرْب، واشتدَّ بهم الضيق، وإنَّ المؤمن لفي روحٍ من إيمانه،
وفي أنسٍ مِن صلته بربِّه، وفي طُمَأنينة مِن ثقته بمولاه وهو في مضايق الشدَّة، ومخانق الكروب.

فمن واجب العلماء والدُّعاة اليومَ أن يُشِيعوا بين المسلمين الأملَ في النَّجاح، وأن يُزيلوا ما حلَّ بهم من
اليأس، وأن يكونوا على استعدادٍ كامل، وأهبةٍ دائمة لصدِّ مَن هاجمهم، وطَرْدِ مَن احتلَّهم أو استعمرَهم،
فلا حياة مع الظُّلم، ولا سعادة مع اليأس.

قيل لبزرجمهر: ما الذي يشدِّد البلاءَ على الناس؟ فقال: القنوطُ والاستبسال، قيل: فما الذي يُهوِّنُه عليهم؟
قال: الرَّجاء وحُسْن الظن.

وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يربِّي أصحابه على الاستبشار وحُسْن الظنِّ بالله، ويُعلِّمُهم حُسنَ
الرَّجاء، ومن الخير أن يعيش المسلمُ كلَّ حياته متعلِّقًا بالرَّجاء، ولا يتمكن منه سوءُ الظَّن بالله، واليأس
من روحه، والقنوط من رحمته، بل يلجأ دومًا إلى الله؛ يرجو رحمته ونصره، بعد أن يعدَّ عُدَّتَه، ويأخذ
أهبته، يقول الحُكَماء: لا ينقطع رجاءُ المرء ما لم تنقطع حياتُه، وقالوا: أعظم المصائب انقطاعُ الرَّجاء.


وإنَّها لتزفُّ إلينا البشرى بأنَّ المسلم ستتَّسِع له آفاقُه في بلاده، وأنَّه سيعيش حرًّا في دينه وعقيدته،
ويتمتَّع بحقِّه في التعبير، وبحقِّه في المشاركة، وبحقِّه في الحُرِّية والإنسانيَّة، كأحسَنِ ما يكون.

لقد أخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الوضع الراهن منذ أربعةَ عشر قرنًا؛ أخرج الإمام أحمدُ -
رحمه الله - بسندٍ صحيح عن عبدالله بن حوالة قال: وضعَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يده على
رأسي أو هامتي، فقال: ((يا ابن حوالة، إذا رأيتَ الخلافة قد نزلَت الأرض المقدَّسَة، فقد دنت الزَّلازل
والبلابل والأمورُ العظام، والساعة يومئذٍ أقربُ إلى الناس من يدي هذه من رأسك)).

وأبشِرْ أيُّها المسلم بأنَّ دولة الظلم ستَؤُول إلى الزَّوال والتَّبار؛

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف: 139]،

يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "إنَّ الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم
الدَّولة الظالمة وإن كانت مسلمة"، وقال بعض العلماء: مَن دعا لِظالِمٍ بالبقاء، فقد أحبَّ أن يُعصى
الله في أرضه، ومَن طال عُدوانُه، زال سلطانه.

لقد وعد الله المؤمنين الصادقين بالنَّصر والتمكين في الأرض؛

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]،

ويقول - عزَّ وجلَّ -:

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]،

وصلَّى الله على نبيِّه محمَّد، وعلى آله وصحبه وباركَ وسلَّم.

المصدر: الألوكة
(بتصرف يسير)