رد شبهة : نبيٌّ يقول : ( الحبةُ السوداء شفاء من كلِ داء ) !
تهكم أحدُهم في أحدِ منتديات الحوار على حديثِ النَّبِيِّ rالذي جاء في صحيحِ البخاري كِتَاب( الطِّبِّ ) بَاب( الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ) برقم 5256 عن أبي هريرة سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ :" فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ.
أخذ هذا المعترض يتقول على المسلمين ما لم يقولوه ، وأخذ يعدد الأمراضَ مستهزأً مستفسرًا هل تنفع حبة البركة مع السرطان ، السكر ، الكبد الوبائي .... ؟!
الرد على الشبهة
أولاً : إن المعترضين يجهلون تمامًا أن الأطباء يقولون بفوائدِ الحبةِ السوداء وبعناصرِها المفيدة التي تقوي جسم الإنسان لاسيما الجهاز المناعي (جهاز المناعة) الذي إذا سلم من الأمراضِ سلم الجسدُ كله منها. فمرض الإيدز يقتل صاحبه ؛ لأنه مرض يدمر جهاز المناعة الذي يدمر الجسدَ بأكمله .
ثم إن هذه الشبهة لم نكن نسمع عنها إلا في أيامنا هذه من بعض المعترضين كهذا المعترض ؛ فالحبة السوداء يستعملها ملايين البشر منذ القدم عرب وعجم ، الأطباءُ والباحثون، ويصفون لنا نتائجها الفاعلة ، وينصحون بها ؛ بل أن هناك أدوية وفيتامينات في الصيدليات مصنوعة من الحبة السواء يقبل الأطباء على وصفها ، والناس على شرائها...
وعليه فلا مجال للاستهزاء من أحدٍ للطعن فيه (الحديث) ؛ فهذا الحديث فيه إعجاز تلقاه الناسُ منذ أن خرج من فم النبيِّ (علماء وعوام ) بكل سعة وترحاب.
ثانيًا : إن معنى قولِه r : " فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ ".هو أن (الحبة السوداء ) تشفي من كل الأمراضَ التي تقبل الشفاء بها ، فكلمة ( كل) لا تفيد مطلق العموم في كلِّ الأحوالِ ؛يتضح ذلك من كلام الدكتور محمد بكر إسماعيل أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالأزهر - حفظه اللهُ - حينما سُئل هذا السؤال:
ظهرتْ في هذه الأيام مَقولة تُفيدُ أن الحبَّةَ السوداء شِفاءٌ مِن كل داء، ونُسبت هذه المقولة إلىِ رسول الله r وقيل : إنها في صحيح البخاريِّ. وزعم كثيرٌ من الناس أن هذه الحبة السوداء هي حبَّة البَرَكة، وأنها تَحتوي على أدوية كثيرة تُفيد في علاج أمراض كثيرة لا تَكاد تَنحصر، حتى قيل: إنها علاجٌ لكل مرض إلا السامُ، وهو الموت. وأنا على حدِّ علمي أفهمُ أن الحبة السوداء ـ أو حبة البركة كما يقولون ـ مُفيدة في بعض الأمراض دون بعض ، وهذا ما دَرسناه في بعض كتب الطب القديم ، فعلى أيِّ وجهٍ يُحمَل هذا الحديث لو كان صحيحًا؟ وماذا نقول لهؤلاء الذين يُروِّجونَ لهذا النوع من الحبوب من أجل أن يَحصلوا على أرباح طائلةٍ مِن وراء ذلك؟
أجاب الدكتور- حفظه اللهُ -
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسولِ اللهِ ، وبعد
فنقول للسائل إن قول النَّبِيِّ r: "شفاء من كل داء " ليس معناه كل الأمراض ؛ لأن كل في اللغة لا تفيد مطلق العموم وإنما معنى هذا أنها شفاء لكل الأمراض التي تقبل الشفاء بها ، ويُفصل - حفظه الله - قائلا: رَوى البخاريُّ في صحيحه عن خالد بن سعد قال: خرجنا ومعنا غالبُ بن أبجَرَ، فمرِض في الطريق، فقَدِمنا المدينةَ وهو مريضٌ، فعاده ابن أبي عَتيق فقال لنا : عليكم بهذه الحُبَيْبَة السويداء، فخُذوا منها خمسًا أو سبعًا، فاسحقُوها، ثم اقْطُرُوها في أنفِهِ بقَطراتِ زيتٍ في هذا الجانب وهذا الجانب، فإن عائشةَ - رضي الله عنها- حدَّثتْني أنها سمعتِ النبيَّ r يقول: "إن الحبةَ السوداءَ شفاءٌ مِن كل داءٍ إلا مِن السام " . قلت: " وما السامُ "؟ قال : " الموت" .
وفي رواية أخرى للبخاريِّ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله r يقول:" في الحبة السوداءِ شفاءٌ مِن كل داء إلا السام " والحبة السوداء يُسميها بعض العلماء بالكَمُّونِ الأسود أو الكمُّون الهنديِّ كما ذكر ابن حجر في شرح هذَينِ الحديثَينِ.
وقد رأيت في المعجم الوسيط أنها حبة البرَكة، وتُسمَّى بالحبة المُبارَكة، وتُسمى في بعض البلاد بالشُّونِيزِ، وزَيتها يُسمَّى زيت حبة البركة، وهذا ما أقرَّه مَجمع اللغة
ولا يَنبغي أن يُؤخذ قوله r : "شفاء مِن كل داء " على عُمومه؛ فإنه مِن قَبيل العامِّ المَخصوص، كما يقول علماء الحديث والأصول والطب . والمعنى : هي شفاء من كل داء يَقبل العلاج بها. فهي كما قال ابنُ حجرٍ: " إنما تَنفع في الأمراضِ الباردة " وهي أمراض يَعرفها الأطباء ويُشخِّصونها.
وهي تُستخدم وحدها أحيانًا، وتُستخدم مَخلوطة بالعسل وغيره أحيانًا. ولها فوائدُ كثيرةٌ ذكَرها داود الإنطاكيُّ في كتاب " التذكرة " ذكرها في "الشونيز" وهو ما يُسمَّى بالحبة السوداء.
واعلمْ يا أخي أن العُموم لا يَبقَى على عُمومه دائمًا ، بل يُخصَّص في كثير من الأحكام والأخبار بحسب القرائن والأحوال.
واعلمْ أن الأدواء عند العرب كانت مَحدودة، وقول الرسول r :"الحبة السوداء شفاء من كل داء" أي : مِن أكثر الأدواء المَعروفة عندهم . ولفْظُ " كل " لا يُفيد العموم المُطلق كما يَتوهَّم كثيرٌ من الناس، فقد جاء في القرآن الكريم عن الريح التي أرسَلها الله على قوم عاد أنها دمَّرت كلَّ شيء مع أنها لم تُدمِّر إلا الناس، اقرأْ قوله Iفي سورةِ الأحقاف : ] تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَساكنُهمْ [ ومعنى هذا أنها لم تُدمر المساكن ولكنها دمَّرت الأشخاص ، بدليل قوله في آيةٍ أخرى من سورة القمر: ]تَنْزِعُ الناسَ كأنَّهمْ أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ[. وقوله I في سورةِ الحاقَّة : ]سَخَّرَهَا عليهمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانيةَ أيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فيهَا صَرْعَى كأنَّهمْ أعجازُ نَخْلٍ خَاوِيةٍ. [
وجاء عن بَلْقِيسَ أنها أُوتِيَتْ مِن كلِّ شيءٍ، أيْ : أُوتِيَتْ مِن كلِّ ما تَحتاجُ إليهِ، قال I في سورة النمل : ]إنِّي وَجَدْتُ امرأةً تَمْلِكُهُمْ وأُوتِيَتْ مِن كلِّ شيءٍ ولهَا عَرْشٌ عَظيمٌ.[
وأنت تقول لصَديقك : الحمد لله أنا عندي كل شيء. فهل تَعني أن عندَك كل موجودٍ في الوجود؟ أم تعني أنك تملك الكثير ممَّا تَحتاج إليه وتَحمَد الله عليه راضيًا به ؟
أما قوله r : "إلا السام" فليس مِن باب الاستثناء المُتَّصِل؛ لأن السام ليس داءً، بل هو قطعٌ للأجل وإنهاء الحياة، ولكنه مِن باب الاستثناء المُنقطع، فهو بمعنى (لكن) كأنه قال: لكن الموت ليس له شفاءٌ، بيانًا لقولهI : ]فإذَا جاءَ أجَلُهمْ لا يَستأخِرُونَ ساعةً ولا يَسْتقْدِمُونَ. [ والاستثناء المتصل هو أن يكون ما بعد حرفِ الاستثناء من جِنْسِ المُستثنَى منه، مثل قولك: نجح التلاميذُ إلا تلميذًا. والاستثناء المُنقطع هو أن يكون المُستثنى من غير جنْس المُستثنى منه، مثل قولك: أقبلَ الناس إلا جمَلًا. فالجمل ليس من جنْس الناس، وعلى ذلك يكون المعنى: أقبل الناس، لكنّ جملاً لم يُقبل.
وقد ظهَر لنا من هذا البيان أن الحبَّة السوداء ليستْ شفاءً لكل داء على وجْه العموم، ولكنه من باب العموم المخصوص بقرينة الواقع المُشاهَد في عالم الطبِّ ، والواقع خيرُ دليلٍ على التخصيص، ولفْظُ (كلّ) لا يُفيد العموم المُطلَق كما عرفنا، ولكنه يُفيد الأكثريَّة ، بخلاف لفظ (جميع) فإنه يُفيد العموم المُطلَق غالبًا إذا لم يَرِدْ ما يُخصِّصه ؛ ولهذا أكَّد اللهُ سُجود الملائكة لآدم بلفظ "أجمعون" بعد لفظ "كلّ" فقال: ]فسَجَدَ الملائِكةُ كلُّهمْ أَجْمَعُونَ[ (ص73) فلو كان لفظ (كلّ) يُفيد العُموم المُطلق بنفسه ما كان هناك داعٍ للمُؤكِّد الآخر والله أعلم . أهـ

كتبه / اكرم حسن