وعيـد اللـه وعقوباته لليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية (4)






الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:


فقد ذكرنا في الحلقات السابقة، شيئا من وعيد الله تعالى، وعقوباته التي أنزلها باليهود، في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة؛ بسبب عصيانهم لربهم تعالى، وكفرهم بنعمه، ومخالفتهم رسله، وبغيهم وعدوانهم، وللكافرين والفاسقين أمثالها، وما ربك بظلام للعبيد.
وتحدثنا في الحلقة السابقة عن عقوبة المسخ التي حصلت لليهود، وأنه حقيقي، ونستكمل اليوم بقية الحديث عن ذلك:



ومما يدل على وقوع المسخ حقيقة:


ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، القردة والخنازير، هي مما مسخ الله؟ فقال النبي [: "إن الله عز وجل لم يهلك قوما، أو لم يعذب قوما، فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" رواه مسلم (4/ 2051).
فأقره [ على اعتقاده وقوع المسخ فيهم، وبين له أن الله لم يجعل للممسوخ نسلا، بل يموت بعد ثلاث.
وفي رواية لمسلم أيضا: وذكرت عنده القردة والخنازير من مسخ، فقال [: "إن الله لم يجعل لمسخ ٍ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك".
وقوله "قبل ذلك" أي: كانت مخلوقة قبل مسخ بني إسرائيل.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن أعرابيا سأل النبي [ عن أكل الضب، فقال رسول الله [: "إن الله تعالى غضب على سبط من بني إسرائيل، فمسخوا دواب، فلا أدري لعله بعضها، فلست بآكلها، ولا أنهى عنها" رواه مسلم (3/1546) وأحمد (3/62) واللفظ له.
ثم علم [ أنه ليس منها؛ لأن الممسوخ لا عقب له، فسمح بأكله على مائدته، لكن هو استقذره فلم يأكله.
وقد أخبر النبي [ أن سيكون في أمته مسخ كما حصل لبني إسرائيل، إذا هم عملوا ببعض المعاصي واستحلوا بعض المحرمات؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأشربة (10/51): من حديث أبي مالك أو أبي عامر الأشعري: أنه سمع النبي [ يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلّون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علَمٍ (أي: جبل عالٍ يروح عليهم بسارحةٍ لهم (أي: ماشية) يأتيهم - يعني الفقير - لحاجةٍ فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيّتهم الله، ويضع العلم (أي يوقعه عليهم)، ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة".
ففي هذا الحديث: يخبر النبي [ أنه سيكون أقوام من أمته يستحلّون الحِرَ، وهو الفرج، وهو كناية عن الزنا، والحرير والخمر والمعازف، وقوله "يستحلّون" صريحة في أنّ المذكورات ومنها "المعازف" هي في الشرع محرمة، فيستحلّها أولئك القوم لفسقهم.

ثم إن النبي [ قَرن المعازف بالمقطوع بحرمته، وهو الزنا والخمر، ولو لم تكن محرمة ما قرَنها معها، ثم أخبر عن أقوام من هؤلاء المستحلّين لهذه المحرمات أنهم ينزلون إلى (جنب عَلَم) وهو: الجبل العالي، وعندهم الراعي يسرح بمواشيهم، فيأتيهم الفقير ذو الحاجة فيقولون له: ارجع إلينا غداً ليعطوه «فيبيّتهم الله» أي: يهلكهم ليلاً، ويوقع الجبل ويدكّه عليهم، ويمسخ أقواما منهم قِرَدةً وخنازير، أعاذنا الله تعالى من ذلك والمسلمين.
وعن سهل بن سعد رضي الله قال: قالَ رسول الله [: "سيكون في آخر الزمان خَسف وقذف ومسخ" قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهرت المعازف والقيناتُ، واستحلّت الخمر".
أخرجه الطبراني في الكبير(5810) وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الأوسط كما في مجمع البحرين (4487) وفي الصغير (2/76).
وأخرجه أيضا الترمذي (2212) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح بشواهده.

وفي هذا الحديث أيضا: يخبر [ أنه سيكون في هذه الأمة "خسفًُ".
ومعنى الخسف: هو أن يغيب المكان في باطن الأرض.
و"وقذفُ" أي: رمي بالحجارة بقوة.
"ومسخ" أي: تحويل الصورة الإنسانية إلى ما هو قبيح كالقردة والخنازير.
ولما سئل: متى ذلك؟ قال: "إذا ظهرت المعازف" وهي: آلات الطرب وما يُعزف عليه.
و"القينات" هن الإماء المغنيات, واستحلت الخمر، أي: كثر شربها حتى أشبهت الأمر الحلال عند الناس.
7 – لعن الله عز وجل لهم:
أخبر تعالى عن هذه العقوبة التي أوقعها باليهود في آيات من كتابه، وذلك بسبب كفرهم، ووقوعهم في المعاصي والآثام، وتركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من سيئاتهم التي جلبت لهم خسارة الدنيا والآخرة؟ نعوذ بالله من حالهم !
ومن لعنه الله تعالى فلن تجد له من يتولاه أو يقوم بمصالحه، ولا من يحفظه عن المكاره، وهذا غاية الخذلان.
فمن الآيات التي صرحت بلعنهم، قوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} (المائدة: 78 – 81).
ففي هذه الآيات بيان لما حل بكفار بني إسرائيل من اللعنة، على لسان نبيين كريمين من الأنبياء وهما داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود. (الطبري 8 / 586).
وقال قتادة: لعنهم على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين، وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير. وكذا قال مجاهد وأبو مالك.
فهم إذاً أصحاب السبت، وأصحاب المائدة.
ثم ذكر الله تعالى السبب الموجب لذلك فقال {ذلك بما عصوا} أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله تعالى، {وكانوا يعتدون} أي: يتجاوزون حدوده.
ثم ذكر مخالفة أخرى لهم فقال: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر، ولا عن ارتكاب قبيح {لبئس ما كانوا يفعلون} وهذا قسم من الله تعالى ذكره، أي: أقسم لبئس الفعل كان فعلهم، مما سبق ذكره.
ثم قال: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} أي: ترى يا محمد كثيرا من اليهود {يتولون الذين كفروا} أي: يتولون المشركين من عبدة الأوثان، ويعادون أولياء الله ورسله!
{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم} أي: لبئس الشيء الذي قدمته لهم أنفسهم، أن غضب الله عليهم في الدنيا، وهم يوم القيامة في النار خالدون.
ولو كانوا موحدين مؤمنين حقا، مصدقين بما أنزل على محمد [ ما اتخذوهم أولياء وأنصارا من دون المؤمنين؛ إذ الإيمان بالله ورسوله وكتبه يمنع من تولي المشركين، ولكن كثيرا منهم خارجون عن طاعة الله، مستحلون لحرماته.
ومن الآيات أيضا: ما جاء في سورة النساء، في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} (النساء:51 - 52).
فبسبب حسدهم للمسلمين، والذي حملهم على ترك الإيمان والدخول في الإسلام، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، من عبادة غير الله تعالى، وتحكيم غير شرعه، لعنهم الله عز وجل وطردهم من رحمته، وأحل بهم نقمته.
ومن يلعنه الله، فلن تجد له وليا ولا نصيرا ولا حافظا.
ومن الآيات أيضا: قوله سبحانه: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم} (المائدة: 13).
فبسبب نقضهم للعهود عاقبهم الله بعدة عقوبات: أولها: لعنهم، أي: طردهم من رحمة الله تعالى وأبعادهم عنها، بما قدمت أيديهم؛ حيث أغلقوا هم على أنفسهم باب الرحمة، وقد سبق تفصيل القول في الآية في "صفة التحريف" عندهم.
ومن الآيات أيضا: قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة: 13).
أي: بسبب نقضهم للعهود والمواثيق، لعنهم الله تعالى، وضربهم بقسوة القلوب.
أما ما ورد من ذكر هذه العقوبة في السنة النبوية المطهرة، فنرجئه إلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.